إشكالية السؤال والجواب في بلاغة المقموعين: "ابن المقفع نموذجًا"
يعد السؤال والجواب إحدى العلاقات الدِّلالية المضمونية التي تعمل داخل النص، رابطة بين مجموعات مختلفة من القضايا، وهو ما يسهم بدوره في تحقيق التماسك الفكري المنطقي، الناتج عن دورها الفاعل في تشكيل السياق عبر المتواليات الجملية الممتدة المترابطة في علاقة أشبه بالأخذ والعطاء، ومن ثم فإننا يمكننا القول إن العلاقة التفاعلية الترابطية المتمثلة في السؤال الذي يحمل قدرًا من الكلام الناقص غير المكمل، والجواب الذي يتمم النقصان ويكمله، تسهم في تحقيق قدر من التماسك الفكري في ظل بنية النص.
وإذا كان السؤال في طبيعته يبحث عن إجابة شافية من آخر، فإننا نجد أن هناك من يطرح السؤال، ويجيب عنه تارة، وأخرى يطرح السؤال دون أن نجد له إجابة، وإنما يضعه بين يدي المتلقي، وكأنه يريد أن يقول له: (فكر... وابحث عن الإجابة في نفسك وبنفسك)، ولنتأمل- على سبيل المثال لا الحصر- هذه الأسئلة التي يطرحها الأديب الحكيم ابن المقفع: "أتأمرني أن أصدق فلا أكذب كذبة أبدًا، لكان جوابه أن تقول: نعم، ثم لو التمس منه قول ذلك، فقال: أتصدق في كذا وكذا؟..."([1])، و"وكيف يتفق لك رأي المختلفين، مما حاجتك إلى رضى من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضى الأخيار منهم وذوي العقول"([2])، وإذا قيل له: أي دم سفك على هذه السنة التي تزعمون؟ قالوا: فعل ذلك عبد الملك بن مروان أو أمير من بعض أولئك الأمراء..."([3])، و"قال رجل لحكيم: ما خير ما يؤتى المرء؟ قال: غريزة العقل. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلم علم. قال: فإن حرمه؟ قال: صدق اللسان، قال: فإن حرمه؟ قال: سكوت طويل. قال: فإن حرمه؟ قال: ميتة عاجلة "([4]). ولعل هذا الطرح الذي طرحه في النموذج الأخير ليؤكد أن علاقة السؤال والجواب تحمل ربطًا نصيًّا منطقيا على مستوى السياق؛ حيث تؤدي الأسئلة إلى إجابات تحمل آراء فكرية ونقدية كاشفة، صحيح أنه ذكرها على لسان أحد الحكماء، ولكن من المؤكد في الوقت نفسه أن هذه الآراء تتوافق ورأيه هو نفسه وقناعاته المختزنة في ذهنه، والثابتة في قرارة قراره.
وهناك في صور أخرى من يطرح سؤالًا دون وجود ذكر للأداة؛ إذ يقول "ولاية الناس بلاء عظيم"([5])، فكأن هناك من يسأله: ما رأيك/ ماذا تقول في ولاية المرء على الناس؟ ولا يخفى علينا أن هذه الإجابة تحمل رسالة ونصيحة في الوقت ذاته، ومن ذلك- أيضًا- قوله: "لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف"([6])، و"رأس الذنوب: الكذب"([7])، و"من أفضل البر ثلاث خصال: الصدق في الغضب، والجود في العسرة، والعفو عند القدرة"([8]).
ونلاحظ في الأمثلة السابقة، أن الجواب يمثل المستوى السطحي الظاهر، والسؤال هو المستوى الخفي غير المكتوب؛ ولذا فإن علاقة السؤال بالجواب علاقة دلالية تفاعلية فكرية، سواء داخل النص عن طريق الربط بين بنى النص والقضايا المختلفة، أو بين ربط النص بالعالم الخارجي أو الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها ابن المقفع وغيره من أبناء جلدته وزمانه.
