لماذا لا تُحاسب إسرائيل على جرائمها؟
وصفت كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى، التى ألقاها خلال قمة «بريكس بلس»، المنعقدة فى مدينة قازان بروسيا الاتحادية، بعنوان «بريكس ودول الجنوب، معًا لبناء عالم أفضل»، الوضع المحتدم والصراعات التى تحدث حاليًا فى الشرق الأوسط، وكيف أنها ألقت بظلالها على الساحة الاقتصادية والسياسية، وتأثيرها بشكل كبير على الدول النامية.. إلا أن أهم ما قاله، فى نظرى، أنه «لا يمكن أن نتحدث عن الأزمات والتحديات الدولية الراهنة دون الحديث عن الأزمة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، على وقع الحرب الإسرائيلية المستمرة، لما يزيد عن العام، على أبناء الشعب الفلسطينى المحاصرين بقطاع غزة، والمحاطين بأشكال القتل والترويع كافة.. وامتداد هذه الاعتداءات إلى الأراضى اللبنانية، مما يُعد أكبر دليل على ما وصل إليه عالمنا اليوم، والنظام الدولى، من تفريغ للمبادئ وازدواجية للمعايير.. فضلًا عن غياب المحاسبة والعدالة، إزاء الانتهاكات التى تُرتكب فى حق المواثيق الدولية، وقواعد القانون الدولى والإنسانى.. الأمر الذى نتجت عنه كارثة إنسانية غير مسبوقة، واستمرار الحرب وتوسعها.. وهى كلها شواهد تفرض تضافر الجهود الدولية لوقف التصعيد الخطير فى المنطقة، ومنع انزلاقها إلى حرب شاملة.. خصوصًا فى ظل امتداد الصراعات بالمنطقة، لتشمل العديد من الدول، وامتداد تلك الصراعات لتؤثر سلبًا على حركة الملاحة بخليج عدن والبحر الأحمر، وعلى حركة التجارة الدولية، واستقرار سلاسل الإمداد العالمية».. انتهى.
وهذا يطرح سؤالًا مهمًا: متى تُحاسب إسرائيل على الحرب الظالمة التى تشنها فى غزة؟.
كشفت الحرب الانتقامية الإسرائيلية القاسية التى مزقت غزة والضفة الغربية ولبنان، والتى قد تتوسع الآن إلى إيران، عن صدع خطير فى مفهوم عالمية حقوق الإنسان.. منذ السابع من أكتوبر 2023، تعلمنا أنه ليست كل الأرواح البشرية مهمة، ولا تخضع جميع البلدان للمساءلة عن أفعالها.. كما يقول الكاتب الأردنى، داود كتّاب.. وقد كان رد فعل العديد من الدول التى تُبشر بحقوق الإنسان وسيادة القانون وحرية التعبير غير متساوٍ على مقتل واحتجاز المدنيين والمقاتلين الإسرائيليين مقارنة بالشهداء المدنيين والمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين.. ولأن حزب الله يعتبر- فى نظرهم- «جماعة إرهابية»، فإن تفخيخ إسرائيل الهواتف المحمولة وأجهزة الاستدعاء التى يحملها أعضاء الحزب، حصل، إلى حد كبير، على غض الطرف عنها، بالرغم من أن هذه الأجهزة فجّرت وجرحت وقتلت مدنيين فى المستشفيات ومراكز التسوق فى لبنان، فى انتهاك واضح للقانون الدولى.. لقد تآكل تعريف «الإرهاب» بسبب هوية أولئك الذين يقاومون ضد إسرائيل.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لاختزال تاريخ الشرق الأوسط فى لحظة واحدة، هجمات السابع من أكتوبر، فقد تعلم العالم أن ما حدث للمدنيين الإسرائيليين وقوات الأمن فى ذلك اليوم لا يمكن ولا ينبغى إخراجه من سياقه.. لم يكن هجوم حماس الشرس أكثر وحشية من خمسة وسبعين عامًا من إنكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، أو سبعة وخمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلى، أو حصار قطاع غزة الذى دام أكثر من سبعة عشر عامًا.
