نعيم الكتابة وعذابها
تنتابنى لحظات، ككاتب، لا كرجل مثقف، أفكر فيها بالعزوف عن الكتابة، أعزف عزوفًا تامًا عن الكتابة، خصوصًا، تلك الكتابات التى تبين مواطن الخلل فى المجالات كافة، وما يصادفنا فى الحياة من صعاب، ربما لا ينتبه إليها المسئولون.
ويراودنى هذا الإحساس أيضًا فى المجال الإبداعى، بعد أن كتبت الكثير من الروايات والقصص ونشرتها، وأصبحت أسأل نفسى ماذا أكتب؟ ولماذا أكتب؟ وما جدوى الكتابة؟
فى البداية أرى أن الكاتب يجب أن يكون حرًا، أو على الأقل عليه أن يسعى إلى أن يكون حرًا، وغير مقيد بقيود مجتمعية أو سياسية، ربما لأن الكتابة فعل تحررى، ينطلق منها الكاتب لفك قيود الرتابة المجتمعية، أن يكون حرًا فى اختيار المواد التى يكتب فيها والتعبير عنها بأسلوبه الخاص، الذى يفهمه مجتمعه والمحيطون به ومن يقرأون كتاباته، فى المقابل أن يحترم حرية المجتمع وقرائه ويحترم عاداتهم ومعتقداتهم.
ماذا أكتب؟ سؤال ربما راود الكثيرين، ممكن أصبحت هوايتهم الكتابة والورقة والقلم، ثم يتحول الأمر إلى نوع من الإدمان. وقد لا يستطيعون التخلص منه إلا بالكتاب فى الموضوعات التى تعجبهم، وهناك كتاب آخرون تكون الكتابة لديهم عبارة عن مهنة، وأقصد كتاب السيناريو والقصص والمسلسلات والأغانى وكتابة التعليقات والملخصات، والمقالات السياسية والصحفية فى الصحف. وهؤلاء يرون أن الكتابة ليست معضلة، وهى وسيلة وليست غاية، وسيلة لجلب الرزق والمال والجاه، وليست غاية لراحة الضمير، ويكتبون بغزارة ولا يهم رأى الآخرين أو نظرة النقاد والقراء، ولا يهمهم نظرة الناس إليهم.
الكاتب لا علاقة له بالتأثير الحاصل الذى تحدثه كتاباته، فى أى وقت من الأوقات، الكتابة بالنسبة إلى الكاتب شىء مصيرى وشخصى تمامًا. الكاتب لا ينتظر أن يرى آثار كتاباته على القراء أو فى المجتمع إنه يؤدى رسالته ككاتب لا أكثر.. يكتب الشعر لأن إحساسه وعقله يخبرانه بأن تلك هى الطريقة الوحيدة للتعبير عما يفكر فيه ويجول بخاطره أو خياله، وربنا كان البحار الذى كتب وصيته وهو على السفينة ووضعها فى زجاجة فارغة وأغلقها وألقاها فى البحر، يعتقد أن كتاباته ستحدث أثرها بلا محالة، حتى لو مات هو غرقًا فى السفينة، المهم أنه كتب ما يريد وأراح ضميره بما تحويه كتابته، عندما تضيق به السبل ويشعر بأنه مواجه الموت لا محالة.
ليس من السهولة أن ندعى أن الكتابة ليست ملء فراغ أو مجرد حاجة ما، أو أنها أمر غامض، اختص به الله الكتاب والمبدعين، ولا يعلمون أنها مثل أى فن أو حرفة تخضع لعوامل التعليم والثقافة والتدريب، لإتقان الحرفة أو المهنة، إنها تجربة المحاولة والخطأ، المهم أن يستفيد الكاتب من أخطائه ولا يكررها، ونرى أن الكتابة نوع من المغامرة بهدف اكتشاف دواخل ودهاليز النفس البشرية، كما أنها محاولة أيضًا لاكتشاف العالم بكل أبعاده الجغرافية والتاريخية، وتصبح للكاتب متع المكتشف، أو متعة مطابقة ما دار بخاطره وتفكيره وخيالة بالواقع المحيط به واتفق معه، وعبر عن دواخله، ودهاليز النفس البشرية بكل حالاتها، فى تأويلاته وأشعاره وقصصه ورواياته أو نصوصه المسرحية، وفى تأويله لشكلٍ لذلك، بشكل بسيط وقابل للفهم والإدراك، لأنه ناتج عن عقل يتغذى بالقلق والهواجس والخيال، وهنا فضيلته الكبرى.
ما يفكر فيه الكتاب والمبدعون، هو أن الكتابة لم تعد من متطلبات القلق النفسى والعاطفى، أو تجارب للفاشلين فى الحب. لكنها أصبحت ضرورة قادتها مصادفات كثيفة، ضرورية وحتمية، حتى خرجت بصورتها التى عليها، وأصبحت أفعالًا وحوارات وكلمات، سواء استخدمت صفحات التواصل الاجتماعى، أم شاء حظها أن تظهر فى صورة كتاب جميل الكتابة والطباعة.
الآن أصبحت الكتابة أمرًا حتميًا، يدفع صاحب الفكر إلى تسجيل أفكاره، لتصبح إبداعًا فى أى جنس أو لون أدبى كتبها صاحبها، لطالما كان هاجس المبدع الرئيس هو أن يضيف لمعارف الآخرين من قرائه ما جال بخاطره وفكر فيه، المهم أن تكون تجربته واعية ومصقولة ومنقحة، وبها تصبح له شرعية الوجود بين المبدعين، وله اسم وشخصية أدبية لها حضورها فى عالم المبدعين.
الكتابة هى الحضور الشخصى والطاغى للكاتب. لأنه وحدة يملك القدرة على التعبير للوصول إلى عقلية القراء.
وهنا أستعيد قول الكاتب والمفكر والشاعر اللبنانى الراحل أمين الريحانى، عندما قال فى إحدى كتاباته: «سيدى، دعنى ألق على كتفك رأسى، فيذوب ثلج فتورى ويأسى، قربنى من فؤادك لأتزود من الحب الذى لا يعرفه أحد من عبادك، سيدى، اسقنى من الحرية والحق والإخاء ما لا يشوبه الخوف والرياء».