كل رجال الرئيس مُنحازون لإسرائيل!
بعد وقت قصير من إعلان الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، عن ترشيحه مايك هاكابى، لمنصب السفير الأمريكى لدى إسرائيل، قال الحاكم الجمهورى السابق لولاية أركنساس، «لن أضع السياسة.. سأنفذ سياسة الرئيس»، لكنه أعطى إشارة إلى ما يتوقعه من هذه السياسة، مستشهدًا بقرار إدارة ترامب السابقة، بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بمرتفعات الجولان المحتلة كأرض إسرائيلية.. وهى قرارات رحب بها اليمين الإسرائيلى بحرارة، كما رفضها الفلسطينيون رفضًا قاطعًا.. حتى إن نتنياهو قال لمحطة إذاعية إسرائيلية، «لم يفعل أحد أكثر من ذلك.. وأنا والرئيس ترامب نتوقع تمامًا أن يستمر ذلك».. ومع أن النهج الذى سيتبعه ترامب فى التعامل مع الحرب بين إسرائيل وغزة لا يزال غير واضح.. لكن الجناح اليمينى فى السياسة الإسرائيلية رحب بتعيين الرئيس المنتخب لهاكابى، واعتبر ذلك بمثابة تنبؤ بفترة أخرى من السياسة الأمريكية المواتية للغاية، لأهدافهم القديمة المتمثلة فى الاحتفاظ بالأراضى فى الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات.
وقد استقبل وزيران من اليمين المتطرف فى حكومة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، هذا التعيين بفرح.. فعلى منصة التواصل الاجتماعى X، بعث وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، برسالة تهنئة إلى «صديق وفى ومخلص»، وكتب وزير الأمن القومى، إيتمار بن غفير «مايك هاكابى» مع رموز تعبيرية على شكل قلب.. إن لدى سموتريتش وبن غفير ما يبرر فرحتهما بتعيين هاكابى.. فقد كان من أشد المؤيدين لطموحات العديد من الإسرائيليين، فى التوسع إلى الأراضى التى قد تشكل جزءًا من أى دولة فلسطينية فى المستقبل.. وفى مؤتمر صحفى عقده عام 2017، بعد وقت قصير من مراسم وضع حجر الأساس فى إحدى أكبر المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية، قال هاكابى، «لا يوجد شىء اسمه مستوطنة.. إنها مجتمعات، إنها أحياء، إنها مدن».. وفى العام التالى، قال، «أعتقد أن إسرائيل لديها سند ملكية ليهودا والسامرة»، مستخدمًا الاسم الذى يستخدمه كثيرون فى إسرائيل للمنطقة التى أصبحت الضفة الغربية المحتلة، عندما احتلتها إسرائيل فى حرب عام 1967.
لقد أعلنت إدارة ترامب الأولى، عام 2019، عن أنها لا تعتبر المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية بموجب القانون الدولى، وهو ما يتناقض مع عقود من السياسة الأمريكية.. كما اعتُبرت قرارات أخرى، بما فى ذلك خطة السلام لعام 2020، التى أعطت الضوء الأخضر لضم المستوطنات الإسرائيلية، أكثر ملاءمة للمستوطنين من أى إدارة سابقة.. وهو ما جعل اليمين المتطرف الإسرائيلى يرى فى تعيين هاكابى إشارة، إلى أنه سيكون قادرًا على المضى قدمًا فى أجندته، بما فى ذلك ضم الضفة الغربية، خلال ولاية ترامب المقبلة.. وقال سموتريتش، إن عام 2025 سيكون «عام السيادة» فى الضفة الغربية، مضيفًا أنه أصدر تعليماته للسلطات الإسرائيلية بالبدء فى الأعمال التحضيرية لضم الأراضى المحتلة فى الضفة.. إن حدوث ذلك يشكل خوفًا حقيقيًا بالنسبة لمصطفى البرغوثى، السياسى الفلسطينى المخضرم المقيم فى الضفة الغربية، والذى يتزعم الحركة السياسية للمبادرة الوطنية الفلسطينية، والذى يقول، «يمكنك أن تتخيل رد فعل الدول القوية الأخرى فى العالم، عندما تصبح فكرة ضم الأراضى المحتلة التى تم الحصول عليها بالحرب قانونية ومقبولة.. لذا، فإن الأمر لا يتعلق فقط بالفلسطينيين ومعاناتنا، بل يتعلق بالنظام الدولى». ولكن ما إذا كان سموتريتش سوف يحقق رغبته، يبقى أمرًا غير واضح، وهو نفس ما يقوله تال شنايدر، المراسل السياسى فى صحيفة تايمز أوف إسرائيل، من إنه ليس من المؤكد أن السفير الأمريكى المؤيد للمستوطنين، سوف يؤدى إلى سياسات مؤيدة للمستوطنين فى واشنطن، «قبل أربع سنوات، كان بعض الأشخاص المحيطين بترامب مؤيدين بشدة للاستيطان وضم الأراضى، لكن الأمر لم ينجح على هذا النحو فى المرة الأخيرة.. وأتوقع أن الأمر لن ينجح على هذا النحو هذه المرة».
