مدير البرنامج الأممى الإنمائى للدول العربية: إعمار قطاع غزة سيستغرق 10 سنوات ويحتاج إلى 6 مليارات دولار معونات إنسانية
كشف الأمين العام المساعد للأمم المتحدة، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائى للدول العربية، عبدالله الدردرى، عن أن الأمم المتحدة تخطط لتشغيل ٣٠٠ ألف فلسطينى بدءًا من اليوم الأول لوقف إطلاق النار، بعقود تُسمى «كاش فور وورك»، لأن هذا سيؤدى إلى وجود كتلة مالية فى يد الناس، ويشجع القطاع الخاص والشركات على العودة والعمل بسرعة، فى محاولة لإطلاق العجلة الاقتصادية فى غزة بشكل سريع.
وقال «الدردرى»، فى حواره مع «الدستور»، إنه يتصرف هو وزملاؤه منذ نحو عام مثل الشحاذين، للحصول على أى تمويل تنموى، ويواجه صعوبات بسبب تعنت الاحتلال الإسرائيلى، موضحًا: «نجح فريقنا فى قطاع غزة فى إزاحة ١٤٠ ألف طن من النفايات الصلبة التى كان الأطفال يلعبون حولها وفوقها، وجرى التفاوض لمدة ٦ أشهر لإدخال ١٥ حاوية قمامة».
وشدد على أن الاعتماد على تمويل التنمية عن طريق المنح من الدول المانحة أمر فى طريقه إلى الزوال، ولا بد من البحث عن تمويل مبتكر يربط بين الموارد المالية وجهود التنمية، مشددًا على ضرورة بلورة رؤية للتعافى الإقليمى، خاصة أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن تعافٍ قُطرى لكل بلد على حدة، أملًا فى أن يؤدى ذلك إلى تعافٍ إقليمى.
ولفت إلى أن وطننا العربى فى حاجة ماسة إلى اعتماد منهجية علمية للتكامل الإقليمى العربى «صحيح أن عواطفنا تريد أن ترى تضامنًا عربيًا، لكن الواقع هو أنه لو نفذنا اليوم الاتحاد الجمركى العربى، فإن كل دولنا ستستفيد، حيث سيتراوح النمو من ١.٨٪ إلى ٤٪ من الناتج».
■ بداية.. كيف ترى وضع التنمية فى مجتمعنا العربى فى المرحلة الراهنة؟ وهل هناك تقدم فى تحقيق المستهدفات؟
- تواجه المنطقة العربية اضطرابات متلاحقة تجعلها فى مفترق طرق، تحتاج فيه إلى تقييم مستقل؛ فعلى الرغم من إحراز بعض الدول العربية تطورًا ملموسًا فى العديد من نواحى التنمية الإنسانية، وتمكنها من تخفيض معدل الفقر وعدم المساواة بشكل كبير، إلا أنها لم تتطور بالسرعة التى تطورت بها مناطق أخرى، ويعود ذلك بشكل رئيسى إلى غياب الحوكمة والشفافية والمساءلة، إضافة إلى انخفاض مشاركة المرأة فى العمل وفى الحياة السياسية والمهنية مقارنة بما هى عليه فى بلدان العالم الأخرى.
■ هل ترى جهود الأمم المتحدة كافية من أجل التغلب على تلك المعوقات الداخلية والخارجية للتنمية فى الدول العربية؟
- نحن ندرك أن جهودنا قد تبدو أحيانًا ساذجة أمام حجم التعقيد والعوامل والمعطيات الخارجة عن قدرتنا على السيطرة، نحن لاعبون صغار جدًا فى هذه الملاعب الضخمة التى تضم لاعبين أكبر بكثير، لكن هذا ما قيضه الله لنا أن نفعله، هذا العمل التنموى نقوم به فى ظل الأموال التى تأتى إلينا «بالقطارة».
منذ سنة حتى الآن، نتصرف أنا وزملائى كشحاذين، ولا أخجل وأنا أقول ذلك؛ فنحن نذهب ونتوسل على أبواب المانحين فى المنطقة والعالم من أجل فتات، لكن هذا هو المتاح.
