نجيب سرور.. الشعر والوهم
رحل عنا الشاعر الكبير نجيب سرور فى ٢٤ أكتوبر ١٩٧٨ عن ستة وأربعين عامًا لا أكثر، فأثار حزًنا عميقًا فى النفوس، فقد كان كتلة متفجرة بالانفعال والحساسية والحيوية، وبشهادة صديقه المقرب د. أبوبكر يوسف، الذى درس معه فى موسكو، فإنه: «لم يكن لنجيب سرور مثيل فى إلقاء الشعر، وقد اجتمعت له مَلَكة الصوت الجهير العميق المتوسط النبرة ما بين (الباص) و(الباريتون)».
بشكل عام كان نجيب شخصًا وشاعرًا ساحرًا، تمكن على قِصر سنواته أن يغنى الشعر والمسرح المصرى بالعديد من الأعمال المهمة التى لا يتسع المجال هنا لمناقشة أثرها وطابعها الريادى. والحق أنه كلما ورد ذكر اسم نجيب سرور أجدنى أفكر فى ضرورة استخلاص الشعر من الوهم، والشاعر من حكايات الاضطهاد التى كان نجيب أول من روّجها، ثم أدمنها من بعده عشاق نجيب. ذلك أن قيمة نجيب سرور الحقيقية فى شعره، وليس فى القصص التى كان يرددها، ليفسر لنفسه قبل كل شىء ما أسماه صديقه د. أبوبكر يوسف «مأساة العقل» حين يحتدم: «الصراع فى نفسية الشاعر بين الواقع المرفوض والمثال المستحيل».
يقول د. أبوبكر عن السنوات التى جمعته بسرور فى روسيا: «.. ومنذ أن تعرفت بنجيب سرور أحسست بأننى مشدود إلى هذه الشخصية الفذة كقطعة حديد إلى مغناطيس قوى»، ويضيف: «كانت الأزمة الحادة تتفاعل فى أعماقه، وكنت لا أرى غير ظاهرها: الإغراق فى الشراب، اليأس المطبق، الإحباط المطلق. كل ما استطعت أن أدركه هو أن إغراقه فى الشراب كان الوسيلة التى لم يجد سواها للهروب من أزمته».
وقد أدى بنجيب ذلك الإغراق فى الشرب سنوات طوال إلى فشل كبدى عانى منه فى السنوات الأخيرة وأجبره على دخول المصحة، وكنت ألتقيه أحيانًا فى «الإكسليسيور» بشارع طلعت حرب، فأجده لا يكاد يميز ما حوله، مطلقًا مختلف الخيالات حول اضطهاده والتنكيل به، وهى القصة التى يتمسك بها عشاق فنه، وعلى العكس من ذلك فقد لاقى نجيب منذ عودته من المجر إلى مصر كل الأبواب مفتوحة أمامه: المسرح والصحف والتليفزيون، وكان نجمًا مشعًا، وبينما تم اعتقال معظم شعراء مصر فى تلك السنوات: أحمد نجم، وسيد حجاب، والأبنودى، وغيرهم، لم يتعرض نجيب للاعتقال، وظل يطلق قصائد الألم العام، من دون صدام مع السلطة يضطرها للتنكيل به، ولم تكن السلطة تخشى فى ذلك شيئًا، وهى التى وضعت أعلام الثقافة المصرية فى الحبس، مثل د. لويس عوض، ويوسف إدريس، وغيرهما، لكن نجيب لم يكن يمثل ذلك الخطر، ولا يعيب ذلك الشاعر الكبير، لكن علينا ألا نصدق كل ما قاله أو أطلقه من خيالات وأوهام حول اضطهاده، وأنا على سبيل المثال أحترم الكاتب العملاق ليف تولستوى، لكننى لا أصدق قوله «إن شكسبير مجرد مهرج»، وأقر للكاتب الأمريكى شتايبنك بالعبقرية الأدبية، لكنى لا أقره على ما كتبه بعد أن رافق أحد الطيارين الأمريكيين وهو يقصف فيتنام، فكتب شتاينبك: «كانت أصابع الطيار تضغط على مفاتيح إسقاط القنابل مثل أصابع عازف البيانو الماهر الذى يعزف أعظم كونشيرتو فى العصر».
القصد أن احترام نجيب سرور شاعرًا يعنى أن نستخلصه شاعرًا من الوهم، ليبقى لنا شعره، وفى ذلك الإبداع تحيا روح نجيب سرور الحق حتى وإن طاله اليأس وجعله يرى مصر فى صورة: «شوف الخريطة تلاقيها فاتحة رجليها»، بينما رآها شاعر آخر فى صورة أخرى: «نيلها اللى بيطلع فى الصورة بعلامة النصر». لا يعيب الشعراء التصدع النفسى، ولا حتى اليأس، لكن لا ينبغى لنا أن نحاصرهم فى صورة مختلقة، بينما كل واجبنا أن نعتنى وأن نرعى ما تركوه من إبداع، وليس ما تركوه من أوهام.