ولم يكن هاكابى المرشح الوحيد الذى أُعلن عنه فى إدارة ترامب الجديدة.. فقد أعلن الرئيس المنتخب أيضًا عن أن ستيف ويتكوف، سيشغل منصب مبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط.. وبالإضافة إلى كونه مُطورًا عقاريًا، فإن ويتكوف أيضًا صديق قديم لترامب فى رياضة الجولف، وكان الاثنان يلعبان معًا وقت محاولة الاغتيال الفاشلة الثانية فى سبتمبر الماضى.. وليس من الواضح ما هى الخبرة فى السياسة الخارجية التى سيضيفها ويتكوف إلى هذا الدور، لكنه أشاد فى السابق بتعاملات ترامب مع إسرائيل.. وفى يوليو الماضى، زعم ويتكوف أن «قيادة ترامب كانت جيدة لإسرائيل والمنطقة بأسرها.. وأن الشرق الأوسط شهد مع ترامب مستويات تاريخية من السلام والاستقرار، والقوة تمنع الحروب، وتم قطع الأموال عن إيران، ما منع تمويلها للإرهاب العالمى».
ويشير قرار نتنياهو، ترشيح زعيم متشدد للمستوطنين، لمنصب السفير الإسرائيلى فى واشنطن، بعد ثلاثة أيام من انتخاب ترامب، إلى أن رئيس الوزراء يعتقد أن الإدارة المقبلة سوف تكون متقبلة للحجج اليمينية.. ويؤيد ييشيل ليتر، المولود فى الولايات المتحدة، والذى كان رئيسًا لهيئة موظفى نتنياهو عندما كان وزيرًا للمالية، ضم الضفة الغربية. ووفقًا لصحيفة «هآرتس» العبرية، كان ليتر ناشطًا فى السابق فى رابطة الدفاع اليهودية، التى تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، وهى المنظمة التى أسسها الحاخام اليمينى المتطرف، مائير كاهانا. وقد قُتل ابنه أثناء القتال فى غزة.. كما ورد أنه يدعم اتفاقيات إبراهام، وهى جهود ترامب لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، والتى حققت بعض النجاح.. ومع ذلك، فإن تقدم هذه العملية قد خرج عن مساره، بسبب الحرب المستمرة فى غزة والغضب العربى إزاء معاناة الفلسطينيين.. ويقول الفلسطينيون، الذين يشعرون بخيبة أمل بالفعل فى الولايات المتحدة، بسبب دعم جو بايدن لإسرائيل خلال الحرب فى غزة، إن اختيار ترامب للسفير الجديد فى إسرائيل، يشير إلى أن الرئيس القادم سيجعل احتمال التوصل فى نهاية المطاف إلى حل الدولتين للصراع الإسرائيلى الفلسطينى أكثر بُعدًا.. وأخيرًا، فإن هاكابى، وهو مقدم برامج تليفزيونية سابق وواعظ معمدانى، يزور إسرائيل بشكل متكرر، وقد قال ذات مرة، إنه يريد شراء منزل لقضاء العطلات هناك.. وقد أكد على مر السنين، أن الضفة الغربية تابعة لإسرائيل، وقال مؤخرًا «إن سند الملكية قد أعطاه الله لإبراهيم وورثته».
