شىء من الحرب
تأتى الذكرى الحادية والخمسون لنصر أكتوبر المجيد هذا العام وسط أجواء حرب ساخنة فى محيطنا الإقليمى، وهى متصاعدة بشكل جنونى لا يُبشر بأى خير فى الآونة الأخيرة، وكانت «حماس» قد أشعلت مقدماتها بهجوم «طوفان الأقصى» فى ٧ أكتوبر من العام الماضى فى عملية مباغتة استهدفت إسرائيل على عدة محاور، وجاءت بشكل عام نتيجة استمرار الانتهاكات الإسرائيلية لساحات المسجد الأقصى والتمييز بين العرب واليهود وزيادة معدلات الاستيطان بالضفة الغربية، ومعها ارتفاع حدة القرارات العدائية فى مواجهة الفلسطينيين بعدما مال توجه الحكومة الإسرائيلية فى السنوات الأخيرة إلى اليمين المتطرف، وقبل هذا كله إحكام الحصار الصهيونى الخانق على غزة لنحو ١٧ عامًا الآن.
من وقتها أعلنتها إسرائيل حربًا شعواء تجاوزت فيها حدود اللا معقول، وإلى حد تعاطف شعوب العالم مع ضحايا غزة لأول مرة بإجماع غير مسبوق، ولكن صلف الكيان الصهيونى وعناده أخذا منطقة الشرق الأوسط إلى منعطف خطير بهجومه الجنونى مؤخرًا على لبنان وسوريا، فتحت إسرائيل أكثر من جبهة فى آنٍ واحد، والأمر بات جد خطير إلى حد أنها قد تكون معركة الحسم «نكون أو لا نكون»، الثقة كاملة فى وعى الدولة المصرية لخطورة الأزمة هذه المرة، ورأس الدولة الرئيس عبدالفتاح السيسى يؤكد فى كل وقت أن الأمن القومى المصرى فوق أى اعتبار، وهو بالفعل مُهدد هذه الأيام، وهى الحقيقة التى يجب أن يضعها الشعب المصرى نصب عينيه وعلى أجندة حياته اليومية.
يخطئ من يظن أن ملف الأزمة هذه المرة يخص الدولة وحدها، فهى فاصل تاريخى مصيرى مُتجدد من فصول الصراع العربى الإسرائيلى الممتد الآن لأكثر من سبعة عقود بدأت مع زرع الكيان الصهيونى فى فلسطين سنة ١٩٤٨، ولعل نصر أكتوبر المجيد سنة ١٩٧٣ خير شاهد على هذا، فلم تكن معركته فى حينها سياسية أو عسكرية وفقط، وإنما شارك فيها الشعب المصرى بأسره كلٌ فى مكانه ومن موقعه على امتداد القُطر المصرى، فكان أن تحقق النصر واستعادة الكرامة ورد الاعتبار، وصحيح أن النصر تحقق فى أكتوبر ٧٣ ولكنه جاء محصلة تكاتف جهود دامت متواصلة ومستمرة ست سنوات منذ هزيمة يونيو سنة ١٩٦٧.
فإذا ما احتفلنا بذكرى انتصارات أكتوبر هذا العام، فلا بد وأن نأخذ فى اعتبارنا الأجواء الملتهبة فى محيطنا الإقليمى، وننتهز فرص الاحتفال هذه المرة فى استحضار روح أكتوبر ٧٣ الجماهيرية تحديدًا، بالتركيز على دور الشعب المصرى وجهوده فى تحقيق النصر، وهى مناطق لا تزال رمادية غائمة لم تأخذ حقها فى الرصد والاستكشاف والتوثيق بما يوازى قيمة مشاركة الشعب المصرى فى المعركة دعمًا لروح الجنود على الجبهة وما ترتكته من آثار إنسانية مُلهمة باقية حتى الآن، ونحن فى «دار ريشة للنشر والتوزيع» انتبهنا لهذا واجتهدنا فيه احتفاءً واحتفالًا باليوبيل الذهبى لنصر أكتوبر المجيد العام الماضى، فأصدرنا كتاب «شىء من الحرب» لمؤلفه الكاتب الصحفى والباحث محمد توفيق بجزءيه «السلاح السرى» و«الكعك والبارود».