لقد تم الكشف عن واشنطن وحلفائها بسبب معاييرهم المزدوجة.. من ناحية، يرفضون احتلال أوكرانيا ويفرضون عقوبات صارمة على روسيا، ومن ناحية أخرى، يزودون المحتلين الإسرائيليين بالأسلحة.. عانت غزة من هجوم لا يرحم لعدة أشهر، قبل أن يتم تمرير قرار مجلس الأمن الدولى لوقف إطلاق النار أخيرًا.. ولم تنفذه إسرائيل بعد.. وتتحمل وسائل الإعلام الدولية أيضًا اللوم.. لقد وقعوا فى أكاذيب، كرر بعضها كبار المسئولين الغربيين، والتى قد لا تُمحى بالكامل.. لم يكن هناك أى دليل على قطع رءوس الأطفال فى السابع من أكتوبر، ولم يتم إثبات استخدام حماس الاعتداءات الجنسية كسلاح، وتنفيذها بشكل منهجى للاغتصاب.. بينما حظيت الهجمات، بما فى ذلك الاغتصاب، على المعتقلين الفلسطينيين باهتمام أقل بكثير.. إن الدمار التام للكنائس والمساجد والمدارس والمخابز والمستشفيات فى غزة يتم تجاهله من قبل وسائل الإعلام، لأن إسرائيل تدّعى أن حماس مغروسة بين المدنيين وأن «لإسرائيل الحق فى الدفاع عن النفس»!!.
قلة من أولئك الذين يرددون هذه الكلمات قد استجابوا لاستنتاج فرانشيسكا ألبانيز، المحامية الدولية ومقررة الأمم المتحدة الخاصة، المعنية بالأراضى الفلسطينية المحتلة، «لا يمكن لإسرائيل أن تدّعى حق الدفاع عن النفس ضد تهديد ينبع من أرض تحتلها، من أرض تخضع لاحتلال حربى»، لا يمكن لأحد أن يناقضها فى الواقع، على الرغم من أن الكثيرين اتهموها ظلمًا بمعاداة السامية.. وباستثناء حالات نادرة، نجحت إسرائيل فى إبعاد المراسلين الدوليين عن غزة، وقتلت هجماتها الكثير من صحفيى فلسطين، مع مائة وثلاثين حالة إضافية، لا تزال قيد التحقيق.. وقال تامر المسحل، مراسل قناة الجزيرة فى غزة، فى منتدى إعلامى فى عمان، بالأردن، فى سبتمبر الماضى، إن ضباط المخابرات الإسرائيلية اتصلوا بالصحفيين وهددوهم إذا استمروا فى تغطية الوضع فى غزة.. وأغلق الجيش الإسرائيلى مكتب الجزيرة فى الضفة الغربية فى سبتمبر الماضى.
وبفضل الصحفيين الفلسطينيين الشجعان، الذين ما زالوا على الأرض، فضلًا عن وسائل التواصل الاجتماعى، وتقارير شهود العيان من الأطباء وغيرهم من العاملين فى المجال الإنسانى، فإن العنف الكارثى الذى يُرتكب ضد غزة قد اخترق القيود المفروضة على وسائل الإعلام.. لكن الهجمات المستمرة على قرى الضفة الغربية، التى تكاد تكون مدمرة، بتشجيع من بعض القادة الإسرائيليين وينفذها مستوطنون مسلحون، لم تلق إلا تغطية أقل بكثير، ولم تَرِد إلا قليلًا.. وذهبت إسرائيل إلى ما هو أبعد، حينما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلى، مؤخرًا، عن أن ستة صحفيين يعملون بشكل نشط مع قناة «الجزيرة» القطرية، هم أعضاء فى حركتى حماس والجهاد الإسلامى الفلسطينية.. وتقول قوات الاحتلال الإسرائيلى إنه استنادًا إلى معلومات استخباراتية، تم الحصول عليها من قطاع غزة خلال العمليات العسكرية، فإنها تستطيع أن تكشف أن الصحفيين الستة ينتمون إلى الجناح العسكرى لحركة حماس أو الجهاد الإسلامى.. وهو ما نفته الجزيرة ووصفت هذه المزاعم بأنها «لا أساس لها من الصحة ومفبركة»، وأشارت ضمنًا إلى أن إسرائيل تستخدم هذا كغطاء لقتل المزيد من الصحفيين، ومنعًا لتوثيق جرائمها فى قطاع غزة.
