رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ترامب.. الوجه الآخر!

جريدة الدستور

ربما لم تسمع بهذه القصة من قبل، لكن ترامب حكاها بنفسه قبل سنوات خلال فترة رئاسته الأولى. وقفت أمامه سيدة تبكى وتقول: «أختى ستموت فى إدلب». وكانت وقتها تستعد القوات الروسية والإيرانية والسورية لهجوم شامل فى هذه المدينة بسوريا؛ أى إبادة محتملة لآلاف الأبرياء. 
المثير أنه قبل أن يسمع هذه السيدة كان لا يعرف شيئًا عن إدلب وأين تقع!، وقال إنه تأكد مما قالته فى الصحف، وأمر فريقه بألا يحدث ذلك، ثم كتب تغريدة قال فيها: «لا تقتلوا الأبرياء»، من أجل امرأة!، وبالفعل توقف الهجوم، ولم يكن هذا القرار مجرد استعراض من رجل يبحث عن لقطة.. لكن المتتبع لشخصية هذا الزعيم.. سيدرك أنه يكره الموت والدمار، وأنه ينتعش.. حين ينجو الملايين من الموت بقرار منه! 
هذا شىء واضح وبديهى ومدخل إلى فهم هذه الشخصية المثيرة، فترامب يسوّق لنفسه طوال الوقت بأن فترته الرئاسية الأولى كانت بلا حروب، وأنه كان يسعى لإنهاء الصراعات العالقة. هو دائمًا يؤكد أن الحروب ليست مكلفة اقتصادية فقط، بل إنها تستنزف الأرواح، وتزيد من معاناة الأبرياء، وتدمر مستقبل الشعوب.. والحقيقة أن ترامب محق ولا يدعى.. وكل الشواهد تؤكد ذلك.
فى أوكرانيا مثلًا، كان موقفه واضحًا منذ البداية. قالها بصريح العبارة: «هذه الحرب لم تكن لتحدث لو كنت رئيسًا». وها هو الآن ينهى هذا الصراع بعد أن صار رئيسًا!.
فى غزة أيضًا، هو الذى أوقف حربًا استمرت 14 شهرًا، كانت إسرائيل خلالها لا ترى صغيرًا ولا كبيرًا، بل يبدو أنها كانت تنوى أن تمتد هذه الحرب إلى ما لا نهاية. 
لكن سياسة ترامب واضحة، وهى أنه يفضّل المفاوضات المباشرة، والضغوط الاقتصادية، والتهديد بالقوة دون استخدامها، على الدخول فى مغامرات عسكرية تقتل الأبرياء وتحدث الفوضى. 
وهو حين يتحدث عن غزة ويوقف هذه الحرب بأمر مباشر، فهو لا يفعل ذلك لأنه رجل الحق والفضيلة، هو أصلًا لا يعترف بفلسطين ولا الشعب الفلسطينى، بل يرى أن إسرائيل عليها أن تحمى نفسها لكن دون الحاجة إلى تصعيد أعمى يحوّل الأبرياء إلى أرقام جثث. هو يفعل ذلك ويقوله لأنه رجل أعمال ناجح فى الأساس، لم يتول أى منصب سياسى أو عسكرى من قبل، فمواقفه حاسمة وقراراته مدروسة وفق مصالحه كما يراها شخصه.
فى مسألة غزة على سبيل المثال: يرى الحل بسيطًا.. أن يرحل الفلسطينيون عن الأرض، أن ينجوا بأنفسهم، أن يغادروا قبل أن يبتلعهم لهب الصراع الصفرى والأزلى والأبدى بين المسلمين واليهود. هذا هو مبدأه، لا حديث عن أرض، لا اعتراف بحقوق، هو فقط يرتب المشهد حسب أولوياته، وأولوياته هى: إنهاء الحرب أولا ثم المصلحة ثم إنقاذ الإنسان!.. وهو صادق فى هذا ولا يدعيه حين يقوله.. فحياة الإنسان ضمن أولوياته!. 
لقد شاهدت مقطعًا له مع طفل صغير، هذا المشهد لا يشبه غيره، لقاء عابر لشخصية سياسية يصافح طفلًا، لكنه يلقى عليه حكمة لا تحتمل الجدل. ثلاث كلمات، ثلاثة أوامر، ثلاثة لاءات قاطعة: لا مخدرات، لا كحول، لا وشم.
هكذا بكل بساطة، بلا فلسفة، بلا مقدمات وبلا شروح، الطريق واضح، والقرار بسيط، نفّذ وستكون إنسانًا جيدًا!
لقد أدهشنى هذا المقطع، وربما لا يدرك الطفل ما قاله ترامب له الآن، لكنه سيتذكر لاحقًا حين يبدو الخطأ مغريًا، سيتردد، سيتذكر هذه اللاءات الثلاث، وربما- فقط ربما- يختار الطريق الصحيح لإنسانيته!.
هذه ببساطة شخصية ترامب، وهذا هو السر وراء شعبيته وثقة الشعب فيه مرة أخرى، لأنه يتحدث بلغة بسيطة نافذة يفهمها الجميع. انظر مثلًا إلى صورته فى الإعلام والبرامج واللقطات الخاصة، لا يتحدث أبدًا كسياسى، بل كإنسان يشبهنا، يضحك، يروى القصص، ويُظهر جانبًا من العفوية وخفة الدم، وهى كلها مفاتيح نجاحه.
وترامب فى ذلك لا يتكلف، هذه هى طبيعته، ومثلما نقول: لكل شيخ طريقة، فهو صاحب طريقة خاصة بين كل رجالات السياسة فى العالم؛ لا يتبع البروتوكولات التقليدية، يرقص بحركات غير متقنة أمام العالم، يرمى النكات، يسخر من الآخرين، لقد جعل السياسة تبدو أقل تعقيدًا، لقد أثبت ذلك بالفعل وهو يجلس على قمة أكبر وأقوى دولة فى العالم. 
سيقول أحدكم الآن بعد أن وصل إلى هذه السطور، أن هذه الصورة التى أتأثر بها مختلقة من قبل فريقه الإعلامى، وأنه وحش قاتل دموى يخفى قناع شر الرجل الأبيض المعروف. لكن الحقيقة فى نظرى: لا. هذا الرجل قمة العفوية، لا يتقمص دورًا ولا يقرأ من نص، ولا يبحث عن الكلمات المناسبة ليبدو أكثر تهذيبًا. يقول ما يريد كيفما يريد ومتى أراد، لا يعرف كيف يراوغ ولا يجيد لعبة الأقنعة، وهذا ما يجعله حقيقيًا، صادقًا.
ربما حاولوا، ربما اجتهد فريق كامل فى ضبط الإيقاع، لكن لم ينجحوا فى تغييره. ربما نجحوا فى شىء آخر: تركوه كما هو، فازداد التصاقًا بجمهوره، واكتشفوا أن وضوحه هو سر قوته. لم يفرضوا عليه قناعًا، فاكتشفوا أن وجهه الحقيقى أكثر إقناعًا.
لهذا هو الأنسب فى كل الظروف. لهذا يثقون به. ولهذا يراه كثيرون صديقًا قبل أن يكون شيئًا آخر. وربما لهذا السبب تحديدًا، يصفه الرئيس السيسى دائمًا بالصديق.. من الصدق.. لأنه لا يعرف كيف يكون غير ذلك.. حتى وإن كان صدقه ليس فى صالحك أحيانًا!.