فى تصدير الجزء الأول «السلاح السرى» كتب محمد توفيق:
«استدعى الرئيس جمال عبدالناصر وزراء حكومته لعقد اجتماع سرى بعد ٢٦ يومًا من النكسة، ولم يكن جائزًا أن يتخلف أحد عن هذا الاجتماع. وذهب جمال إلى الاجتماع، وهو يحمل فى رأسه رسالة واضحة يريد أن ينقلها إلى وزرائه، لكنه يخشى تسريبها. وقبل أن يبدأ الرئيس حديثه قال مُحذرًا: الكلام اللى هيتقال هنا مايطلعش برة.. ثم نظر إلى الوزراء الجالسين أمامه وإلى جواره، وأخبرهم بأنه ليس مطروحًا أن يقول أى وزير ما يدور فى هذا الاجتماع لأحد حتى لو كان زوجته. وأخبرهم أنه علم أن بعض الحاضرين من السادة الوزراء تحدثوا مع المقربين منهم عما دار فى الاجتماع الماضى. وبعد أن تحدث سريعًا فى السياسة والعسكرية، انتقل للحديث عما يشغله، وسأل الحاضرين: هل لديكم أى ملاحظات؟.. وقبل أن يفكر أحد الوزراء فى الإجابة عن سؤال الرئيس، قرر جمال أن يجيب بنفسه عن سؤاله: أنا شايف إن التليفزيون حزين، والإذاعة حزينة، ومفيش داعى نعيط، الحرب لا تعنى التفرغ للبكاء على الماضى وسماع الأناشيد بقدر ما تُحتم التفكير فى المستقبل».
أما فى تصدير الجزء الثانى «الكعك والبارود» فقد كتب المؤلف:
«حاول أن تُصدق، فما جرى يصعب تصديقه، رغم أنه من الممكن توثيقه.. الجندى الذى جرى على قدميه خلف الدبابة وهى تحاول الفرار منه، والفلاح الذى عبر بجلبابه قناة السويس غير عابئ بالقنابل التى تتساقط حوله، والمزارع الذى أسر طيارى العدو بفأسه التى يزرع بها أرضه، والطبيب الذى نظف أرضية المستشفى، والمهندس الذى قاد سيارة الصرف الصحى، والفتاة التى أجلت زواجها وتبرعت بجهازها من أجل جيشها، والطفلة التى وهبت كل ما تملك للمجهود الحربى، ولم تكن تملك سوى ثمن علبة سجائر وقطعة صابون!.. فلم تكن حربًا للجنود وحدهم على خط النار، وإنما كانت معركة خاضها شعب بأكمله، اقتسم مع المقاتلين رغيف الخبز وكوب الشاى، واستغنى عن السكر، واكتفى بحلاوة النصر».
كلمة الزعيم جمال عبدالناصر جددت الإشارة إلى إيمانه بـ«القوة الناعمة» كأحد أهم أسلحة المعارك، ولعله أكثر من أجاد فاعلية استخدامها فى إدارة شئون الحكم، فكان ما يقوله فى خطبه ويردده فى تصريحاته يُحاوط الشعب المصرى فى وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، صحافة وثقافة وفن وخلافه، الجميع فى أنشطته اليومية ملتف حول نفس القضايا، فكانت هذه الوسائل رغم قلتها مؤثرة فاعلة إلى أبعد الحدود، وهو ما استنهض روح جموع المصريين حوله تباعًا منذ قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، حتى تجاوزت معه أزمات حكمه وأهمها هزيمة يونيو ٦٧ فكان أن شرع فى حرب الاستنزاف بعدها بأيام، وإلى حد التفافهم بنفس الروح المُتعاظمة حول الرئيس الراحل محمد أنور السادات حتى تحقق النصر على يديه فى أكتوبر ٧٣، بما ساهموا به من أدوار فى المعركة كما وثق محمد توفيق فى الجزء الثانى من كتابه.
روح «أكتوبر» وما قبله من سنوات الاستعداد لمعركته التاريخية المُلهمة هى ما نحتاج إليه بقوة هذه الأيام، وهو ما يفرض ضرورة الاحتفال بذكرى انتصاراته بتوجهات مختلفة هذه المرة، تأخذ أول ما تأخذ بعين الاعتبار دور الشعب المصرى فى تحقيق النصر بجانب السلاح والسياسة، حتى نعيد التأسيس لهذه الروح وسط أجواء الحرب الساخنة المحيطة بنا، والتى لا يعلم إلا الله ما تأتى به فى قادم الأيام.