رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بديع وولده عادل.. عندما ينمو الوجع بين ضلوع البهجة

جريدة الدستور

«دمعة على عادل».. لم يكن هناك ما هو أبلغ من ذلك العنوان على بساطة كلماته والذى وضعته مجلة «الكواكب» فى عدد ٧ مايو ١٩٦٣ على رأس تغطيتها لحدث جلل.. أربك الوسط الفنى وأصاب الساحة المسرحية بهزة لم تحدث منذ رحيل الريحانى قبل ١٤ عامًا فى نهاية الأربعينيات.

الحدث ببساطة كان وفاة عادل خيرى، بذرة الريحانى التى ألقاها فى أرض مصر الخصبة قبل أن يرحل لتزدهر سريعًا بشكل أسطورى وتطرح إبداعًا وتصير موهبة مؤهلة لملء فراغ هائل تركه سى نجيب أهم وأعظم من وقف على خشبة المسرح فى تاريخ الشرق.. فراغ لم يكن يتصور أحد من الذين ذرفوا الدموع غزيرة عليه يوم ٨ يونيو ١٩٤٩ أن يملأه شخص ولو بعد مائة عام.

بكى الناس الريحانى مرة أخرى مايو ١٩٦٣ فى صورة عادل خيرى، ذلك الشاب البديع فى موهبته، المذهل فى حضوره بعد أن اغتاله مرض عضال اسمه «سكر» ومذاقه «علقم».. وهو فى عنفوان شبابه.. كل من تبقى من فرقة الريحانى شعر بالغصة والحزن المضاعف على ذهاب عادل.. لكن هذا الحزن الجمعى لم يكن نقطة فى بحر أحزان رجل واحد سبعينى يمشى مغمومًا فى الجنازة كما رصدته عين صحفية «آخر ساعة» الشابة إيريس نظمى حينها وهو يردد جملة واحدة «يا خسارة.. يا ريتنى كنت أنا يا عادل».

إنه بديع خيرى رفيق الريحانى وأبوعادل.

قست الحياة على الشيخ العجوز وهى تُقطّع فى أوصال قلبه واحدًا بعد الآخر، وأنهكته الفواجع بفقدان الأخ والرفيق وسامر حياته نجيب الريحانى أولًا، ثم اقتطفت زوجته وحارسة دربه قبل عام فقط ثانيًا، وها هى تضرب ضربتها الأخيرة وتخطف ابنه عادل روحه وريحانه وجنة نعيمه.

بديع خيرى وولده عادل علاقة إنسانية درامية جديرة بالتفحص والتأمل وقراءة سطورها المبهجة الموجعة، ثم ترك العنان لأمارات التعجب والدهشة من تلك المفارقة التى جعلت ذلك الثنائى الذى ملأ الدنيا كوميديا وضحكًا وبهجة طازجة، وقد أكلتهما الأحزان والأوجاع حتى فرقتهما، بعد أن ذهب عادل إلى الضفة الأخرى تاركًا والده بديع عجوزًا كهلًا يجتر أحزانه وذكرياته المؤلمة لثلاث سنوات تالية مرت عليه كالدهر.. إلى أن رفق بهما الموت وجمعهما مرة أخرى بيده الحانية فى الأول من فبراير ١٩٦٦ يوم أن أنهى بديع خيرى سطوره الأخيرة فى الحياة.

 

لماذا قال بديع لنجيب الريحانى: أنت السبب فى فشل عادل؟

الريحانى»، لم يكن يريد لابنه عادل الانغماس فى الفن على الرغم من يقينه التام بموهبة ابنه المفرطة منذ نعومة أظافره؟

هذه هى الحقيقة، والأكثر من ذلك إدهاشًا أن هذا الأمر كان نقطة خلافية بين الرفيقين.. نجيب وبديع، وهما اللذان لم يعرفا الاختلاف يومًا، ملخص الأمر كشفه صحفى «الكواكب» حسين عثمان، أحد المقربين من عادل خيرى، الذى ستكون له شهادة حزينة على موت عادل سنتكلم عنها لاحقًا، يتحدث عثمان فى مقال مهم وحاد اللهجة بعد وفاة صديقه عادل بسبع سنوات نُشر فى «الكواكب» عدد ٢ يونيو ١٩٧٠ وجه فيه عتابًا قويًا إلى فرقة الريحانى التى أهملت الاحتفال بذكرى عادل خيرى السابعة، وقال إن أى دفاع لتبرير هذا التقصير غير مقبول مقدمًا، لأن عادل هو الذى أنقذ فرقة الريحانى من موت محقق بعد وفاة عاهلها العظيم.