ومع إعلان ترامب، عن أنه يختار ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية، أصبح السيناتور الجمهورى من فلوريدا، على استعداد ليصبح الدبلوماسى الأعلى للولايات المتحدة فى الإدارة المقبلة.. وفى وقت يشهد صراعًا داميًا فى الشرق الأوسط يهدد بنشوب حرب أوسع، تُثار التساؤلات بشأن موقف روبيو من إسرائيل.. فروبيو، عضو مجلس الشيوخ منذ عام 2011، يُوصف بأنه صقر تقليدى فى السياسة الخارجية، حسب صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، إذ بنى هويته السياسية حول دعم الإطاحة بالحكومات المتشددة، من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط إلى آسيا.. وفى الشأن الإسرائيلى، أعرب السيناتور مرارًا وتكرارًا عن دعمه لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ولعمله العسكرى ضد حماس فى غزة وحزب الله فى لبنان، واتهم إدارة الرئيس جو بايدن بـعدم بذل ما يكفى لدعم حليفها.. ووصف روبيو حرب إسرائيل فى غزة بأنها تدار بالاستبصار والعدالة!!، حيث تسعى إلى تدمير المنظمة الإرهابية حتى لا تهدد شعب إسرائيل مرة أخرى، فى إشارة إلى حركة حماس.. وبعد شهر من الحرب، قال روبيو إنه لن يدعو إلى وقف إطلاق النار فى غزة، بل على العكس من ذلك، أريدهم أن يدمروا كل عنصر من عناصر حماس يمكنهم وضع أيديهم عليه.. هؤلاء الناس حيوانات شرسة ارتكبوا جرائم مروعة.. كما أدان قرارات بعض الحلفاء الغربيين، بتعليق أو تقييد صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، بسبب انتهاكات إسرائيل للقانون الإنسانى الدولى، باعتبارها تقوض قدرتها على الدفاع عن نفسها.. وبعد أن فرضت الخارجية الأمريكية عقوبات فى أغسطس الماضى على كيانات إسرائيلية، قالت إنها متورطة فى عنف المستوطنين المتطرفين فى الضفة الغربية المحتلة، قال روبيو إن الخارجية تقوض حليفًا أمريكيًا، وكتب فى رسالة إلى وزير الخارجية، أنتونى بلينكن، قائلًا «الإسرائيليون الذين يعيشون بحق فى وطنهم التاريخى، ليسوا عائقًا أمام السلام. الفلسطينيون هم العائق»!!.
●●●
وأيًا كانت المعتقدات السابقة، من اختارهم ترامب لفريق إدارته، خلال فترة رئاسته الثانية، فإن مع استعداد الرئيس المنتخب وفريقه لتولى السلطة فى يناير القادم، هناك الكثير من التكهنات حول الكيفية التى يعتزمون بها معالجة التحديات الاستراتيجية المتزايدة فى الشرق الأوسط.. وتشمل هذه التحديات الحروب المستمرة فى غزة ولبنان، وعملية التطبيع المجمدة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والعداء المتصاعد مع إيران.. لكن الفحص الدقيق للسياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط وأماكن أخرى، يشير إلى أن أى تغيير، من المرجح أن يكون تدريجيًا وليس تحويليًا.. فقد كانت هذه السياسة مدفوعة دائمًا بمزيج من القيم والمصالح الوطنية المُتصورة.. ومن المرجح أن تعطى إدارة ترامب الثانية، مثل الأولى، الأولوية للمصالح قبل القيم.. ومن المؤكد أنها ستكون أكثر حزمًا فى متابعة ما تعتبره النخبة السياسية فى واشنطن، سواء من الديمقراطيين أو الجمهوريين، أهدافًا رئيسية للأمن القومى الأمريكى، كما يرى جودت بهجت، فى Middle East Eye.
