التكنولوجيا القاتلة
فى الوقت الذى كنت أشارك فى إحدى الندوات لنقابة المهندسين عن العلم والتكنولوجيا وأثرها فى تطور المجتمعات، كانت إسرائيل تستهدف عناصر وقيادات من حزب الله اللبنانى باستخدام التكنولوجيا والهجمات السيبرانية من خلال تفجير أجهزة «البيجر» التى تستخدمها عناصر الحزب بدلًا من أجهزة اللا سلكى أو الهواتف المحمولة.. التى راح ضحيتها العديد من كوادر الحزب، ما يؤكد إننا دخلنا مرحلة جديدة أو عصرًا جديدًا من عصور الحروب التى تعتمد على التقنيات والتكنولوجيا الحديثة، خاصة أنها تحقق أهدافها بدقة كبيرة من خلال آليات التحكم عن بعد سواء عبر طائرات مسيرة لإصابة أهداف بعينها أو فى عمليات التجسس والاختراق والاغتيال لعناصر محددة كما تم فى عملية اغتيال الفلسطينى إسماعيل هنية فى إيرانا بالإضافة الى استخدام عدد من البرامج التى تعتمد على الذكاء الاصطناعى، حيث جاء العدوان الإسرائيلى الأخير على «حزب الله» ليؤكد مدى اعتمادها على هذا النوع من الحروب فى الوقت الحالى ،خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر الماضى فى أعقاب الهجوم الذى قامت به حركة «حماس» الذى دفع إسرائيل إلى اللجوء لاستخدام كل وسائل القتل حتى ولو كانت غير مشروعة، متذرعة فى ذلك بأنها تدافع عن أمنها وأمن شعبها.
لم تكن مذبحة «البيجر» هى المرة الأولى التى تستخدم فيها إسرائيل سلاح التكنولوجيا فى القيام بعمليات نوعية ضد «حزب الله»، فقد سبق لها استخدام هذا السلاح فى عمليات الاغتيال التى فقد فيها الحزب نحو 400 من كوادره خلال الأشهر الماضيةا على رأسهم القيادى فؤاد شكر، ما جعل الأمين العام للحزب حسن نصرالله يطلب من أعضاء الحزب وعائلاتهم التخلص من أجهزة الموبايل ونزع كاميرات المراقبة من شوارع الضاحية الجنوبية والتعامل بحذر مع شبكة الإنترنت بعد استخدام إسرائيل هذه الوسائل التكنولوجية فى اختراق قواعد الحزب واستهداف كوادره إلا أن ما حدث مؤخرًا شكل نقلة نوعية جديدة سببت أضرارًا أضخم وارتباكًا واسعًا داخل صفوف الحزب بل بين جميع أبناء الشعب اللبنانى، حيث أُصيب العديد من الأبرياء الموجودين فى الضاحية الجنوبية اللبنانية، كما تعرضت المنشآت والمنازل لخسائر كبيرة دون مراعاة لأى اعتبارات إنسانية عند قيام إسرائيل بتلك التفجيرات وعاش الشعب اللبنانى ساعات طويلة من الرعب والهلع خوفًا على حياته وبلاده.
لن نتحدث هنا أكثر من ذلك عن العدوان الإسرائيلى على لبنان من حيث أهدافه ودوافعه وكيفية تفجير أجهزة «البيجر»، فقد تناولت ذلك بالشرح والاستفاضة جميع وسائل الإعلام فى حينه، ولكننا نريد أن نتناول ذلك الاستخدام الخطير للتكنولوجيا الحديثة التى بدلًا من أن تُستخدم لنهوض البلاد ونموها ها هى تُستخدم لدمار البلاد وقتل الأبرياء وترويع البشر، حيث يمكن تدمير مناطق كاملة باستخدام التكنولوجيا القاتلة التى تقود صراعات وتنفذ مواجهات مسلحة دون المغامرة بجندى واحد، وهو ما يجعلنا أمام تحدٍ كبير فى ظل استخدام هذا الشكل الجديد من أدوات المعارك التى تم تحديثها على مدار السنوات الماضية، حتى باتت فى صورة جهاز يمكنه اختراقك وتحديد موقعك واستهدافك فى أقل من ثانية، مثلما حدث فى تفجيرات لبنان الأخيرة.
وتتخذ الحرب الإلكترونية أشكالًا عديدة وتطورات سريعة، فلم تقتصر على الطرود الخبيثة مثلًا بل توسعت قدراتها إلى أبعد من ذلك بكثير، بحيث أصبحت جزءًا من استراتيجية الأمن القومى فى العديد من الدولا خاصة مع تأجج الصراعات الدولية وصعود قوى جديدة تسعى لفرض كلمتها على العالم دون الانغماس فى مستنقع الحرب المباشرة والقائمة على إرسال جنود فى مناطق الصراع فى ظل ما تحظى به أدوات الحرب السيبرانية من قدرات خارقة يمكن من خلالها تدمير مدن كاملة بما فيها ومن عليها.