●●●
هذه الدعوة لمحاسبة إسرائيل على جرائمها سبق وأن اعتمدها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فى الخامس من فبراير الماضى، عندما أصدر قرارًا يطالب بمحاسبة إسرائيل على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبتها فى قطاع غزة.. فجاء تصويت المجلس، وهو الهيئة التى تكرهها إسرائيل، ليُمثّل لحظة أخرى فى النبذ العالمى البطىء لإسرائيل بسبب حربها فى غزة، والتى أسفرت حتى الآن عن مقتل ما يُقدر بنحو اثنين وأربعين ألف شخص، ثلثيهم من النساء والأطفال.. وقد صوتت ثمانى وعشرون دولة لصالح القرار، وامتنعت ثلاث عشرة دولة عن التصويت، وصوتت ست دول ضده، بما فى ذلك الولايات المتحدة وألمانيا.. وأكد القرار على «ضرورة ضمان المساءلة عن جميع انتهاكات القانون الإنسانى الدولى والقانون الدولى لحقوق الإنسان، من أجل إنهاء الإفلات من العقاب».. كما أعرب عن «القلق البالغ إزاء التقارير التى تتحدث عن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وخروقات جسيمة للقانون الإنسانى الدولى، بما فى ذلك جرائم الحرب الحالية والمحتملة والجرائم ضد الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة».
●●●
إن جثث الفلسطينيين، وبينهم أطفال، عند المستشفى المعمدانى الأهلى، بعد هجوم للجيش الإسرائيلى على جباليا، شمال قطاع غزة، وتدمير المربعات السكنية بالبراميل المتفجرة، وإجبار السكان على النزوج باتجاه الجنوب- جريمة يجب أن يندى لها جبين البشرية، خصوصًا العالم الغربى المتشدق بالعدل والحق فى حياة كريمة.. ومع هذا، فإن الدنيا لم تخلُ من إنسان يتحدث عن الحق، حتى لو كان فى صالح من يُعتبر عدوه.
يحظى عيران عتصيون بثقة لدى أعلى مستويات إسرائيل، بصفته شخصًا أدى خدمته مع أربعة رؤساء وزراء، وكان نائبًا لرئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى.. ويعد منتقدًا لرئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، منذ فترة طويلة، وأكسبته سنوات خدمته العامة احترامًا واسع النطاق.. يحذر عتصيون، الجندى السابق فى الجيش الإسرائيلى، من مغبة ارتكاب جرائم حرب فى شمال غزة، ويقترح أن يرفض الضباط والجنود الأوامر غير القانونية، «يجب أن يرفضوا.. إذا توقع الجندى أو الضابط ارتكاب فعل قد يُشتبه فى أنه جريمة حرب، يجب عليهم الرفض.. هذا ما كنت سأفعله لو كنت جنديًا.. هذا ما أعتقد أنه يجب على أى جندى إسرائيلى فعله»، يقول عتصيون.
تقع منطقة جباليا فى غزة، على بعد أقل من أربعين ميلًا، من شرفة منزل عتصيون، حيث نجلس فى شوريش بوسط إسرائيل، تحت أشعة شمس هادئة فى صباح خريفى فى حى هادئ، فيما يعمل بعض البنائين على تحسين المنزل- يقول فيرجال كين، مراسل بى بى سى الخاص- وأثناء الحديث مع عتصيون، يرسل الأطباء والطاقم الطبى فى المستشفى الإندونيسى فى جباليا نداءات استغاثة صوتية يائسة إلى المجتمع الدولى، يناشدون فيها الحصول على المساعدة.. وسمعت طبيبًا مسئولًا تحدث بصوت منهك عن الحرمان المستمر الذى فرضه الإسرائيليون خلال حصار جباليا، «صديقى، أنا متعب جدًا، لا أستطيع أن أشرح كم أنا متعب.. ليس لدينا ماء.. اتصلنا بالقوة الإسرائيلية للسماح لنا بتعبئة المياه فى الخزان، لكنهم لا يقبلون ذلك، بل يفجرون تلك الخزانات.. ولا نعرف ماذا سيحدث غدًا.. الوضع سيئ للغاية»، يقول الممرض.. ويروى ممرض آخر: «أنا آسف على لغتى، لا أستطيع التحدث بشكل جيد.. أنا متعب للغاية وأشعر بالدوار.. لم أتناول أى طعام منذ يوم أمس.. نحاول تقديم الطعام الذى نجده للمرضى وأسرهم، لكننا لا نُطعم أنفسنا».. يفر عشرات الآلاف الآن من جباليا، بينما يواصل الجيش الإسرائيلى هجومه على ما يقول إنه محاولة من حركة حماس لإعادة تجميع الصفوف.