أولًا، منذ إنشاء إسرائيل عام 1948، قدمت لها الولايات المتحدة ما يقرب من مائة وستين مليار دولار، فى شكل مساعدات خارجية ودعم دبلوماسى قوى.. وكان هذا التحالف غير الرسمى القوى ثابتًا فى السياسة الخارجية الأمريكية، بغض النظر عمن يشغل البيت الأبيض، أو الحزب السياسى الذى يسيطر على الكونجرس.. وعلى المستوى الرسمى، تؤيد واشنطن، مثلها مثل بقية دول العالم، حل الدولتين.. ولكن لسنوات عديدة، عمل المستوطنون والسياسيون اليمينيون فى إسرائيل على توسيع المستوطنات، وفى هذه العملية حرصوا على تقويض أسس الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.. ثانيًا، فى الأشهر الأخيرة من إدارة ترامب الأولى، نجح الرئيس وفريقه فى إقناع الإمارات العربية المتحدة والبحرين بتطبيع العلاقات مع إسرائيل باتفاقيات إبراهام، وانضمت المغرب والسودان إلى هذه العملية أيضًا، وانتهجت إدارة بايدن استراتيجية مماثلة وسعت، دون جدوى، إلى تحفيز المملكة العربية السعودية على اتباع نفس النهج.. ثالثًا، منذ الإطاحة بسلالة بهلوى عام 1979، اعتبرت الولايات المتحدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية خصمها الرئيسى فى الشرق الأوسط.. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، كانت طهران خاضعة لعقوبات أمريكية ثقيلة وشاملة.. وفشلت جهود الرئيس باراك أوباما لاحتواء التوتر مع إيران، وإبطاء تقدم برنامجها النووى، بسبب الافتقار إلى الدعم من جانب الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء.. بعد الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018، نفذ ترامب استراتيجية «الضغط الأقصى» ضد إيران.. وفى عهد إدارة بايدن، لم تُرفع العقوبات، رغم أن تطبيقها كان أقل صرامة مما كان عليه فى عهد سلفه.
سوف تسعى إدارة ترامب الثانية بقوة، إلى تحقيق هذه المواضيع العامة ـ الدعم الثابت لإسرائيل، ومضاعفة الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، والعودة إلى سياسة الضغط الأقصى تجاه إيران.. لكن الشرق الأوسط لا يتفاعل فقط مع التغيرات فى واشنطن.. ذلك، أن الديناميكيات الإقليمية التى سيواجهها ترامب فى إدارته الثانية، تختلف بشكل كبير عن تلك التى تركها فى أوائل عشرينيات القرن الحادى والعشرين.. كان الاعتقاد السائد قبل السابع من أكتوبر 2023، أن إيران وإسرائيل نجحتا فى إرساء توازن القوى أو التوازن الاستراتيجى فى حروب الظل بينهما.. وفى الصراع المنخفض الشدة بين الخصمين، كان من المفترض أن الحرب بين إسرائيل وحزب الله غير مُرجحة، نظرًا للثمن الباهظ الذى سيدفعه الجانبان.. وفى الوقت نفسه، حافظت بعض الدول العربية وتركيا على مستوى من التفاعل الاقتصادى والدبلوماسى، مع كل من إيران وإسرائيل.