سرد عثمان، بحكم معرفته الوثيقة بعادل، الإرهاصات الأولى التى مهدت له الطريق لاحتراف الفن على غير رغبة أبيه بديع خيرى وبتشجيع مباشر من نجيب الريحانى، حيث لم يكن عادل غريبًا على المسرح، فمنذ أن كان طالبًا فى الدراسة الابتدائية وهو يعتلى خشبته وكان يواظب على حضور مسرح الريحانى.. وكان يحلو لنجيب أن يجلس مع عادل يستمع لآرائه الفنية وهو طفل، وكانت آراؤه ناضجة رغم صغر سنه، وهنا وعده الريحانى بالوعد الأول حيث قال له:

«خلص دراستك الجامعية وأنا راح أعمل منك ممثل عظيم».

وفى مرحلة من دراسته الثانوية، كون فرقة تمثيلية وأخرج لها مسرحية «مزين الموضة»، وهى مسرحية كوميدية من أعمال بديع خيرى القديمة، دعا الريحانى ليشاهد هذه المسرحية، وكانت مفاجأة لناظر المدرسة أن يجد الريحانى بين جمهور المدعوين.. وما كاد الستار يسدل على نهاية المسرحية حتى قفز الريحانى فوق المسرح واحتضن عادل وقبّله بين تصفيق الجماهير.

هذا التشجيع والإيمان الكامل من نجيب بعادل الفتى المراهق جعله ينصرف تمامًا عن دراسته إلى التمثيل، وهو الأمر الذى أقلق بديع خيرى الذى نسى فى لحظة مكانته الفنية والإبداعية وتذكر فقط أنه أب يريد لابنه مستقبلًا مضمونًا بعيدًا عن مهنة يدرك مخاطرها جيدًا، فما كان من بديع إلا أنه ذهب إلى نجيب الريحانى وقال له معاتبًا:

«أنت السبب يا سى نجيب.. عادل مش حينفع فى المدرسة بعد كده».

هنا أدرك نجيب، ربما، أنه لا بد أن يتخذ إجراء آخر يصلح ما أفسده تشجيعه لعادل إرضاءً لصديق عمره وفى نفس الوقت لا يخسر الفن موهبة يراها بالغة السطوع وتنبئ بمستقبل عظيم لذلك الفتى، فزار نجيب فى يوم إجازة المسرح بيت بديع واستدعى عادل أمام أبيه وقال له وعدًا ثانيًا أكثر وضوحًا: 

«اسمع يا عادل لو نجحت السنة دى فى شهادة التوجيهية راح أبعتك على حسابى بعثة فى أوروبا أو أمريكا علشان تدرس التمثيل».

كان لهذا الوعد على ما يبدو مفعول السحر على عادل فانتبه إلى دراسته التوجيهية، وبالفعل نجح بتفوق وانتظر عمه نجيب ليحقق وعده، لكن سوء الحظ بدأ بأول ألاعيبه معه، حيث أُصيب نجيب حينها بذبحة صدرية قاتلة ألزمته المستشفى أيامًا طويلة، فلم يجد عادل بُدًا من الالتحاق بكلية الحقوق حتى لا يضيع كل شىء، ولما أفاق نجيب الريحانى من وعكته الشديدة أكد لعادل أنه لم ينس وعده له، وأكد أن عرض السفر ما زال قائمًا لكن بعد الحصول على شهادة الحقوق، ولكن الأقدار لم ترد لعادل السفر، فجاء مقلب الريحانى الكبير بموته المفاجئ عام ١٩٤٩ بينما عادل يطوى سنوات الحقوق طيًا منتظرًا اقتناص وعد الريحانى بدراسة التمثيل فى أوروبا أو أمريكا.