حينما نحصل على ٥ ملايين دولار مثلًا نعتبر ذلك إنجازًا، رغم أن المبلغ ضئيل بالنسبة لحجم الدمار الهائل.. ورغم كل هذا، لا بد من العمل التنموى، ولا بد من أن يرتبط كل ذلك بوقف إطلاق النار.
■ تناقض سياسات المانحين أمر واضح.. كيف أثر على جهودكم؟
- نحن لسنا ساذجين، ونعرف أن ما يُعطى باليد اليمنى يُؤخذ باليسرى، لكن إذا استطعت أن آخذ أى شىء وأساعد به الشعب الفلسطينى أو اللبنانى أو السورى أو غيرهم، سأقوم بذلك، بغض النظر عن تناقض السياسات العالمية الكبرى التى هى أكبر منا بكثير، ولا أتحكم بها ولا دور لى فى رسمها، ولكن إذا استطعت، فسيكون ذلك أمرًا إيجابيًا.
على سبيل المثال، نجح فريقنا فى قطاع غزة فى إزاحة ١٤٠ ألف طن من النفايات الصلبة التى كان الأطفال يلعبون حولها وفوقها، وكانت تؤثر على صحتهم. وهذه النفايات تتسرب إلى المياه الجوفية.
استطعنا كذلك إعادة تأهيل مدرستين بعد تدميرهما، وجرى تصنيع مكاتب وكراسى فى غزة، فضلًا عن إدخال حاويات القمامة، ولنفعل ذلك دخلنا فى مفاوضات سياسية لمدة ٦ أشهر مع سلطة الاحتلال الإسرائيلى لكى نستطيع أن نوصل ١٥ حاوية قمامة إلى القطاع.
كما تعاقدنا مع آلاف الشباب والشابات الفلسطينيين من أجل العمل فى القطاع، وجرى، أيضًا، التعاقد مع الأطباء الذين يناضلون من أجل إنقاذ حياة الناس بعقود من الأمم المتحدة.
واستطعنا إقامة مراكز للخدمات البلدية لكى تتمكن الجمعيات الأهلية من ممارسة عملها بعدما دُمرت كل مقراتها، كذلك أنشأنا مركزين مجهزين بالبنية التحتية والتكنولوجية، حتى تتمكن الجمعيات من الحصول على مقر مؤقت، وخصصنا مقرين أيضًا للشركات الصغيرة والمتوسطة التى خسرت كل شىء لكى تتمكن من العودة والوقوف على قدميها.. إذن، فى ظل هذا الدمار الهائل فى غزة، لا يزال بالإمكان القيام بعمل تنموى.
■ ما تفاصيل خطة إعادة إعمار غزة؟
- المفتاح الأول، بعد وقف إطلاق النار، هو تشغيل عشرات الآلاف من الشباب والشابات الفلسطينيين بعقود تُسمى «كاش فور وورك»، وبدء نشاط الإعمار من قبل هؤلاء عن طريق تقديم الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية. نحن نخطط لتشغيل ٣٠٠ ألف فلسطينى منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار، بعقود عبر الأمم المتحدة ليقوموا بما تقوم به عادة المؤسسات، لأن هذا سيؤدى إلى وجود كتلة مالية فى يد الناس، ويشجع القطاع الخاص والشركات على العودة والعمل بسرعة، فى محاولة لإطلاق العجلة الاقتصادية فى غزة بشكل سريع.
ورغم اعتقادنا أن هذا ليس الحل لكنه أحد مفاتيح إعادة الحياة الاقتصادية فى غزة، خاصة أن هذا الدمار الضخم الذى شهدناه لن تزول آثاره فى يوم أو يومين أو سنة أو سنتين، يجب أن نقر بذلك، نظرًا لأن أكثر السيناريوهات تفاؤلًا يتوقع العودة لناتج عام ٢٠٢٢، ويحتاج إلى ١٠ سنوات و٦ مليارات دولار على الأقل من المعونات الإنسانية. نحن فى حرب لم نشهد مثيلًا لها من قبل، ولن تعود الأمور بعدها لما كانت عليه من قبل.