هذا التوازن الإقليمى الهش للقوى، تحطم منذ أكتوبر 2023.. وبفضل الدعم الأمريكى غير المشروط، وجهت إسرائيل ضربة ثقيلة، ولكنها ليست قاتلة، لحماس وحزب الله.. وسوف يستغرق الأمر بعض الوقت، لتقديم تقييم دقيق للعمليات العسكرية الإسرائيلية فى كل من غزة ولبنان.. ومع ذلك، هناك ثلاث نتائج مترابطة واضحة.. أولًا، على الرغم من التفوق العسكرى والاستخباراتى لإسرائيل، فإن حماس وحزب الله تبديان مقاومة شرسة تسببت فى خسائر عسكرية فادحة لإسرائيل.. وعلى الرغم من اغتيال العديد من كبار القادة والضربات الجوية المكثفة فى غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران، لم يلوِّح أحد بالراية البيضاء.. وثانيًا، فى سعيه إلى الحفاظ على ائتلافه الحاكم والتمتع بالدعم الكامل من واشنطن، اتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، مواقف متشددة، وفشل فى صياغة استراتيجية سياسية.. وهو يصر على إلحاق الهزيمة الكاملة بحماس وحزب الله وإقامة نظام إقليمى جديد.. وقد أدى اعتماد إسرائيل المفرط على القوة العسكرية إلى عزلها بشكل أكبر فى الشرق الأوسط والنظام الدولى.. وثالثًا، كان لزامًا على القوى الإقليمية الأخرى أن تستجيب لهذه الديناميكيات الاستراتيجية المتغيرة.. فقد أدى مستوى الدمار غير المسبوق فى غزة ولبنان ومقتل عشرات الآلاف من المدنيين، إلى تأجيج الغضب العربى والإسلامى تجاه إسرائيل.. وعلى نفس القدر من الأهمية، يعترض الزعماء الإيرانيون والأتراك والعرب بشدة على نظام إقليمى بديل، تكون فيه إسرائيل القوة المهيمنة ذات القدرات غير المُقيدة لقصف خصومها.. لقد فشلت القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، فى وقف هذا الإفراط فى استخدام القوة العسكرية.. وبرزت إسرائيل باعتبارها القوة المهيمنة الإقليمية غير المقيدة.. هناك دلائل متزايدة، على أن القادة فى طهران وأنقرة والرياض وعواصم عربية أخرى، يعيدون تقييم استراتيجياتهم من أجل مواجهة العمليات العسكرية الإسرائيلية الموسعة وغير المقيدة، واستعادة توازن القوى الإقليمى.
قبل وقت قصير من السابع من أكتوبر، أصبح اتفاق التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل فى متناول اليد، حيث صرح ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان بأن اتفاق التطبيع يقترب كل يوم.. وبعد عام واحد، فى أكتوبر الماضى، اتهم وزير الخارجية السعودى، الأمير فيصل بن فرحان، إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية فى غزة.. وعلى نحو مماثل، اتهم أيمن الصفدى، وزير الخارجية الأردنى، إسرائيل بارتكاب تطهير عرقى.. وبعد وقت قصير من فوز ترامب فى الانتخابات، التقى رئيس القوات المسلحة السعودية فياض الرويلى فى طهران، مع نظيره الإيرانى محمد حسين باقرى لمناقشة التعاون العسكرى بين بلديهما.
إن التنافس الإقليمى بين تركيا وإيران والدول العربية لن يختفى فجأة.. ولكن التصريحات والتحركات التى أدلى بها زعماء المنطقة فى الأشهر القليلة الماضية، تشير إلى استياء متزايد إزاء صعود إسرائيل كقوة مهيمنة إقليمية.. لقد أدى إصرار نتنياهو، غير الواقعى وغير القابل للتحقيق، على إلحاق الهزيمة الكاملة بحماس وحزب الله، إلى زيادة عزلة إسرائيل على المستويين الإقليمى والدولى.. وقد ساهم موقفه المتشدد فى تخفيف حدة التوترات بين القوى الإقليمية الأخرى، إيران وتركيا والدول العربية، بعد أن أعطى الدعم (الثابت) الذى قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل، الضوء الأخضر لنتنياهو بمواصلة أهدافه العسكرية دون عواقب.. وبما أن التاريخ لا يكرر نفسه، ولكنه يعلمنا دروسًا مهمة.. ففى عام 1956، رفض الرئيس الأمريكى، دوايت أيزنهاور، الاحتلال الإسرائيلى لسيناء وأجبرها على الانسحاب.. وبعد عقدين من الزمن، نجح الرئيس ريتشارد نيكسون، ووزير الخارجية هنرى كيسنجر، فى استعادة توازن القوى بين مصر وإسرائيل، فى أعقاب نهاية حرب عام 1973، وتمكنا من تمهيد الطريق للبلدين لتوقيع معاهدة سلام.. لذا، يتعين على إدارة ترامب الثانية أن تتعلم من هذه التجارب.. فلن يقبل جيران إسرائيل صعودها كقوة مهيمنة إقليمية.. وهذا من شأنه أن يُغذى عدم الاستقرار فى الشرق الأوسط ويهدد المصالح الوطنية الأمريكية الرئيسية.
