رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاويش محمد ورجاله.. «أغنية على الممر».. نبؤة الانتصار التى خرجت من رحم اليأس

 مشهد من فيلم أغنية
مشهد من فيلم أغنية على الممر

إنها النكسة.. الأيام تمشى ثقالًا على وطن جريح اقتطع العدو جزءًا عزيزًا من أرضه للتو.. الهزيمة تخيم على الأجواء والمرارة لا تجف فى الحلوق.. القلوب لا تتوقف عن النزف والأرواح يقتلها الكمد، فالفجيعة عظيمة والمصاب جلل.

على نفس أرض الوطن يعيش تلك الأجواء القاتمة شاب نحيل الجسد متضخم الموهبة خريج معهد السينما فاضت نفسه بحمم الإبداع وامتلك حلم صناعة سينما جديدة تعبر عن الشرخ القومى والآمال المهدرة وتستنطق الأحلام المقتولة بالهزيمة لعل الحياة ترتد إليها يومًا ما.

الشاب اسمه على عبدالخالق، ويشاركه حلمه ثُلة من الرفاق الأشداء الموهوبين ليؤسسوا معًا ما عرف باسم «جماعة السينما الجديدة»، ويكون ذلك إيذانًا ببداية جديدة لجيل واعد سيغير من وجه الفن السينمائى لاحقًا خلال عقدى السبعينيات والثمانينيات.

بدأ على عبدالخالق حياته العملية بالأفلام التسجيلية بفيلم «رشيد»، ثم فيلم اسمه «السويس مدينتى» خلد فيه حكايات كما الأساطير لأهالى السويس الذين رفضوا التهجير بعد النكسة، وعندما عاد من هناك محملًا بمشاعر العزة والكرامة المختزنة فى ذلك البلد العظيم.. وقعت تحت يديه مسرحية قصيرة من تأليف «على» آخر وهو «على سالم» كتبها الأخير تخليدًا لذكرى أخيه الذى استشهد فى ٦٧ واسمها «أغنية على الممر».. حينها شعر خريج معهد السينما الشاب بأن تلك قصته وهذا فيلمه الأول الذى يعلن به عن نفسه.

قرر أن يشارك صديقه مصطفى محرم فى كتابة السيناريو قبل أن يبحث عن منتج يغامر بإلقاء أمواله فى حجر شاب جديد لم يُخرج فيلمًا قبل ذلك.. وعندما صار السيناريو مكتملًا بدأ معركته الكبرى كى يخرج هذا الحلم للنور عبر طرق أبواب مؤسسة السينما التى جاء ردها الأول صادمًا له ولحلمه مفاده أن المؤسسة لن تتحمل مغامرة إنتاج فيلم حربى يصنعه شاب يجرب الإخراج لأول مرة فى حياته.

لم ييأس على عبدالخالق ورفاقه حتى جاءت الفكرة اللامعة الجديدة وقتها.. وهى الإنتاج المشترك بين مؤسسة السينما وجماعة السينما الجديدة ممثلة فى على عبدالخالق، شريطة ألا تدفع المؤسسة أجور الصناع غير ٢٠٪ فقط وتتبقى ٨٠٪ بعد عرض الفيلم لتدفع من إيراداته إن وجدت، وهو أمر غير مضمون بطبيعة الحال.

لكن على أى حال أخذ الشاب على عبدالخالق حلمه وبحث عمن يؤمن به ويوافق على خوض المغامرة معه، فأوقعت الأقدار أمامه فنانًا نبيلًا اسمه محمود مرسى كان خارجًا لتوه من ملحمة فنية اسمها «شىء من الخوف» بطلًا أمام شادية بجلالة قدرها، وافق الرجل على المغامرة والتمثيل بثُمن الأجر فقط بعد أن وقع فى غرام الفيلم ووافق معه بقية الممثلين الشباب الذين اختارهم على عبدالخالق ليكونوا رجال الممر وعلى رأسهم، محمود ياسين ذلك الشاب اليافع الجديد، ومعه أحمد مرعى فتى المومياء الذى كان يتحدث العالم عنه وعن فيلمه حينها، والثالث هو صلاح السعدنى الشاب الواعد الذى كان نجمًا تليفزيونيًا ولمع سينمائيًا فى رائعة «الأرض» ليوسف شاهين بدور علوانى.. ثم الرابع كان أكثر الشباب نجومية وشهرة وهو صلاح قابيل.. لتكتمل كتيبة الشاويش محمد ورجاله.