يبدى عتصيون قلقه على المدنيين فى جباليا وعلى بلاده.. يقول: «هناك تآكل خطير للغاية للمعايير.. وهناك شعور واسع النطاق بالانتقام والغضب».. ويُرجع عتصيون الأمر إلى أن إسرائيل لا تزال تعيش فى حالة الصدمة بعد هجمات حماس فى السابع من أكتوبر، «يمكن فهم الرغبة فى الانتقام.. إنهم بشر، لكننا لسنا عصابة، لسنا منظمة إرهابية، ولسنا ميليشيا.. نحن دولة ذات سيادة.. ولدينا تاريخنا، ولدينا أخلاقنا، ولدينا قيمنا، ويجب أن نعمل بموجب القانون الدولى، وبموجب المعايير الدولية، إذا أردنا أن نظل أعضاء فى المجتمع الدولى، وهو ما لا نقوم به».. يتحدث عتصيون علانية كجندى سابق، كشخص خدم أولاده فى الجيش الإسرائيلى، ولا تزال عائلته وأصدقاؤه يخدمون، «أنا مجرد مواطن قلق أحاول رفع صوتى.. لذلك هذا ما أفعله.. أريد أن أحذر من تورط أى جندى فى أى شىء يمكن أن يشكل جريمة حرب».. لقد واجهت إسرائيل انتقادات دولية متزايدة بسبب سلوكها خلال الحرب، وهددت الولايات المتحدة بقطع شحنات أسلحة إذا لم تسمح إسرائيل بتدفق المساعدات إلى غزة.. واتهمت الأمم المتحدة الإسرائيليين بتكرار منع أو عرقلة نقل المساعدات، وكان آخرها إلى شمال غزة، كما اتهمتهم بتنفيذ سياسة تجويع متعمدة لإجبار السكان على الفرار من جباليا.
●●●
وقال أحد أبرز محامىّ جرائم الحرب فى بريطانيا، البروفيسور فيليب ساندز، إن إسرائيل كان لها الحق فى الدفاع عن النفس بعد هجمات السابع من أكتوبر، لكنها تنتهك الآن القانون الدولى، «على إسرائيل أن تفى بمتطلبات القانون الإنسانى الدولى.. ويجب أن تميز بين المدنيين والأهداف العسكرية»، ويؤكد ساندز، أنه «لا يُسمح لك باستخدام المجاعة كسلاح حرب.. لا يسمح لك بترحيل أو إجلاء أعداد كبيرة من الناس قسرًا».. ويرى المحامى الذى قاد قضية الإبادة الجماعية ضد ميانمار، وقضية إقامة دولة فلسطينية فى محكمة العدل الدولية فى لاهاى، أنه «من المستحيل رؤية ما يحدث الآن فى غزة، ورؤية ما حدث فى السابع من أكتوبر، دون القول إن الجرائم شديدة الوضوح».
سُئل ساندز: كيف نُميز بين جريمة الإبادة الجماعية والجرائم الأخرى؟.. وعما إذا كانت الأزمة فى غزة تجعله قلقًا بشأن بقاء القانون الدولى؟.
أجاب المحامى، الذى حصل كتابه الذى يروى بالتفصيل تجربة عائلته اليهودية مع الهولوكوست «شارع الشرق والغرب: حول أصول الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية» على جائزة «بيلى جيفورد» للأعمال غير الروائية- بأن المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كان له الحق فى السعى للحصول على مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتياهو، ووزير الدفاع، يوآف جالنت، وقال: «إن القانون الدولى لا يعمل على أرض الواقع بشأن روسيا وأوكرانيا.. ولا يعمل على أرض الواقع بشأن السودان.. ولا يعمل على أرض الواقع فيما يتصل بفلسطين وإسرائيل».. ثم أضاف: «يتعين علينا فقط أن ندرك ذلك.. ولكن هذا ليس سببًا لتمزيق النظام بأكمله.. إذا سألت نفسك ما هو البديل، وهو فى الأساس عدم وجود قطع من الورق مكتوب عليها عبارة المعاهدات، فقد عدت إلى الثلاثينيات، وعلى الأقل، ما لدينا الآن هو نظام قواعد يسمح للناس بالوقوف والقول: هذا انتهاك لمعاهدة».