جدير بالذكر أن الأسئلة التي يطرحها المفكرون أو أصحاب الرأي والبصيرة، من المعارضين المقموعين أو المؤيدين، سواء لديهم الإجابة كاملة أو شيء منها تكون بدافع منهم في الكشف، وحب الاستطلاع والفضول الذي هو غريزة فطرية في طبيعة النفس البشرية، وجذر من جذور المعرفة، وسعي في الوقت ذاته للوصول لعالم أفضل، من خلال السؤال الذي يهدفون من خلاله إلى تحقيق حالة معينة يحلمون بها؛ ولذا يمكننا القول إن قمع السؤال هو قمع لعقل الإنسان، وكبت لمشاعره وأحلامه، وقتل لروحه، وفقد للحاضر والمستقبل في آن واحد، وعلى العكس تماما حرية طرح السؤال ومناقشته أو مواجهته بإجابة مقنعة كافية شافية غير قامعة ولا باطشة.
ولذلك "لم يكن من قبيل المصادفة أن يقول ابن وهب إن السائل أشد استظهارا من المجيب؛ لأن له أن يروى في المسألة قبل إطلاقها، ويروى عن جعفر قوله إن العلوم عليها أقفال و"مفاتحها السؤال" إلى جانب قول ابن عباس حين سئل: أنى لك هذا العلم؟ فقال: لسان سؤول، وقلب عقول"([9]).
والمتأمل في حياة أصحاب الفكر والرأي والفلسفة يدرك تماما أنه كان مطلوبا منهم ألا يسألوا، وأن يلتزموا الصمت الذي هو منجاة لهم، ولكل عاقل كما قال القدماء، فماذا يفعل المرء، وهو في حضرة من يحقد عليه من علية القوم؟! وماذا يفعل أيضا وهناك الحاقدون والحاسدون الذين يتهمونه ويصوبون السهام والحراب إليه، وينسجون حوله الأكاذيب، ويحكمونها إحكامًا؟! ولذلك فلا غرو أيضا أن نجد من يقرن البلاغة بالصمت، ويمدح الصمت ويذم الكلام، ويصف الصامت بالعاقل، وهو- من وجهة نظر القدماء- لا يطرح سؤالا، ولا يبحث عن إجابة؛ ومن ثم يقنع بما هو فيه، ولا يتطلع إلى أكثر، ويحيا بحكمة أبي نواس التي يقول فيها([10]):
مت بداء الصمت خير لك من داء الكلام
رب لفظ ساق آجا ل نيـام وقيـام
إنما السالم من ألـ جم فـاه بلجـام
ومن الجدير بالذكر أن إشكالية السؤال والجواب تظل أبدية ممتدة، تتجاذب- عبر العصور- بين الإبانة والصمت، والإفصاح والمنع. فكم من ألسنة أوردت أصحابها المهالك!.
وإذا أراد المرء السلامة، والنجاة من بطش مستبد يمكن أن يطيح به وبرقبته، ولا يريد في الوقت نفسه أن يسأل سؤالا يكون فيه هلاكه، أو يظهر رأيا مخالفا لمبادئه؛ نفاقا وتقية ومراوغة، فليلتزم بقول الشافعي- رحمه الله([11]):
إذا كان النفاق عليك فرضا فأفضل ما تقول السكوت
([1])آثار ابن المقفع، ص 318.
([2])السابق، ص 248.
([3])السابق، ص 317.
([4])السابق، ص 301.
([5])السابق، ص 289.
([6])السابق، ص 290.
([7])السابق، ص 297.
([8])السابق، ص 297.
([9])غواية التراث، د. جابر عصفور، ص 321.
([10]) ديوان أبي نواس، تحقيق: أحمد عبد المجيد الغزالي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د. ت، ص62.
([11]) هذا البيت منسوب للإمام الشافعي.