لكن على أى حال لم يحبط موت الريحانى عادل بل كان دافعًا أكثر على ما يبدو لتحقيق رؤية عمه نجيب، وفى نفس الوقت إرضاء والده بديع بامتهان المحاماة، فكان يتزعم فريق التمثيل بالكلية، يقدم مسرحيات الريحانى ويقوم بدور الريحانى نفسه ويقلد حركاته المسرحية المشهورة، ما أصبح نجاحه فى هذه الأدوار مثار اهتمام جميع زملائه.

بعد وفاة الريحانى أعلن بديع خيرى عن أنه يبحث بين المواهب الجديدة، عن فنان يمكن أن يقوم بأدوار الريحانى فى رواياته القديمة، وعقد امتحانًا لعدد من الفنانين الشبان وقتئذ ليختار منهم من تُنبئ مواهبه باستعداد جيد لتمثيل أدوار الفنان الخالد.. ودخل هذا الامتحان عادل، رغم معارضة بديع، ووقف أمام لجنة الامتحان التى تكونت من كبار الفنانين والنقاد والصحفيين وكانت اللجنة قد يئست تمامًا من إمكان العثور على موهبة كوميدية جديدة تستطيع أن تحمل اسم الريحانى على كتفيها.. إلى أن دخل هذا الشاب الجامعى مورد الوجه لامع العينين، وأغلب الحضور لم يكونوا يعرفون علاقته ببديع.. وتركهم الرجل على جهلهم، وفجأة دوت قاعة المسرح بتصفيق أعضاء اللجنة التى فوجئت بهذه الموهبة الجديدة.. وكانت المفاجأة التالية حين علم الأعضاء بأن الشاب الذى حاز إعجابهم هو ابن بديع خيرى.

وهنا بدأت علاقة عادل الرسمية بفرقة نجيب الريحانى وصار «أفوكاتو» بالنهار وممثلًا فى فرقة الريحانى بالليل، وظل على هذا النحو سنوات لا يكل ولا يمل حتى صار نجم الفرقة الأول.

كيف عاش بديع خيرى آخر أيام عادل؟.. يوميات أب مكلوم

الحقيقة أن المتأمل سير حياة بديع خيرى فى آخر أيام عادل خيرى لا بد أن يُصاب بالدهشة من قوة هذا الرجل السبعينى الذى غالب أحزانًا تهدم جبالًا راسية.. ومن قرأ عدد «الكواكب» فى أول مايو ١٩٦٣ سيجد ندوة كبيرة أقامتها المجلة كعادتها فى ذلك الوقت، وكان موضوعها المهم عن المسرح وماذا يريد المسرحيون، وكان طبيعيًا أن تدعو المجلة أحد أهم صُناع المسرح وهو بديع خيرى بالطبع.. لكن لم يكن طبيعيًا أن يقبل بديع الدعوة بتلك السلاسة وولده عادل فى أيامه الأخيرة داخل المستشفى، وذهب محمولًا على كرسيه من تابعيه الأمينين «عبده» و«شعبان» من بيته الأنيق الذى يسكنه أعلى عمارة الجيش بميدان الفلكى إلى مقر دار الهلال فى شارع المبتديان بالقرب من مسجد السيدة زينب.

كان بديع نجم الندوة وأكثر الحضور وعيًا بمشاكل المسرح وتشريحًا لمعوقاته.

أغلب الظن أن بديع كان يهرب من تثاقل الأوجاع عليه بالخروج والانخراط فى الأنشطة المسرحية والاجتماعية بجانب تأليف المسرحيات بالطبع.. كان يهرب من التفكير فى ولده أغلى وأثمن ما يملك فى حياته الذى يرقد فى غيبوبة الموت فى مستشفى جاردن سيتى.

