حركة الترجمة من عهد المأمون إلى جابر عصفور
مما لا شك فيه أن الترجمة تقوم بدور كبير، فى نقل الثقافات المختلفة بين الحضارات، من لغة إلى أخرى؛ سواء بهدف التبادل أو الاطلاع على ثقافة الآخرين ومنجزاتهم أو الاقتداء بثقافات أخرى أو البداية من حيث انتهى الآخرون أو النقل والإضافة، بعد التنقيح والتعديل، كما أنها أداة فاعلة فى التواصل بين الشعوب، وفى عالم التطور الرقمى والتكنولوجى تسهم فى نقل الأخبار بسرعة فائقة، وربما فى نفس لحظة الخبر أو الحدث، وفى الناحية العلمية أو البحثية تساعد فى نقل المعلومات من مصادرها أو من مصادر مختلفة، كما أنها تقدم فى مجال السياحة فرصة للتعرف على الأماكن السياحية والعادات والتقاليد، فضلًا عن إمكانية توفير فرصة عمل، فى دولة من الدول أو الحصول على منح دراسية أو استكمال العملية التعليمية فى الخارج، بل يمكننا أن نقول إن الترجمة تسهم فى حفظ السلام العالمي، من خلال صياغة البروتوكولات ومذكرات التفاهم والتعاون بين الدول والمعاهدات بين الدول، وتقريب وجهات النظر بوجه عام؛ سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا ودينيًا، بل نستطيع أن نقول بأن مفهوم الأمية يجب ألا يقتصر على عدم معرفة القراءة والكتابة فقط، بل يجب أن يتسع ليشمل عدم معرفة اللغات الأخرى معرفة جمعية وليست فردية فقط؛ فالترجمة هى الطريق إلى العالمية، وسبيل مهم وضرورى لإثبات الذات وتحقيق الوجود الفعلى.
وأما فيما يتعلق بحركة الترجمة، فإن للخليفة العباسى المأمون دورًا كبيرًا ذكره التاريخ، فى الاهتمام بالترجمة، حتى عد عصره أزهى عصور بيت الحكمة، وإن كانت هناك جهود سابقة على جهوده؛ بدءًا من الخليفة العباسى هارون الرشيد ومن ولاه، لكننا سنتوقف عند دور الخليفة المأمون فى بيت الحكمة عام 830م، أو لنطلق عليه مركز أو مؤسسة أو أكاديمية بيت الحكمة، والتى تضم بين جنباتها خزائن الحكمة المختلفة، من فكر وعلم وثقافة، من مختلف الحضارات، والتى صارت مفخرة من مفاخر العصر الذهبي، فجذبت الألباب، وأبهرت العقول، وملكت الأفئدة، وهو شأن كل عمل قومي، يلتف حوله المتخصصون والمشتغلون فيه والمؤمنون بقيمته وأهميته، هذا فضلًا عن دعم ومساندة الخليفة المأمون لهذا المشروع الضخم، بل وتشجيع العاملين فيه وزيارتهم والاطلاع على ما يقدمونه ومناقشتهم فى إنتاجهم وأبحاثهم، فضلًا عن وجود فريق عمل منظم يعمل كخلية النحل، لا يكل ولا يمل، ويستمر فى البحث والتنقيب، فى خزائن الكتب؛ فصار بيت الحكمة مركزًا للبحث العلمى والترجمة والتأليف والنسخ والتجليد والقراءة، ولكن لكل شيء إذا ما تم نقصان، فبعد ازدهار كبير ونشاط علمى وثقافى غير مسبوق، يأتى الهجوم المنغولى 1258م؛ ليقضى على الأخضر واليابس، ومن ذلك خزائن بيت الحكمة، التى انتهت بإلقائها فى نهر دجلة.
ورغم هذه النهاية المأساوية، فإن الأمة سرعان ما تتعافى، وتعاود نشاطها، بعد كبوت مرت بها، حتى نرى حركة نشاط كبيرة، تعيدنا إلى العصر الذهبى للترجمة، على يد رفاعة رافع الطهطاوى «1801- 1873م»، الذى سافر إمامًا مع البعثة المصرية إلى فرنسا، وهناك اجتهد ودرس اللغة الفرنسية، وعاد بعد خمس سنوات 1831م، وقد اكتملت لديه أدواته فى الترجمة؛ فاشتغل فى الترجمة فى مدرسة الطب، ثم فكر فى إنشاء مدرسة الترجمة «الألسن فيما بعد»، وبدأ الاهتمام بالنشاط الثقافى والتعليمي، بين الترجمة والتدريس والإشراف والمتابعة والتجديد، فضلًا عن إنشاء أقسام خاصة باللغات، واستصدار قرار بتدريس المعارف والعلوم باللغة العربية، وكذلك إصدار جريدة الوقائع المصرية باللغة العربية بدلًا من اللغة التركية، فضلًا عن الترجمات التى تركها بجانب إشرافه على مشروعات الترجمة، ولكن دوام الحال من المحال، والدنيا لا يبقى لها على حال؛ فقد نفى إلى السودان عام 1850م، وحين عاد بعد النفى عاود نشاطه من جديد، بين الترجمة والإشراف حتى وافاته المنية سنة 1973م.
