شاركنى هذا الذهول.. لو سمحت!
أريد هنا أن أقاسمك ذهولى، وربما تكون سذاجتى، وبداية أقول لك إن علاقتى بتكنولوجيا الاتصالات مقصورة على المعرفة الضرورية للتعامل مع وسائل الاتصال لا أكثر، ومثل الكثيرين كنت أسمع عن الذكاء الاصطناعى حتى التقيت بصديق ففتحه لى وقال لى «سجل له ما تشاء»، فكتبت: «تلزمنى قصيدة عن شوق رجل لامرأة يحبها»، وخلال ثوانٍ صعقتنى النتيجة بالدهشة حين وجدت الذكاء الاصطناعى يكتب عنى، أو لى، هذه القصيدة: «فى ليالى البعد، يسكننى الحنين.. وصوتك فى قلبى نغمةٌ تنادينى.. أرى فى كل زاوية طيفك الجميل.. وعلى كل نجمة أكتب لك رسائلى»!!
هذه القصيدة لم يكتبها بشر، ولا صدرت عن قلب عاشق، لكنه إبداع جهاز، حاسوب، عديم الشعور والإدراك! ذهلت فطلبت منه أن يكتب لأجلى قصة قصيرة عن شاب فقير يحب فتاة فى منطقة شعبية من القاهرة، ففاجأنى بالقصة الآتية: «أحلام فى زقاق مظلم» قصة قصيرة: «فى حارة ضيقة من أحياء القاهرة الشعبية، حيث تلتقى الأزقة بالأحلام، عاشت ليلى، فتاة فى السابعة عشرة من عمرها، كانت ابنة الحى، تعمل فى مصنع للخياطة لتساعد أسرتها. تعيش حياة عادية ولكن قلبها كان يفيض بالأحلام والقصص. وفى إحدى ليالى الصيف الحارة، بينما كانت الأضواء تلتمع من المقاهى الصغيرة، لاحظت ليلى شابًا جديدًا فى الحى، كان اسمه كريم، شابًا مفعمًا بالحيوية، جاء من قرية نائية بحثًا عن عمل، عيناه اللامعتان كانتا تخبئان قصصًا لم تُروَ بعد. سرعان ما بدأ العمل فى البناء وكان يُعتبر ذكيًا وموهوبًا. تلاقت عيونهما صدفة عند زاوية الشارع، وكانت تلك اللحظة بداية قصة حب غير متوقعة. رغم الفقر والضغوط الاجتماعية، نشأت بينهما صداقة جميلة. كانا يجتمعان فى المساء عندما تنطفئ الأنوار، يتحدثان عن أحلامهما الكبيرة، ولحظات الماضى التى يتمنيان نسيانها».
ويمضى الذكاء الاصطناعى بالقصة إلى الخاتمة كالآتى: «مرت الأيام، لكن حبهما لم يقوَ على مواجهة الصعوبات. فى نهاية المطاف، كان عليهما الاختيار بين العشق والواقع. لكن لقاءهما فى ذلك الزقاق المظلم سيبقى خالدًا فى قلبيهما حزنًا وأملًا».
قل لى أنت، إذا كان بوسع جهاز ميت من الأسلاك واللمبات أن يكتب هكذا، فما الذى تركه للإنسان؟! الأمر ليس فقط مدهشًا لكن مخيفًا أيضًا، كأننا نحدق بفتحة هاوية بلا نهاية، ولذلك الذكاء الاصطناعى مستويات، منها البسيط الذى يتعرف مثلًا على الصوت أو الصور، ومنها مستوى قادر على خلق آلات وأنظمة تستطيع أداء أى مهمة فكرية يقوم بها البشر، ويعتمد الأخير على شبكات عصبية اصطناعية تحاكى بنية الدماغ البشرى، وهذا الذكاء ثمرة أو راية الثورة الصناعية الرابعة التى سبقتها ثلاث ثورات: المحرك البخارى ١٧٦٠، ثم ثورة الكهرباء نهاية القرن ١٩، ثم الكمبيوترات والنت والحوسبة فى نهاية ستينيات القرن العشرين، وقد توجت تلك الرحلة الطويلة بالذكاء الاصطناعى، الذى يفوق الخيال، ويثير الخوف، ويفتح الطريق لمئات الأسئلة الحيرى التى تطل من الذهول. فإذا كان بوسع الدماغ الاصطناعى أن يكتب مثل تلك القصيدة، ومثل تلك القصة، وكل ما تشاء من أنواع أدبية، فما الذى يبقى للإنسان؟ وما الذى يميز الأسلاك الكهربائية عن المشاعر الحارة الحقيقية؟. أظن، أو أود أن أظن، أن الإنسان سيصل إلى تحديد الفوارق القاطعة بين شاعرية الحديد واللمبات والأسلاك، وشاعرية القلب الإنسانى. أتمنى هذا لكننى حتى ذلك الحين أبقى مذهولًا أو قرويًا ساذجًا لا يستوعب ما يجرى، فيدعو الآخرين لمقاسمته هذا الذهول.