■ كيف ترى غياب المنظمات الإنسانية العربية؟ وكيف نصل لاستدامة الجهود التنموية؟
- نشاط وفاعلية المنظمات العربية المحلية أمر مرتبط بشكل أساسى باستدامة جهود التنمية، وتعد اليمن مثالًا ممتازًا على ذلك، فقد اكتشفنا أنه عندما قمنا بعمل تنموى فى جميع أنحاء اليمن، أصبح هناك مصلحة للمجتمعات المحلية، بل وحتى للحكومتين الشرعية فى عدن وحكومة الأمر الواقع فى صنعاء، للحفاظ على هذه المكتسبات، لأن هذا هو المكان الوحيد الذى يجرى من خلاله خلق فرص عمل وإحياء القطاع الزراعى وبعض الخدمات. نحن الآن نطور مرفأ عدن وغيره، وفعلنا ذلك فى مرفأ الحديدة.
وفى أفغانستان نجحنا فى دعم ٧٠ ألف شركة تملكها النساء فى ظل حكم طالبان، والمجتمع المحلى هو الذى دافع عن وجودهن؛ فعندما حاولت طالبان الضغط على هؤلاء السيدات، كان المجتمع يقف ويدافع عنهن لأن هذا هو مصدر دخلهن الوحيد، وبالتالى أصبح هناك تعايش بين المجتمع المحلى والمشاريع النسائية وطالبان، لأن المجتمع حمى هذه المشاريع، وبالتالى وصلت للاستدامة.
■ ما رأيك فى العلاقة بين النمو والمؤسسات والحوكمة؟
- هناك علاقة وثيقة بين النمو والمؤسسات والحوكمة، لأنه لا شك فى أن ضعف المؤسسات وضعف شرعية المؤسسات فى عيون المستفيدين هو سبب رئيسى لضعف النمو الاقتصادى والتنمية الشاملة.
قضية شرعية المؤسسات معقدة؛ وتتعلق بالعقد الاجتماعى فى البلد، أى ما اتفق عليه الحاكم والمحكوم، وما هى مسئولية كل طرف، وكل بلد بطبيعة الحال يختلف عن الآخر.
■ كيف نصل للاستدامة فى عملية تمويل التنمية؟
- الاعتماد على تمويل التنمية عن طريق المنح من الدول المانحة أمر فى طريقه إلى الزوال، ولا بد من تمويل مبتكر يستطيع أن يربط بين الموارد المالية، وهى كثيرة- هناك تريليونات الدولارات فى الأسواق المالية العالمية- وبين أوجه التنمية، والأمم المتحدة تعمل حاليًا على تطوير نفسها لتصبح الجهة التى تربط بين الأموال والتنمية، فنحن لسنا منظمة مالية ولا صندوق تمويل دوليًا، ولكن دورنا تسهيل النفاذ إلى التمويل للفقراء.
المنظومة المالية العالمية اليوم ليست مصممة للوصول إلى الفقراء فى المناطق البعيدة النائية، فمَن البنك الذى سيذهب إلى أقاصى الريف ويمنح قرضًا لامرأة ريفية لكى تقوم بمشروع، وإذا جرى تمويلها سيكون عبر مؤسسات التمويل الصغير بفوائد عالية تصل إلى ٤٠٪.
فى مصر على سبيل المثال، هناك ٤ ملايين شخص يستفيدون من التمويل الصغير، والسوق الحقيقية لمصر فى التمويل الصغير هى ١٥ مليون شخص، لذا إذا استطعنا أن نوصل التمويل الصغير إلى ١١ مليونًا إضافيًا فى مصر، سيكون هناك أثر على الاقتصاد الكلى والبطالة وغيرها. إذن، الابتكار فى التمويل هو مفتاح المستقبل، وليس انتظار المنح.