ومن عجب، أن تصدر بيانات بأن «الجيش الإسرائيلى سيواصل التصرف، كما كان يفعل دائمًا، وفقًا للقانون الدولى»!!.. وبينما يقول منسق وحدة تنسيق العمل الحكومى فى المناطق، جناح الإغاثة الإنسانية بالجيش الإسرائيلى، إن سياستهم هى تسهيل دخول المساعدات إلى غزة «بلا حدود»!!.. فإن استمرار ظهور مشاهد القتل والدمار والمعاناة الإنسانية فى جباليا يوضح أن هناك تحديًا على نطاق واسع لرواية إسرائيل، وفضحًا علنيًا لكذبها المكشوف.
●●●
ولنكون أكثر وضوحًا فى الرد على سؤال: لماذا تفلت إسرائيل من العقاب على جرائم القتل فى غزة ولبنان؟.. فالشاهد أن إدامة الأكاذيب الإسرائيلية أمر خطير، ليس فقط لأن قول الحقيقة فضيلة، بل وأيضًا لأن الكلمات تقتل.. والواقع أن التقارير غير النزيهة قد تنجح فى تبرير الإبادة الجماعية، وهذا هو السبب وراء إفلات إسرائيل من العقاب على جرائم القتل التى ترتكبها فى غزة ولبنان، كما يقول الدكتور رمزى بارود.
إن الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلى، حول سبب استهدافه المناطق المدنية أثناء القصف المكثف والقاتل لجنوب لبنان فى العشرين من سبتمبر الماضى، هى أن اللبنانيين يُخبئون منصات إطلاق صواريخ بعيدة المدى فى منازلهم.. وكان هذا التفسير الرسمى يهدف إلى تبرير مقتل 492 شخصًا وجرح 1645 آخرين، فى يوم واحد من الغارات الجوية الإسرائيلية.. إن هذا التفسير الجاهز سوف يتكرر طيلة الحرب الإسرائيلية فى لبنان، مهما طال أمدها.. والآن تستشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية بهذه الادعاءات، وكما هى العادة، تردد وسائل الإعلام الأمريكية والغربية نفس الرواية.. ضع هذا فى اعتبارك وأنت تتأمل التصريحات السابقة التى أدلى بها الرئيس الإسرائيلى إسحاق هرتسوج، فى الثالث عشر من أكتوبر الماضى، عندما زعم أن غزة لا يوجد بها مدنيون، وأن «هناك أمة بأكملها مسئولة عن أحداث السابع من أكتوبر».. وهذا ما تفعله إسرائيل فى كل حرب تشنها ضد الفلسطينيين أو أى دولة عربية.. وبدلًا من إبعاد المدنيين والبنى التحتية المدنية عن بنك أهدافها، فإنها تعمل على الفور على تحويل السكان المدنيين إلى الأهداف الرئيسية لقنابلها.
إن نظرة سريعة على عدد المدنيين الذين قُتلوا فى الحرب الدائرة والإبادة الجماعية فى غزة، كافية لإثبات أن إسرائيل تستهدف الناس العاديين كأمر طبيعى.. فوفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية فى غزة، يشكل الأطفال والنساء النسبة الأكبر من ضحايا الحرب بنسبة 69%.. وإذا أضفنا إلى ذلك عدد الذكور البالغين الذين قتلوا- بمن فى ذلك الأطباء وغيرهم من العاملين فى المجال الطبى، وعمال الدفاع المدنى، والعديد من الفئات الأخرى- فسوف يتضح لنا أن الغالبية العظمى من ضحايا وحشية إسرائيل فى غزة كانوا من المدنيين.. ولا تزال وسائل الإعلام الإسرائيلية، وحلفاؤها فى الغرب، هى الوحيدة التى تواصل إيجاد المبررات لقتل المدنيين الفلسطينيين، والآن اللبنانيين، بأعداد كبيرة.