وتدور كاميرات على عبدالخالق فى العام ٧٠ ويبدأ الممثلون فى تصوير مشاهدهم التى تماهت مع واقع فعلى يعيشه الوطن حينها، حيث كان يخوض جنوده فى نفس الوقت حربًا مشرفة على الجبهة لاستنزاف قدرات العدو الغاشم.. فخرجت المشاهد آية فى البلاغة والعذوبة والصدق الذى لا يمكن أن تخطئه عين ولا إحساس.. ويصير الفيلم جاهزًا أخيرًا بعد أن تكلف إنتاجيًا ١٩ ألف جنيه بالتمام والكمال ليعرض فى عام ١٩٧١، ويفاجأ «على» وبقية صناع الفيلم بثمار لم يكونوا يتوقعون جنيها بتلك السرعة، وهالهم الاحتفاء الجماهيرى والرسمى للفيلم الجاف من أى خلطات ساخنة تلهب شباك التذاكر.. فقط ٣ جنود وقائدهم فى ممر ضيق فى الصحراء القاحلة.. مع قليل من الفلاش باك.. هذا كل شىء.

ويتوقف الجميع عند مشهد النهاية البديع الصامت الذى قال كل شىء دون أن تصدر كلمة واحدة عن بطليه الشاويش محمد «محمود مرسى» والجندى شوقى «محمود ياسين» المتبقيين بعد استشهاد الجميع.. وتنغلق الشاشة على رجوع شوقى بعد أن قرر الانسحاب حتى يوصل لحن أغنية صديقه الشهيد إلى الإذاعة طبقًا لوصيته.. لكنه راجع نفسه فى منتصف الطريق وقرر العودة إلى صندوق ذخيرته ليعتلى التبة أعلى رأس الشاويش محمد الممسك بـ«آر بى جى».. ويستعدان من جديد للمواجهة، وتنغلق الشاشة على هذا المشهد الملهم والمحرض على الصمود ويكون بمثابة نبوءة النصر المبين بعد سنتين فى السادس من أكتوبر عام ٧٣ عندما شاهد العالم هذا الجندى المصرى الأبى الذى لم يكن غير صورة حقيقية لما شخّصه الشاويش محمد وكتيبته فى الفيلم رقم ٦٦ ضمن أهم ١٠٠ فيلم فى تاريخ السينما المصرية «أغنية على الممر».

شاويش محمد  كيف جمع العدوان الثلاثى بين محمود مرسى وشخصيته فى الفيلم؟

المفارقة الغريبة أن العدوان الثلاثى على مصر ٥٦ كان عاملًا مشتركًا بين محمود مرسى والشاويش محمد.. فكلاهما قد تغيرت حياته للأبد بعد هذا العدوان.. فى الفيلم يأتى الخفير النظامى إلى محمد أثناء فلاحة أرضه ويقول له «عاوزينك فى النقطة حالًا»، وعندما سأله عن السبب قال له «النقطة بتجمع الأنفار اللى كانوا فى الجهادية قبل كده.. الظاهر والله أعلم يا محمد إن الإنجليز محروقين قوى من حكاية القنال دى- يقصد بالطبع قرار ناصر بتأميم قناة السويس»، فيترك فأسه مغروسة فى أرضه ويذهب إلى الجبهة ليفاجأ بالكماشة الغادرة والتى حددها بقوله «اليهود قدامنا والإنجليز والفرنساويين ورانا» وفجع العسكرى محمد بالجثث المغدور بها تحيطه من كل جانب وحينها شعر بأن الجيش مكانه الأصلى، فقرر التطوع نهائيًا وترك «القيراطين» لأولاده ليزرعوها، وصار جزءًا لا ينفصل من الجيش المصرى حتى إن العسكرى مسعد خفيف الظل على الممر قال ضاحكًا «متهيألى الشاويش محمد ده اتولد من بطن أمه عسكرى بشنبات كده».

هذا عن الفيلم، أما الواقع فيقول إن صحافة عام ٥٦ قد حكت قصة مشرفة لمذيع مصرى من الإسكندرية اسمه محمود مرسى يعمل فى إذاعة «بى بى سى» بلندن، بينما القوات الإنجليزية تهاجم بلده بمنتهى الخسة والندالة مشتركة مع فرنسا والكيان الصهيونى، ولم يستطع محمود إجبار نفسه على قراءة الأخبار المسيئة التى تحط من قيمة بلده وزعيمها جمال عبدالناصر فقرر ترك لندن برمتها ورمى نفسه ومستقبله فى حضن وطنه المجروح، ليبدأ حياة جديدة ومسارًا كان قد اختاره لنفسه قبل سنوات، لكن الظروف أبت وهو مسار الفن.. وبعد سنوات قليلة يصبح محمود مرسى بطلًا سينمائيًا له مذاقه الخاص الذى لم يقترب منه أحد، ويصير علامة مسجلة للأدوار الجادة المركبة التى تستعصى على غيره.