■ هل الوصول للاستدامة مرتبط بأزمة نقص الموارد المالية فى تلك الدول؟
- الأزمة ليست فى توافر التمويل؛ فهناك أموال كثيرة فى مجتمعاتنا.. نحن أمة لا ينقصها المال، حتى فى أفقر الدول، بل المشكلة الحقيقية هى التوجيه الأفضل للمال نحو القطاعات الأكثر إنتاجية.
على سبيل المثال، الاقتصاد السياسى فى إفريقيا ما بعد الاستقلال كله جرى تركيبه على أخذ المنح، ما عزز الفساد وإهدار الموارد، رغم أن إفريقيا لديها تمويلات من موارد ذاتية سنويًا بحوالى ٨٠٠ مليار دولار، بينما إجمالى ما تحصل عليه من منح وقروض يبلغ حوالى ٤٠ مليار دولار سنويًا.
مع ذلك، كل شىء مركب لخدمة الـ٤٠ مليار دولار، ولا أحد يتساءل كيف نعزز الـ٨٠٠ مليار ونستفيد منها بشكل أفضل، لكن الآن الأفارقة يسعون لطريق جديدة، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى أنه لم يعد بالإمكان العودة إلى الماضى وانتظار المنح التى ستُمر إلى المشاريع.
■ هل هناك إمكانية لإعادة تطبيق خطة مارشال لإعادة إعمار المنطقة بعد تداعيات الحرب؟
- أستبعد حدوث ذلك، يجب أن نعمل جميعًا على رؤية للتعافى الإقليمى، لم يعد بالإمكان الحديث عن تعافٍ قُطرى لكل بلد على حدة، أملًا فى أن يؤدى ذلك إلى تعافٍ إقليمى، فالتعافى فى المنطقة يجب أن يكون إقليميًا، لأننا نرى اليوم مدى تأثرنا ببعضنا سلبًا، ولم نفكر بشكل علمى فى كم يمكن أن نؤثر ببعضنا إيجابًا.
إذا تأثرت مصر مثلًا وخسرت ٣٪ من الناتج المحلى بسبب حرب غزة، وفق التقديرات الأولية، ألم يكن بالإمكان أن يؤدى النمو الاقتصادى الفلسطينى إلى نمو الناتج فى مصر؟ وبالتالى، التعافى يجب أن يكون مترابطًا.
■ كيف ترى الفجوة الاقتصادية بين دول الخليج ودول أخرى فى المنطقة؟
- قد تبدو الفجوة ظاهرية، لكن فى مجال الإنتاجية، «كلنا فى الهم سوا»، أغنانا كأفقرنا فى الإنتاجية. بالعكس، الإنتاجية فى المنطقة العربية ككل تتراجع بنسبة ٣٪ منذ عام ١٩٨٠، إذن، المشكلة فى الإنتاجية، وأحد مداخل تحسين الإنتاجية هو تحسين كفاءة الإدارة العامة فى البلدان العربية، ويمكن أن تعطى دفعة كبيرة للإنتاجية والحوكمة وكفاءة وشرعية المؤسسات.
هل يمكن التكامل بين الدول العربية فى هذا الصدد؟
- وطننا العربى فى حاجة ماسة إلى اعتماد منهجية علمية للتكامل الإقليمى العربى، صحيح أن عواطفنا تريد أن ترى تضامنًا عربيًا، لكن الواقع هو أنه لو نفذنا اليوم الاتحاد الجمركى العربى، فإن كل دولنا ستستفيد، حيث سيتراوح النمو من ١.٨٪ إلى ٤٪ من الناتج.
مصر ستكون رابحة، بما يعوضها عن الخسارات الناجمة عن الضغوطات بسبب النزاعات فى المنطقة، والكل رابح لو جرى الانتقال من منطقة التجارة العربية الحرة إلى الاتحاد الجمركى العربى، نحن بحاجة إلى تدشين مرحلة عمل وتعاون عربى جديدة قائمة على المصالح الذاتية لكل دولة، فالحسابات تؤكد أن إقامة الاتحاد الجمركى العربى ستفيد جميع الدول، بعض الدول أكثر من الأخرى، لكن الكل سيستفيد ولن يخسر أحد.