ولنقارن بين التصريحين التاليين- اللذين حظيا بقدر كبير من الاهتمام فى وسائل الإعلام- اللذين أدلى بهما المتحدث العسكرى الإسرائيلى، دانييل هاجارى، بشأن غزة ولبنان، يقول فى الخامس والعشرين من مارس الماضى: «تستخدم حماس المستشفيات بشكل منهجى لشن الحرب، وتستخدم باستمرار سكان غزة كدروع بشرية»، ثم ادّعى فى السابع والعشرين من سبتمبر، أن «مقر الإرهاب التابع لحزب الله بُنى عمدًا تحت المبانى السكنية فى قلب بيروت، كجزء من استراتيجية حزب الله فى استخدام الدروع البشرية».. بالنسبة لأولئك الذين يمنحون هاجارى وغيره من المتحدثين الإسرائيليين، بشكل روتينى، فرصة الشك، فما عليهم إلا مراجعة ما حدث فى غزة فى العام الماضى.. على سبيل المثال، ادعت إسرائيل أن المذبحة فى مستشفى المعمدان الأهلى لم تكن من صنعها، وأن صاروخًا فلسطينيًا هو الذى قتل ما يقرب من خمسمائة لاجئ نازح، وجرح مئات آخرين فى السابع عشر من أكتوبر الماضى.. خلصت جميع الأدلة، بما فى ذلك التحقيقات التى أجرتها جماعات حقوقية تحظى بالاحترام، إلى العكس.. ومع ذلك، لا تزال الادعاءات الإسرائيلية الكاذبة تُهيمن على عناوين وسائل الإعلام.
لقد تكررت حادثة المستشفى المعمدانى مع أكاذيب أخرى فى مناسبات عديدة.. والواقع أن الأكاذيب بدأت فى السابع من أكتوبر، وليس السابع عشر من أكتوبر، عندما ادعت إسرائيل قطع رءوس الأطفال والاغتصاب الجماعى.. ورغم أن الكثير من هذه الادعاءات ثبت بالدليل القاطع خطؤها، فإن بعض وسائل الإعلام، والمسئولين المؤيدين لإسرائيل، ما زالوا يتحدثون عنها وكأنها حقيقة مؤكدة.. وعلاوة على ذلك، ورغم أنه لم يتم العثور على أى مقر لحماس تحت مستشفى الشفاء، فإن الادعاءات الإسرائيلية التى لا أساس لها من الصحة استمرت فى الترديد، وكأنها الحقيقة الكاملة، وبالتالى بررت الموت والدمار فى المرفق الطبى الرئيسى فى غزة.. والآن يتم تطبيق المنطق نفسه على لبنان، حيث تزعم إسرائيل أنها لا تستهدف المدنيين، وعندما يُقتل المدنيون، فإن اللبنانيين أنفسهم هم الذين يجب أن يتحملوا اللوم على استخدام المدنيين كدروع بشرية.
بطبيعة الحال، يشارك كثيرون فى هذه اللعبة، ليس لأنهم غير عقلانيين أو غير قادرين على التوصل إلى استنتاجات سليمة، استنادًا إلى الأدلة الواضحة.. بل لأنهم سعداء بكونهم جزءًا من الرواية الإسرائيلية، وليسوا رواة قصص محايدين أو صحفيين صادقين.. إن إسرائيل تفلت من العقاب على أكاذيبها المتعلقة بالقتل الجماعى فى غزة، والآن فى لبنان، لأن الدعاية الإسرائيلية تلقى ترحيبًا، بل ويقبلها المسئولون والصحفيون الغربيون.. وعلى هذا، فعندما وصف مستشار الأمن القومى الأمريكى، جيك سوليفان، الغارات الجوية التى شُنت على لبنان فى العشرين من سبتمبر بأنها «حققت العدالة»، كان يوجّه رسالة إلى وسائل الإعلام الرئيسية مفادها أن تغطيتها للأحداث لا بد وأن تظل ملتزمة بهذا التقييم الرسمى.
