جابر عصفور وحلم إنشاء المركز القومى للترجمة
كثيرًا ما كان يستهل الأستاذ الدكتور جابر عصفور حديثه عن المركز القومي للترجمة، في الندوات أو الاحتفالات أو اللقاءات، بقوله مبتسمًا: "كان حلمًا فخاطرًا فاحتمالًا ثم أضحى حقيقة لا خيالًا"، ويسرد الصعوبات والعقبات البيروقراطية والإدارية التي صادفته في رحلة إنشائه، وكيف تغلب عليها، بعون من وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسني، وغيره من المساهمين في دعم فكرته، كل حسب طاقته، وكيفية الانتقال من المشروع القومي للترجمة، الذي بدأ داخل المجلس الأعلى للثقافة، إلى المركز القومي للترجمة، مبنى مستقل، وفي موقع متميز، داخل الأوبرا، وإلى جوار المجلس الأعلى للثقافة، وهو مكان يليق باستكمال مشروع الترجمة، وبشرى أن القادم أفضل، وقد توج هذا السعي بصدور قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم (381) لسنة 2006، بشأن إنشاء المركز القومي للترجمة الذي جاء اسمه بهذه الصورة؛ مواكبًا للتاريخ المصري الثقافي، من رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873)، وأملًا في تحقيق مستقبل معرفي يجمع كل صنوف المعارف بلا فارق.
وهو مشروع واعد ومميز وضروري، والدليل على ذلك الأهداف التي أنشئ من أجلها المركز القومي للترجمة، والمتمثلة في: الارتقاء بأوضاع الترجمة على المستوى القومي، وتنمية حركة الترجمة عن طريق التدريب والتطوير وإنشاء أجيال جديدة قادرة على نقل الثقافات والمعارف من اللغات الأجنبية الأخرى وإليها، وسد الثغرات المعرفية الموجودة في الثقافة العربية، والتعاون مع مؤسسات وزارة الثقافة والناشرين في مصر والدول العربية، وتأكيد ريادة مصر في الترجمة، والحفاظ على مكانتها ودورها...إلخ. مع التأكيد على أن كل إصدارات المركز تهدف إلى تقديم الاتجاهات والمذاهب الفكرية المختلفة للقارئ العربي، وتعريفه بها، والأفكار التي تتضمنها هي اجتهادات أصحابها في ثقافاتهم، ولا تعبر بالضرورة عن رأي المركز. وهو ما نجده في الصفحات الأولى مكتوبًا، وهو ما يفهم منه أن هذه الترجمات المقدمة للقارئ العربي قد تتوافق ووجهة نظره أو قد تتعارض وفكره، وله كامل الحرية في أن يقبل أو يرفض.
ونتيجة أن المركز القومي للترجمة مشروع ضخم، يحتاج إلى تضافر جهود كثيرة، وتطوير مستمر، وضرورة وجود خبرات متنوعة، من أجل تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها؛ فقد جاء في قرار إنشائه: يكون للمركز مجلس أمناء يصدر بقرار من رئيس الجمهورية، مكون من أعضاء يمثلون الهيئات والجهات الرسمية من مصر وخارجها، وعدد من الشخصيات الثقافية الكبرى في مصر وخارجها، وتضم العضوية بصفاتهم الرسمية: وزير الثقافة، ووزير التعاون الدولي، ووزير الخارجية، ووزير الإعلام، ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ووزير التعليم العالي والدولة للبحث العلمي، أو من ينوب عنهم، ورئيس اتحاد الناشرين، ومدير المركز، ويرشح وزير الثقافة باقي الأعضاء. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تكون أيضًا للمركز هيئة استشارية تتكون من الخبراء والمختصين أو المهتمين بالترجمة، ويصدر قرار بتشكيلها من وزير الثقافة. كل هذه الأمور والمواد القانونية السابقة وغيرها تهدف إلى تحقيق أهداف نبيلة تليق بجمهورية مصر العربية والثقافة الحقيقية المنظمة لحياة الأفراد والمجتمعات والأقطار، وتضمن ألا يقع المركز تحت سيطرة فرد واحد أو فكر واحد، من أجل ذلك نُص على أن يختص مدير المركز بتنفيذ السياسات العامة للمركز التي يضعها مجلس الأمناء، ومن ثَم عرض كل ما يتعلق بالمركز على مجلس الأمناء بشفافية ونزاهة وحيادية ومواجهة المشكلات والعمل على إيجاد حلول لها، فلا بد من وجود التعددية والعمل كفريق عمل واحد من أجل حياة إنسانية كريمة، ووجود عناصر جديدة لمواكبة الثقافة العالمية في شتى بقاع الأرض، والنهل منها، والإضافة إليها.