كان جو بيت بديع مقبضًا قاتمًا تظلله سحابة حزن لا تنقشع فى تلك الأيام، فقد فارقته قبل شهور قليلة زوجته وشريكة عمره التى كان يرى أنها تمتلك النصيب الأكبر من أى نجاح حققه على الرغم من عدم اشتغالها بالفن، والمحزن أنها عانت قبل وفاتها من مرض مفاجئ داهمها دون إنذار وكان من نتائجه أن ذهب بنور عينيها فى آخر أيامها وعجز الطب عن علاجها.. وماتت تاركة ابنتها الوحيدة مريضة هى الأخرى مرضًا معجزًا ليس له علاج.. وولدها مبدع، الابن الأكبر الذى كان يستعد للزواج وتأجل الأمر بعد وفاة الأم ولحقها عادل بعد عام.. والابن الثالث نبيل، وهو الابن الأصغر لبديع وكان حينها طالبًا بمعهد السينما ومتزوجًا من نمساوية ولديه طفلة جميلة كالدمية اسمها بوسى كانت هى الوحيدة فى منزل بديع المقبض التى تخلو من الهموم والأحزان.. ويقطن معه فى البيت أيضًا التابعان الوفيان «عبده» و«شعبان» ومربية بوسى واسمها مبروكة.

ذلك ببساطة كان المحيط الأسرى الذى أحاط بديع خيرى بينما ابنه عادل خيرى معلقة روحه فى مستشفى جاردن سيتى.. يذهب إليه يوميًا يدخل عليه ينظر إليه وهو فى غيبوبته التى كانت هى المسيطرة فى تلك الأيام وفترات صحوه كانت قليلة خاصة بعد أن كاد دمه أن يصاب بالتسمم الكامل نتيجة عدوى نقلتها له إبرة حقنة ملوثة.. ثم يخرج الأب حزينًا مهمومًا لا يقوى على الكلام.

«يا محامى يا جوز المحامية» قصيدة زجل هدية الأب لابنه فى زفافه

زواج عادل كان «يوم المُنى» بالنسبة للأب بديع، خاصة بعد أن رأى نبوغ ابنه الفنى فى مسرح الريحانى والمهنى فى المحاماة، ولم يكن هناك من هو أسعد من بديع ليلة زفاف عادل خيرى على صديقة الدراسة فى الحقوق وبطلة السباحة وعابرة المانش «إيناس حقى».. ورصد صحفى «الكواكب» أنور عبدالله تلك الفرحة الظاهرة على الأب وباقى فرقة الريحانى فى تغطية المجلة لهذا الحفل فى تحقيق مصور بديع بعنوان «عروس البحر تزف إلى عريس المسرح».

علاقة عادل مع إيناس بدأت من مسرح كلية الحقوق عندما كان عادل يعد مسرحية الريحانى الشهيرة «حسن ومرقص وكوهين» ليمثلها مع فريق التمثيل، وكان المعتاد والمتعارف عليه حينها استعانة الطلبة بممثلات محترفات من الفرق المسرحية المختلفة ليقمن بالأدوار النسائية فى أى رواية لرفض الطالبات القيام بذلك. 

وأراد عادل أن يحطم هذا التقليد الرجعى، وحاول أن يسند دور البطولة النسائية فى الرواية إلى إحدى الطالبات، ولكنهن رفضن جميعًا.. إلا واحدة لم يكن عادل ينتظر منها أن تقبل ما رفضته زميلاتها.. كانت هى إيناس حقى.

وأُعجب عادل خيرى بهذه العقلية المتحررة التى صادفها فى كلية الحقوق وصارت تحت عينيه لا تتوه وحدث التقارب الكبير الذى فرح به الأب بديع جدًا، وكان يرى فى إيناس عاملًا محفزًا لابنه عادل على النجاح على المستويين المهنى والفنى.

والحق أن إيناس بالنسبة لعادل كانت أكثر من حبيبة ومشروع زوجة، حيث جمع بينهما حب مهنة المحاماة بالرغم من عشق كل منهما هوايته.. فقد كانت إيناس سباحة مبهرة تفوز فى السباقات الكبيرة فى الوقت الذى كان نجم عادل المسرحى يصعد على خشبة الريحانى.. إلا أن تلكما الهوايتين لم تمنعاهما من ممارسة مهنة المحاماة بكل الشغف.