لقد فرض الواقع الجديد لاستخدام التكنولوجيا لشن الحروب السيبرانية استحداث مصطلحات حربية جديدة تضاف إلى المصطلحات التقليدية، حيث أصبح هناك ما يسمى «سباق التسلح الإلكترونى» و«ساحات الحرب الإلكترونية» و«الجهاد الإلكترونى» و«الإرهاب الإلكترونى»، وجميعها أوصاف لعمليات تقوم بها دولة ما تستهدف إتلاف أجهزة كمبيوتر أو شبكات للإنترنت أو اختراق شبكات تواصل لدولة أخرى أو عمليات اغتيال لشخصيات محددة أو تفجيرات وتدمير لمواقع معينة أو منشآت استراتيجية أو حيوية، ومن الواضح أن الحروب الحالية بدأت تأخذ هذا الاتجاه، وهو ما نشاهده حاليًا فى العدوان الإسرائيلى على غزة وعلى الجنوب اللبنانى.. ويشير العديد من الأبحاث إلى أن تكاليف تطوير الأسلحة السيبرانية ليست مكلفة للغاية، وبالتالى فإن العديد من الدول تستطيع تحمل هذه التكاليف مقارنة بأسعار الأسلحة التقليدية كالطائرات والصواريخ.. إلخ، كما أن لديها قدرة عالية على التخريب بكلفة اقتصادية منخفضة نسبيًا للمهاجمين وكذلك فإن المسئولية السياسية عن تلك الهجمات تعتبر محدودة إلى حد ما، نظرًا لصعوبة إمكانية تحديد هوية من قام بالهجوم.. كما أن القانون الدولى لم يضع نصوصًا قاطعة لمواجهة العمليات السيبرانية العابرة للحدود حتى الآن، وهنا نجد أن الحروب السيبرانية تجمع بين القدرة التخريبية العالية والانتشار السريع بتكلفة اقتصادية وسياسية محدودة.
لقد بات جليًا أن اعتماد العالم أجمع على الإنترنت والتكنولوجيا من الممكن أن يقود إلى حروب مدمرة باستخدام جيوش حديثة منظومتها القتالية سيبرانية لتصبح ميدانًا جديدًا من ميادين الحروب، ومن هنا فقد بدأ العالم فى الانتباه إلى تلك الخطورة المتصاعدة، وبدأت قضايا الأمن السيبرانى تأخذ أهمية كبيرة فى المجتمع الدولى وأيضًا المجتمع العلمى الذى يدرس كيفية اتخاذ تدابير الحماية التكنولوجية والسياسية وتكريس سبل التعاون الدولى ضمانًا للأمن السيبرانى العالمى على اعتبار أنه رافد جديد يهدد الأمن القومى لدول العالم المختلفة.
لقد أدرك الرئيس عبدالفتاح السيسى خطورة استخدام الحرب السيبرانية كسلاح قد يُستخدم ضد الأمن القومى المصرى فى أى وقت من الأوقات خاصة على ضوء تلك الصراعات التى تشهدها المنطقة المحيطة بنا من كل تجاه.. فكانت توجيهاته بضرورة العمل على حماية الأجهزة الإلكترونية والكمبيوتر وتطبيقات البرامج والأنظمة المهمة والبيانات من التهديدات الرقمية المحتملة، وهو ما جعل مصر تأتى فى الفئة الأولى بالمؤشر العالمى للأمن السيبرانى، وهو المؤشر المعنى لقياس مدى التزام الدول بمعايير الأمن السيبرانى، وجاءت مصر ضمن 12 دولة فقط نجحت فى تحقيق 100 نقطة من مجموع نقاط المؤشر.. وفى هذا الإطار شاهدنا الرئيس عبدالفتاح السيسى يفتتح مركز الحوسبة السحابية منذ أشهر قليلة وهو مركز على طراز فريد ومتقدم ويعد واحدًا من أكبر مراكز البيانات فى إفريقيا والشرق الأوسط.. كما أطلقت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات مبادرة «مجتمع رقمى آمن» لتعليم أساسيات الأمن السيبرانى وتأهيل وتطوير المهارات الرقمية لعدد كبير من الشباب من مختلف المراحل العمرية.
ويبقى أخيرًا العمل على رفع الوعى المجتمعى المعلوماتى وتعزيز الثقافة الرقمية من خلال التعلم والتأهيل بهدف دعم وتنمية استخدام خدمات شبكة الإنترنت بأمان والتعرف على المجالات الحديثة وكيفية حماية البيانات الشخصية والخصوصية، وهو دور أتمنى من وسائل الإعلام المختلفة القيام به من خلال الخبراء المتخصصين فى هذا المجال حماية لنا ولوطننا الغالى العزيز.