ومنذ فوزه بالانتخابات، كما قلنا فى صدارة هذا المقال، رشح ترامب عددًا من السياسيين المتشددين، مثل السيناتور ماركو روبيو وزيرًا للخارجية، والنائبة إليز ستيفانيك سفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، ومايك هاكابى، لمنصب السفير الأمريكى لدى إسرائيل.. وتشير هذه الترشيحات إلى أن الإدارة الجديدة، من غير المرجح أن تسعى إلى استعادة التوازن الإقليمى للقوى.. والوقت كفيل بإثبات ذلك.
●●●
ومع التاريخ نواصل القراءة، لنطالع كتاب اللعب القديم للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، وموقف ترامب منه.
لقد كانت الولايات المتحدة هى الفاعل المهيمن فى الشرق الأوسط بأكمله بعد انهيار الاتحاد السوفيتى.. منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، كتب الكاتب التركى، محيى الدين أتامان، مقالًا بعنوان «القيم والمصالح: العناصر والمبادئ الأساسية التى تحدد سياسة الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط»، ناقش فيه العوامل الرئيسية التى تحدد السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.. وبالنظر إلى اليوم، يمكن الاستدلال على أن السياسة الأمريكية تجاه المنطقة لم تتغير خلال الإدارات الديمقراطية أو الجمهورية المختلفة.. ومن الواضح أن فترة ترامب الثانية لن تغير هذا المنظور الأمريكى التقليدى تجاه الشرق الأوسط.
واليوم، يكتب مقالًا آخر فى صحيفة Daily Sabah التركية، يؤكد فيه، أن العوامل التى شكّلت السياسة الأمريكية، خلال العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، لا تزال تهيمن على المنظور الأمريكى، من خلال عدة عوامل.. العامل الأول، هو المنظور الانعزالى والأحادى للولايات المتحدة.. والانعزالية هى واحدة من أكثر التقاليد رسوخًا فى السياسات السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية الأمريكية.. وعلى الرغم من هيمنتهم العالمية، لا يزال الأمريكيون يفضلون الانعزالية.. وجهود واشنطن لبناء جدار على طول الحدود المكسيكية، والتى أنفقت عليها مليارات الدولارات اليوم، هى علامة على أن البلاد أدارت ظهرها للعالم، وتحاول أن تصبح قلعة معزولة.. علاوة على ذلك، وفى بُعد مختلف من أبعاد سياسة العزلة هذه، تبرز النخبوية الأمريكية ومفهوم الامتيازات.. فالأمريكيون، الذين يتمتعون بدولة مزدهرة وقوية، يرون أنفسهم فى مركز العالم.. وهم يفرضون مصالحهم ومشاكلهم، باعتبارها مصالح واهتمامات عالمية.. وبمعنى ما، فإنهم يربطون بين بلادهم والعالم ككل.. وهذا من شأنه أن يعزز التوسع والتجارة الدولية الأحادية الجانب، وبالتالى الإمبريالية الأمريكية.