أما دور الشاويش محمد فى «أغنية على الممر» فالأكيد أن أحمد مظهر المرشح الأول لهذا الدور قد أصابه قدح من الندم على ضياعه منه بعد أن طلب تعديلات جوهرية على السيناريو، وهو الأمر الذى رفضه الشابان الجديدان على عبدالخالق ومصطفى محرم، واعتذرا له ليذهب الدور طواعية من حسن الحظ إلى الرجل الأنسب له وهو محمود مرسى، وينضم إلى أدواره الأيقونية التى جعلته من أكثر الفنانين الذين لهم أفلام داخل قائمة أعظم ١٠٠ فيلم فى تاريخ السينما المصرية بعدد ٦ أفلام

عسكري شوقي بداية نجومية لم تتوقف 

محاولة لاكتشاف وجه جديد للسينما.. كان هذا عنوان ما كتبت إيريس نظمى فى بابها الأشهر «ناس تحت الأضواء» فى عدد «آخر ساعة» ٢٣ أكتوبر ١٩٦٨ عن ممثل جديد اسمه محمود ياسين شاهدته إيريس بالصدفة فى مسلسل عبر التليفزيون يعرض حينها اسمه «الرحيل»، ولفت نظرها الشاب الجديد فأخذت تعدد مزاياه وتقول إن ميزته الأساسية فى صوته، فصوته قوى جدًا ينطق الكلمات بثقة وهو صاحب وجه مصرى صميم لا تنساه بسهولة.

نبشت إيريس الصحفية الكبيرة وراء محمود ياسين، وعرفت أنه خريج حقوق وممثل مسرح لا يشق له غبار، ومعين فى المسرح القومى منذ سنوات، لكنه مغمور ضمن مئات المغامير الذى يضجون بالموهبة لكنهم محبوسون بعيدًا عن أعين صناع السينما.. والكل ينتظر فرصة هنا أو هناك أو حتى صحفيًا يراه بالصدفة فيكتب عنه، لافتًا أنظار المنتجين مثلما فعلت إيريس وتفعل دائمًا فى هذا المقال.

بعدما كتبته إيريس بعام فقط كان محمود ياسين يقف أمام كاميرا حسين كمال فى رائعة «شىء من الخوف»، ثم جاء دور شوقى الشاب الذى وجد نفسه أخيرًا على الممر وهو يمنع دخول دبابات العدو بسلاحه وقوة إيمانه، وانتهت حالة التيه التى عاشها قبل الحرب بعد أن فشل فى كل شىء ومن هذا الدور ينطلق محمود ياسين إلى حقبة السبعينيات التى كانت حقبته الذهبية ليصير فتاها الرئيسى والاختيار الأول لمخرجى الأفلام الحربية التى أرّخت لانتصار أكتوبر العظيم فى ٧٣ وعلى رأسها بالطبع أيقونته الأخرى «الرصاصة لا تزال فى جيبى».

عسكري حمدي فتى المومياء الموهوب

ثانى رجال الشاويش محمد فى «الممر» هو صاحب الأغنية، حمدى الفنان الذى يملك موهبة عظيمة فى التلحين، لكنه يواجه سيلًا من الانحدار الفنى الذى يستهلك طاقته الفنية ويشوهها بابتذال مناسب لمرحلة ضياع كبرى يعيشها الوطن، قبيل النكسة وبعدها، وفى مشهد دال يخرج حمدى من الكباريه الذى تنتهك فيه أغنيته شاعرًا بيأس كبير من صلاح الأحوال، ويمشى هائمًا على وجهه فى الشوارع إلى أن ينتشله من ضياعه غناء العتّالين الممتع أثناء العمل الشاق فى زرع قضبان جديدة للقطار.. فتتغير حالته المزاجية للنقيض وتكتسى ملامحه بالأمل، ويتأكد من أن هذا الشعب لن يموت فنه أبدًا تحت أقدام العبث الجديد.

لا أظن أنه كان يمكن أن يؤدى ممثل آخر غير أحمد مرعى دور حمدى بهذا الصدق والحميمية.. مرعى كان حينها يسير بقوة دفع كبيرة من النجاح الأسطورى على المستوى النقدى لفيلمه الأول «المومياء» درة شادى عبدالسلام العظيمة وكتبت عنه الصحافة كثيرًا ضمن كتابتها عن الفيلم، وفى «الكواكب» عدد ٢٥ أغسطس ١٩٧٠ نشر تحقيق عن ٤ مواهب جديدة فى بداية الطريق من بينها أحمد مرعى، الذى عنونت موضوعه بجملة «وفى غير المومياء أيضًا»، فى إشارة إلى أن موهبة مرعى كانت كبيرة وواعدة ولا يجب حصرها على فيلم واحد أيًا كانت عظمتها، وأنهى محرر «الكواكب» تقريره بجملة أحمد مرعى من الجيل المثقف الواعى الذى تحتاجه السينما بلا شك.