ولكن حركة الترجمة لا تتوققف، وتستمر، وتظهر الجهود الكبيرة التى قدمها عميد الأدب العربى طه حسين، فى الترجمة، بعد عودته من فرنسا عام 1919م؛ سواء ترجمة الكتب عن اليونانية مباشرة أو عن الفرنسية، فضلًا عن ظهور ترجمات أخرى للمشتغلين بالترجمة، فى مصر، إلى أن تبنى الدكتور جابر عصفور، وكل من آمن بأهمية الترجمة من المسؤئولين، فى ذلك الوقت، استكمال مشروع السابقين فى الترجمة، بصورة مؤسسية من بداية إنشاء المشروع القومى للترجمة، داخل المجلس الأعلى للثقافة، ثم الانتقال لإنشاء المركز القومى للترجمة «الموازى لبيت الحكمة»، داخل دار الأوبرا المصرية، برئاسته وإشرافه، حتى عام 2011م، وقد ذكر بأنه وقع العقد «3000»، قبل أن ينتقل إلى موقع ثقافى آخر، ولا شك أن هذه المرحلة التى نفذت تحت قيادته، كانت من أزهى عصور الترجمة المؤسسية حديثًا، سواء فى العقد الأخير من القرن العشرين أو العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، وهذا هو كلام الكثير من المترجمين المتخصصين بوصفهم شهودًا على هذه المرحلة؛ فقد نشرت ترجمات لا تزال تمثل مفخرة من مفاخر الترجمة بوجه عام، وللمركز القومى بوجه خاص، منها ترجمات المرحوم إبراهيم الدسوقى شتا لكتابين مهمين لجلال الدين الرومي؛ وهما: «مثنوى» بأجزائه الستة، و«مختارات من ديوان شمس الدين تبريزى»، وغيرهما الكثير، من إبداع كبار المترجمين فى الوطن العربي، صدرت عن المركز القومى للترجمة؛ فضلًا عن الندوات والمؤتمرات وتدريب المترجمين بمعاونة رواد الترجمة.
وعن الترجمة وأهميتها ودورها يقول الدكتور جابر عصفور: «والحق أننى لا أزال أؤمن بأن ازدهار حركة الترجمة علامة أساسية من علامات مجتمع المعرفة وحيويته، ولذلك يقاس تقدم الأمم وتخلفها بالمنحنى الصاعد والهابط لعمليات الترجمة وفاعلية مؤسساتها وأجهزتها. ولقد تخلفنا - نحن العرب- كثيرًا فى هذا المجال، وكانت النتيجة عدم اللحاق بقاطرة التقدم الإنسانى التى خلفتنا وراءها ومضت فى طريقها الصاعد الذى وصل إلى آفاق غير مسبوقة. ولا أدل على ذلك من أن نصيب كل مليون مواطن عربى، من الكتب المترجمة يصل إلى كتاب واحد تقريبًا، بينما يصل إلى مائتين وخمسين كتابًا لكل مليون مواطن فى إسبانيا. ولا أريد أن أمضى فى ذكر إحصاءات سلبية، معروفة، عن واقع الترجمة فى عالمنا العربى الذى لا يزال شحيحًا فى كل ما يتعلق بشؤئون الثقافة ومجالاتها، وعلى رأسها أنشطة الترجمة».
ودارت الأيام وتراجعت حركة الترجمة، والإحصاءات دليل على ذلك، بعد أن ترك الدكتور جابر عصفور المركز القومى للترجمة، وظل العمل يسير وفق ما وضعه من سياسات للمركز لبضع سنوات، خاصة أنه عضو فى مجلس أمناء المركز، ثم تبدلت الأحوال وتغيرت، بعد مرضه ثم وفافته، وفى الوقت نفسه بدأت تظهر دور نشر خاصة تتصدر المشهد الثقافى أو تقترب من الصدارة؛ سواء على مستوى العالم العربى أو المستوى المحلي، والدليل على ذلك الجوائز التى حصدتها دور النشر الخاصة فى مجال الترجمة.
ولا يزال الأمل معقودًا فى أن تعاود حركة الترجمة نشاطها بشكل مؤسسي، فى القطاعات الثقافية الحكومية؛ لتواكب متطلبات العصر الرقمى التكنولوجي؛ ولتستكمل مصر دوروها الريادى الثقافي، فى الارتقاء بأوضاع الترجمة على المستوى القومى، والارتقاء بالوعى العلمى عامة، ودعم الفروع المختلفة للبحث العلمي، ومواكبة الحركة العالمية المستمرة المتصاعدة فى التقدم العلمي، وتصبح الترجمة - بحق- هى قاطرة التقدم والنهضة الثقافية فى عالمنا العربي، سائرين- -فى الوقت ذاته- على درب رواد الترجمة فى العصر الحديث: رفاعة الطهطاوي، وطه حسين، وجابر عصفور.