تقليديًا، لا تريد الولايات المتحدة العمل مع المجتمع الدولى، وتتصرف بشكل أحادى الجانب بشكل عام، ذلك لأن الولايات المتحدة كانت قادرة على القيام بما تريد القيام به، على الصعيدين المحلى والدولى بمفردها لعقود من الزمن.. على سبيل المثال، تنفذ الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا أحادى الجانب ضد عشرات الدول فى جميع أنحاء العالم.. ولم تعد تحترم مؤسسات الأمم المتحدة.. وتتجلى هذه الأحادية بوضوح فى السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.. ولأنها لا تريد تقاسم مواردها الإقليمية مع قوى عالمية أخرى، فإنها لا تسعى للحصول على رأى أو مساهمة أى دولة أخرى أو أى منظمة دولية.. على سبيل المثال، عندما غزت العراق عام 2003، لم تشعر بالحاجة إلى طلب الموافقة أو الدعم من الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسى.. وهى تحاول أن تكون فعَّالة فى المنطقة، باستخدام شراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل، دون مراعاة مصالح وتوقعات القوى الإقليمية والعالمية.
إن مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو أيضًا سياسة أعلنتها الولايات المتحدة من جانب واحد.. وبهذا المشروع، كانت الولايات المتحدة تنوى تغييرًا، ليس فقط السياسات الخارجية لدول المنطقة.، بل وأيضًا هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية.. ولم تر أنه من الضرورى طلب رأى أى دولة فى المنطقة بشأن هذه المسألة.. واليوم، وعلى الرغم من أن غالبية المجتمع الدولى تلوم الفظائع الإسرائيلية فى الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة، بما فى ذلك الحكومة والكونجرس ووسائل الإعلام السائدة، تواصل تقديم الدعم غير المشروط لسياسات الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
دونالد ترامب، هو سياسى أمريكى نموذجى، لا يأخذ بعين الاعتبار المعايير الدولية.. وبينما يزعم أن أمريكا أولًا، فإنه يعنى فى الواقع، أن أى مبدأ أو معيار يمكن استغلاله لتحقيق أقصى قدر من المصالح الوطنية الأمريكية.. إن تحويل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، المدينة المحتلة وفقًا لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو الاعتراف بضم مرتفعات الجولان، التى تنتمى إلى سوريا، يُظهر أن ترامب يُقوِّض قرارات مجلس الأمن أو مبادئ القانون الدولي.. بعبارة أخرى، سيستمر ترامب فى التصرف بشكل أحادى الجانب فى الشرق الأوسط، ويستمر فى تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل.. خلال فترة ولايته الأولى، حاول حل المشكلة الإسرائيلية ـ الفلسطينية دون التنازل عن الحقوق والآراء الأساسية للجانب الفلسطينى.
●●●
العامل الثانى المهم، هو الكبرياء الأمريكية وإعطاء الأولوية للعمل العسكرى.. ونتيجة لعوامل أخرى تشكل سلوك السياسة الخارجية الأمريكية، تتصرف الولايات المتحدة بغطرسة، معتقدة أنها تتمتع بتفوق لا يُقاوم.. ولا يزال هذا الفهم، الذى تشكله الغطرسة والعنف، ينعكس فى سياستها الخارجية.. ونتيجة للكبرياء الأمريكى، كانت اللغة التى تتحدث بها الولايات المتحدة على أفضل وجه طوال تاريخها، هى استخدام القوة والعنف.. ورغم أن لديها أساليب أخرى لاستخدامها أو لغات أخرى للتحدث بها، فإن سلوك السياسة الخارجية الأمريكية الأساسى منذ البداية، كان استخدام القوة.. وتعتقد الدوائر السياسية الرئيسية، مثل الديمقراطيين والجمهوريين، وأفراد مثل ترامب، أنه من خلال استخدام المزيد من القوة، سيتبنى العالم القيم الأمريكية، وستضمن الولايات المتحدة الاستقرار العالمي.. اعتبارًا من اليوم، يعمل النظام العالمى الحالى ضد الهيمنة الأمريكية.. وكلما ضعفت الهيمنة العالمية الأمريكية، أصبحت أكثر عدوانية.. لذلك، فهى تنتهج سياسات عدوانية، بفكرة أن الدفاع عن العولمة والقيم الليبرالية أصبح الآن ضارًا بالمصالح الأمريكية.. عندما تتحدى أى دولة إقليمية السياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط، سيحاول ترامب معاقبتها من جانب واحد.