عسكري مسعد هناكل إيه ليلة الدخلة؟

كان وجود مسعد ضمن كتيبة الشاويش محمد فى الممر أشبه بفاكهة باردة تروى أرض الممر القاحلة، وتجلب السعادة والضحك لقاطنى الممر المقفر، فكانت خفة ظله هى السلوان لبقية الكتيبة، وظل سؤاله الأسير الذى يطلقه بين الحين والآخر «هتعشى إيه ليلة الدخلة؟»، وهى الليلة التى كانت من المفترض أن يعيشها فى أول إجازة من الجيش، وهو ما لم يحدث نظرًا لاستشهاده ببسالة بين يدى الشاويش محمد بعد قليل.

مسعد هو صلاح السعدنى الشاب النحيل الذى نشرت صورته لأول مرة قبل ١٥ عامًا من وقوفه أمام كاميرا على عبدالخالق فى «أغنية على الممر»، وذلك فى مجلة التحرير الصادرة فى نوفمبر سنة ٥٥ ضمن صفحة بريد القراء التى كانت تنشر تحت مسمى «كرنفال»، وأسفل الصورة كُتب «صلاح السعدنى- الجيزة»، وبعد سنوات قليلة يبدأ هذا الفتى الذى يعيش فى الجيزة رحلته مع الفن من بوابة أخيه محمود السعدنى، وبعد تعرفه على رفيق العمر عادل إمام ومعه سعيد صالح لتبدأ انطلاقة صلاح مبكرًا عبر التليفزيون الوليد الجديد.

ومثل زملائه فى «أغنية على الممر» كان صلاح أيضًا منتشيًا فى نفس العام ١٩٧٠ بدور علوانى فى أيقونة «الأرض» ليوسف شاهين.. وهو الدور- على قصره- الذى أطلق لصلاح العنان ليكون تميمة سينمائية محببة للمخرجين والمنتجين بعد النجاح الجماهيرى والنقدى لـ«الأرض»، ثم جاء دور مسعد فى «الممر» ليكمل الصورة الذهنية عن موهبة صلاح السينمائية المتقدة ولولا ظروف لها علاقة بخلافات أخيه محمود مع السلطة لكان فى مكان آخر حينها، لكنه على أى حال أخذ نصيبه من المجد بعد ذلك فى التليفزيون عبر أيقونات مثل «ليالى الحلمية وحسن أرابيسك» عوضاه عن ظلم السينما.

عسكري منير من فهمى الوطنى إلى ندل «الممر»

قبل سبع سنوات من فيلم «أغنية على الممر» كان الوجه الجديد صلاح قابيل يؤدى دور عمره فى أيقونة نجيب محفوظ وحسن الإمام «بين القصرين»، وهو دور فهمى أحمد عبدالجواد الشاب الوطنى الثائر الذى يضحى بحياته فى سبيل مصر بمنتهى الشجاعة، وأبدع صلاح كثيرًا فى هذا الدور الحماسى الرائع، والغريب أنه أبدع أيضًا فى دور على النقيض تمامًا فى فيلم «أغنية على الممر» وهو دور منير العنصر النشاذ داخل ممر الشرف للشاويش محمد ورجاله، حيث اتسم بالجبن الشديد والانتهازية التى أبرزها المخرج بمشاهد «الفلاش باك»، لنكتشف رداءة شخصية منير الرخيصة التى وجدت نفسها على الجبهة دون إرادة منها لتظهر سوءاته، ولكنه يموت على أى حال على يد العدو الذى ذهب ليستسلم له.

صلاح قابيل كان العنصر الأكثر شهرة بعد محمود مرسى فى مغامرة على عبدالخالق وكان اسمه يوضع بطلًا على الأفيشات بعد أن صار نجمًا مثل فيلم «دلال المصرية»، الذى كان يعرض فى نفس وقت تصويره لـ«أغنية على الممر».. وأتصور أن على عبدالخالق اختار صلاح قابيل تحديدًا لهذا الدور لصعوبته وصورته السلبية المناقضة لباقى أبطال الفيلم، والتى تجعل الممثلين النمطيين أو قليلى الخبرة يخافون منه حتى لا يكرههم الجمهور. منير فى «أغنية على الممر» أخذ جزاءه مباشرة عندما أراد الهروب متشبسًا بحياته الرخيصة فجاءه الموت مهرولًا عبر لغم غادر انفجر فيه بينما يصرخ «مش عاوز أموت»، وعلى مرأى من العدو الذى لم نر نحن واحدًا منهم طوال الفيلم، وهذا دليل آخر على عبقرية على عبدالخالق.