ومن الجدير بالذكر أن نذكر- هنا- أن علاقة الدكتور جابر عصفور قد انقطعت إداريًا بالمركز القومي للترجمة في 31/1/2011، حين تم اختياره وزيرًا للثقافة للمرة الأولى، بعد أن وقّع عقد الكتاب رقم ثلاثة آلاف (3000)، وترجم ما يزيد على خمس وثلاثين لغة، من شتى بقاع الكرة الأرضية- كما صرح الدكتور جابر عصفور بذلك بنفسه- ولم يقتصر دور المركز- في عهده- على الترجمة والنشر فقط (فهو دور تنجح فيه دور النشر)، بل أقام المركز دورات عديدة في موضوعات الترجمة المتخصصة، ومؤتمرات دولية وقومية- منذ أن بدأ المركز عمله الفعلي- ونستطيع أن نقول، وبكل فخر وشفافية، إن المركز هو بيت المثقفين والمفكرين، وقد شهد فعاليات ثقافية مهمة ومؤثرة، على المستوى المحلي والدولي، يتحدث عنها القاصي والداني، ومن منا يستطيع أن ينكر فضل الدكتور جابر عصفور؛ سواء بوصفه أستاذًا جامعيًا كبيرًا أو مؤسسًا للمركز القومي للترجمة أو مفكرًا مبدعًا، أقول وقد حدث هذا الأمر معي ومع زملائي- في اللقاءات العامة أو المعارض التي يشترك فيها المركز القومي للترجمة، داخل مصر خارجها، يأتي كبار المسئولين والمفكرين ليرسلوا التحيات والسلامات لشخص الدكتور جابر عصفور. وقد استمر يتابع أعمال المركز من موقع آخر، وهو عضو في مجلس أمناء المركز، ولم يبخل عن المركز بتقديم المشاورة والنصائح والتوصيات حتى آخر لحظة من عمره، ولا ينسى العاملون والمثقفون وقفته المشرفة في حل أزمة المركز 2013/2014م.
وقد أعلن الدكتور جابر عصفور، وهو المهموم بقضايا مجتمعه، الحالم بمستقبل أفضل، عن أن الترجمة ليست قضية فكرية فحسب، بل هي قضية تقدم، والاهتمام بالترجمة هو الطريق إلى التقدم، والنهوض من التخلف والإظلام، وفي ظل مشروع الترجمة منذ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وبدايات المركز القومي للترجمة، كانت مصر متقدمة في الإحصاء العددي الذي يفوق ما ترجمته الدول العربية مجتمعة- كما صرح بذلك في حوار أُجري معه، في فبراير 2014م.
ولم يكن حلم تأسيس المركز سهل المنال، وإنما كان حربًا خاضها الدكتور جابر عصفور لسنوات طويلة، حلم المفكر والمبدع العاشق لوطنه الذي تمنى ترسيخ فكرة أن الترجمة قاطرة التقدم، والسبيل الوحيد لتحقيق النهضة الثقافية؛ وإخراج المجتمع من ظلمات الجهل والتخلف والرجعية إلى أنوار العلم والمعرفة والتقدم، وهو الهدف الأسمى من إنشاء المركز، والذي حققه المؤسس الأول، في ظل ما أتيح له من إمكانات وموارد، ويا ليتنا نقتدي به، ونكمل الحلم الكبير للمركز، ونحقق الأهداف التي من أجلها أنشئ. فهل نفعل؟!