العامل الثالث هو طبيعة النظام السياسى الأمريكى.. إن أهم سمة فى النظام السياسى الأمريكى، هى الإمبريالية الرئاسية.. فالرئيس الأمريكى، الذى هو رئيس السلطة التنفيذية القوية ورئيس الحكومة والقائد الأعلى، قادر عمومًا على التصرف بمفرده فى القضايا المهمة.. ولا توجد مؤسسة حكومية أخرى تحد من سلطة الرئيس.. فالكونجرس وحده لديه السلطة لعرقلة الرئيس فى مواقف معينة.. ولا توجد بنية بيروقراطية قوية ومؤسسية فى الولايات المتحدة، التى تتمتع بمجتمع قوى وبنية دولة ضعيفة.. ويتخذ الرئيس، إلى جانب المعينين من قِبله، القرارات التى تحدد مصير البلاد.. سيستغل ترامب هذا البعد فى النظام السياسى الأمريكى، وسيتخذ خطوات مهمة تجاه دول الشرق الأوسط بأسلوبه الخاص، وبما يعكس منظوره السياسى، لكن أسلوبه لن يتسبب فى أى انحراف كبير عن المنظور التقليدى للسياسة الخارجية الأمريكية.. لقد رأينا أن ترامب لم يتمكن من تنفيذ العديد من مشاريعه فى الشرق الأوسط، على سبيل المثال، على الرغم من إعلانه عن أنه سيسحب القوات العسكرية الأمريكية من سوريا، إلا أنه لم يتخذ خطوة كبيرة، حتى إنه لم يُغير الممثل الذى عينه الرئيس الديمقراطى.
وتشكل الإمبريالية الاجتماعية، بعدًا آخر مهمًا فى النظام السياسى الأمريكى.. هذه الظاهرة الإمبريالية الاجتماعية، التى يمكن تعريفها بأنها التصور بأن مصالح مجموعة صغيرة تعلو على المصالح الوطنية وتتعارض مع مصالح عامة الناس، قد تتطور بسهولة أكبر فى النظام الأمريكى، فى ظل نفوذ المجموعة التى يُشكلها الرئيس وأقاربه.. فالمجموعة الصغيرة التى تؤثر على الرئيس، تستطيع بسهولة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية.. وتتمتع جماعات المصالح والمُجَّع الصناعى العسكرى وجماعات الضغط، بنفوذ خاص فى مجال السياسة الخارجية.
■■ ويبقى أن نقول، إن التوسع المفرط فى الولايات المتحدة، يوفر قدرًا كبيرًا من الفوائد لفئة صغيرة من الناس، ولكن تكلفة هذه السياسة على عامة الناس أقل كثيرًا.. ذلك، أن الطبقات النخبوية والشركات الكبرى فى البلاد، تستفيد إلى حد كبير من السياسات العسكرية/الإمبريالية والتوسع المفرط.. ومثل هذه الدولة، حيث تتخذ القرارات مجموعات قوية ومؤثرة ذات مصالح متداخلة إلى حد كبير، تكون عُرضة للحرب إلى حد كبير، كدولة رأسمالية عدوانية.. وعلى نحو مماثل، تختطف هذه المجموعات السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط من أيدى الناس، وتحشدها لمصالحها الخاصة.. وتعمل جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، والصهاينة المسيحيون، ولوبى النفط ولوبى الأسلحة، على تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.. وهذه الجماعات هى السبب الأكثر أهمية، وراء اتباع سياسات فى الشرق الأوسط، تصب فى صالح مصالح إسرائيل، بدلًا من المصالح الوطنية الأمريكية.