بديع خيرى، الأب، كان يراقب حالة الحب التى ربطت بين ابنه عادل وإيناس بارتياح شديد، وعندما قررا الارتباط بشكل رسمى أصر بديع على أن يكون حفل خطبتهما فى حفل رأس السنة الذى اعتادت فرقة الريحانى إقامته فى مسرحها وتكون فرصة لأعضاء الفرقة للخروج من ضغط العروض والتقارب وإنهاء أى مشاحنات مترسبة سابقًا.. وبالفعل فى رأس عام ١٩٥٦ وقف بديع خيرى وتقفز السعادة من بين حروفه وهو يعلن على المسرح عن خطبة ابنه عادل على البطلة الأوليمبية إيناس حقى.

وفى عقر دار المحامين.. أُقيم مسرح الحفل، وصعد عليه النجوم ليشاركوا فى الاحتفال بزميلهم، فغنت نجاة الصغيرة، وألقت سعاد حسين بالمونولوجات والزهور، وأضحك المدعوين عدد من نجوم «ساعة لقلبك»، وغنى شفيق جلال واشتركت معه نجمة الرقص اللبنانية فادية إبراهيم بملابس السهرة، واختتم الحفل بوصلة غنائية شيقة من شيخ الملحنين زكريا أحمد.

لكن أين بديع من حفل زفاف عادل؟

لأنه بديع خيرى فكان لا بد أن يكون احتفاله بابن قلبه عادل مختلفًا عن احتفال الجميع وفرحته به لا بد أن تختلف عن فرحتهم، لذلك جهز الأب قصيدة زجل فى غاية اللطف والجمال، أوقف الحفل ووقف على المسرح ليلقى زجله الجميل بعنوان «يا جوز المحامية» نشرته «الكواكب» كاملًا فى نهاية موضوعها الجميل وهذا نص القصيدة: 

يا محامى يا جوز المحامية

إيناس فى نظرى أنا قضية

وأنت كسبتها مية المية

موش كده برضه ولّا أنا كداب

جعرت وشمرت دراعك

هوشت القاضى فى دفاعك

والحظ شاورت له بصباعك

قام نط وفط لحد الباب

محكمة التفريح العليا

حكمت لك بعروسة وغالية

تسعد بها وتخش الدنيا

والحكم ده فرحت له الأحباب

مشمول بنفاذ ونفاذ عاجل

بس أنا باستعجب يا سى عادل

ليه المصاريف تجى على الراجل

والدك من غير ذكر الأسباب

 

«يا خسارة يا ريتنى كنت أنا».. لقطة بديع الأخيرة أمام جثمان ولده

الحزن لم يكن عاديًا فى جنازة عادل، فالوجع كان غالبًا، وجع نابع من يقين راسخ فى صدر الجميع أن هذا الشاب متفجر المواهب كان يستحق عمرين فوق عمره القصير حتى تفرغ جعبة مواهبه.. شعور عام بالخسران الفنى العظيم باختفاء عادل ظهر على وجوه ميمى شكيب وحسين رياض ومحمد الديب وعدلى كاسب الذى أمسك بمنديله باكيًا الفتى الذى لم يأخذ حظه من الدنيا الظالمة، لكنها إرادة الله ولا راد لقضائه. سار أخواه، مبدع ونبيل، فى الجنازة يترنحان من الألم طبقًا لمشاهدة إيريس نظمى، وظهر الأب بديع خيرى وهو فى ذهول غريب يراقب قطعة منه مكفنة وموضوعة فى صندوق خشبى يحملها الأبناء والأصدقاء إلى آخر مكان يستحق أن يضمه فى ذلك الوقت وهو القبر.

كان الأب المكلوم الملتاع يردد جملة واحدة تحمل أمنية مستحيلة «ياريتنى كنت أنا يا عادل». لا كلام فى هذه الدنيا كلها يستطيع أن يصف تلك النظرة الحزينة الشاردة على وجه الأب وعينيه الناعستين اللتين تنظران إلى الفراغ.. رصدته عدسة مصور «آخر ساعة» وهو يجلس على مقبرة ابنه فى نفس اللحظة التى يُوارى فيها جسد عادل التراب.