ولنتخيل الغضب الذى قد ينشأ لو انقلبت الأمور، وقُتِل مدنيون إسرائيليون فى منازلهم بفعل القنابل اللبنانية.. لن تكون هناك حاجة إلى تفسير ردود أفعال وسائل الإعلام الأمريكية أو الغربية، لأنها ستكون واضحة لأى شخص ينتبه إلى ما يجرى.. إن لبنان دولة عربية ذات سيادة، وغزة أرض محتلة، وشعبها محمى بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.. إن حياة اللبنانيين والفلسطينيين، فى نظر المنحازين إلى إسرائيل، لا قيمة لها، ولا ينبغى السماح بإدانة وقوع جرائم القتل الجماعية ضدهم لأى سبب من الأسباب، خصوصًا استنادًا إلى الأكاذيب التى يروجها المتحدث العسكرى الإسرائيلى وترددها وسائل الإعلام المتواطئة.
●●●
ونعود إلى قمة «بريكس»، المنتدى الذى اكتسى بطابع عربى وشرق أوسطى مع انضمام مصر والسعودية والإمارات إليه مطلع السنة الحالية، وهو ما أضاف أسبابًا لانعكاس زلزال غزة، وحرب لبنان، والتوتر المتصاعد بين إسرائيل وإيران، على أجندته.. وجاء تأكيد الرئيس السيسى على أن النظام الدولى يعانى من ازدواجية المعايير فى التعامل مع الأزمات العالمية، خصوصًا فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة التى تُرتكب فى غزة ولبنان، وإثارته قضية غياب المحاسبة والعدالة فيما يرتكب من جرائم فى قطاع غزة ولبنان، حيث تتعرض البنية التحتية والمناطق السكنية لقصف مستمر دون محاسبة دولية فعلية، وهو ما يعكس موقف مصر الثابت من القضية الفلسطينية، والدعوة المستمرة لحل الدولتين واستعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى.. لذا، فقد نص بيان القمة على دعم قبول دولة فلسطينية كعضو كامل فى الأمم المتحدة، التزامًا مع حل الدولتين، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومبادرة السلام العربية، التى تنص جميعها على إنشاء دولة فلسطين، ذات السيادة والمستقلة والقابلة للحياة، بما يتوافق مع حدود الرابع من يونيو 1967 المعترف بها دوليًا، وعاصمتها القدس الشرقية.. وكان مهمًا أيضًا تضمين البيان تحديدات أكثر من العموميات المعروفة، وذلك بقوله حرفيًا: «إننا ندين الهجمات الإسرائيلية التى تستهدف العمليات الإنسانية والبنية التحتية والموظفين ونقاط توزيع المساعدات الإنسانية»، كما «نرحب بجهود مصر وقطر، والجهود الإقليمية والدولية الأخرى الرامية إلى وقف فورى لإطلاق النار، وتسريع إمدادات المساعدة الإنسانية وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة».
إن مضمون البيان يكتسب أهمية مضافة، مع ملاحظة كيف توافقت عليه دول متباعدة اقتصاديًا وسياسيًا، كما هو حال الهند، التى ذكرها بنيامين نتنياهو باعتبارها نقطة تجارة رئيسية فى «خط النعمة» بين تل أبيب وعبر الخليج العربى، وكما هو الحال مع الصين، الطامحة لمشروع منافس ضمن «خط الحرير» المار بآسيا ودول عربية وصولًا إلى أوروبا.. ويمكن الزعم بأن القضايا الاقتصادية والسياسية الأخرى التى ناقشتها القمة ترتبط أيضًا بقضايا الشرق الأوسط، التى تفاعلت مع زلزال غزة، بدءًا من العنوان الرئيسى للاجتماع، «بريكس والجنوب العالمى، لبناء عالم أفضل بشكل مشترك»، ومرورًا بقضايا الأمن الغذائى والطاقة، وكذلك قضية إيجاد بدائل للدولار.
إن التراجيديا الفلسطينية حاضرة فى كل هذه القضايا، سواء تعلق الأمر بالتجويع المنظم الذى تقوم به إسرائيل ضد شمال غزة حاليًا، وبمنع المساعدات الإنسانية والغذائية على كامل القطاع، أو تعلق بالعقوبات الاقتصادية والجزاءات المالية التى تفرضها إسرائيل على السلطة الفلسطينية.. الحرب الجارية فى الشرق الأوسط ترتبط بكل ما يجرى على كوكب الأرض، والحديث المتزايد عن «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» يعنى، فيما يعنيه، إعادة تشكيل العالم.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.