كارت محروق.. كذبة المصالحة التى صنعتها الجماعة الإرهابية ثم صدقتها
مساء السبت الماضى، قامت قناة «بى بى سى» البريطانية بإجراء حوار مع «حلمى الجزار»، القيادى بتنظيم الإخوان المعروف بعلاقاته التاريخية مع أجهزة استخبارات بريطانية. وهذه المرة الثانية فى أقل من شهر ونصف الشهر التى تقوم خلالها القناة بطرح موضوع المصالحة وعودة التنظيم للعمل فى مصر.
لكن هذه المرة الأخيرة، ولن أكون مبالغًا، حين أقول إنها الأخطر، وإن هذا الحوار يجب أن تتم دراسته جيدًا، لأنه يحمل أجراس خطر حقيقية تدق أبواب مصر، وتشى بأن هناك ما يُدبر لمصر.
ما خرجتُ به من انطباعات أنه حوار مُعد سلفًا، وأن الأسئلة تم انتقاؤها وتجهيزها بعناية بالغة، وأن المذيعة كانت أكثر ذكاءً من محاورها. وخلال الحوار، ومن خلال متابعة ردود أفعالها وتعبيرات وجهها، يتضح بسهولة أنها كانت ممتعضة من غباء محاورها، وأنه لم يقم بالرد بالطريقة المنتظرة منها، لدرجة أن يصل للمشاهد إحساس أنها كانت على وشك توبيخه؛ لأنه أفسد المهمة، وهذا من لطف الله بالمصريين.
أكاذيب الجزار برعاية «بى بى سى»
قدمت قناة «بى بى سى» حلمى الجزار بصفته «رئيس القسم السياسى بجماعة الإخوان»، وأول ما طرحته هو «مفاجأة الإعلامى عبدالرحيم على». حيث قال «الجزار» صراحة: إن الإعلامى هو من بادر بمحاولة التواصل مع التنظيم، وإنه قام بطلب وساطة «شخصيتين» من الشخصيات المقربة من «الرئيس الشهيد محمد مرسى» حسب تعبيره نصًا. وإن اللقاء قد تم بالفعل، وكانت الأمور تسير فى اتجاه طيب حتى كانت هجمات السابع من أكتوبر فتوقف الموضوع. وهنا يكون منطقيًا أن يتم توجيه السؤال إلى الإعلامى «عبدالرحيم على» عما حدث بالفعل، وباسم مَن فى مصر قام بهذا التواصل وماذا كانت رؤيته؟ أم أن هذا لم يحدث وهو قصة ملفقة؟.
فى السياق نفسه، بادرته المذيعة بأن الرفض المصرى للجماعة لا يخص النظام الحاكم بمفرده، وإنما حتى القوى المدنية المصرية تتوافق مع النظام فى هذا الرفض؟ ففاجأنا القيادى الإخوانى مرة ثانية بقوله إن هناك كثيرين ممن يمثلون هذه القوى يتواصلون مع الجماعة سرًا، وإن تواصلهم هذا يحمل وجهات نظر مخالفة تمامًا لمواقفهم المعلنة. فهم يرحبون بعودتنا، ويرون أن مصر بحاجة إلى جميع أبنائها.
إذن نحن أمام احتمالين، الأول: هو كذب القيادى الإخوانى فى روايته بغرض تفتيت جبهة الرفض المصرية لعودة التنظيم لممارسة نشاطه على أرض مصر، والثانى: هو أن هناك من رموز النخبة المدنية المصرية من يخدعون المصريين، ويقومون بدور الطابور الخامس، وأن لديهم أجندات شخصية لا يعلم المصريون عنها شيئًا.
الاعتراف بـ«العالمية»
فى معرض رده عن الخلافات بين قيادات التنظيم الحالية ألقى «حلمى الجزار» بأهم ما يمكن أن يساعد المصريين على إدراك المشهد على حقيقته.. وهو أنه يتحدث بصراحة عن عودة تنظيم دولى متعدد الجنسيات للعمل فى مصر، وليس عودة أفراد مصريين كانوا منضمين للتنظيم. سألته: مَن عيّنه كرئيس للقسم السياسى وهو يقيم فى لندن، بينما محمود حسين فى إسطنبول يرفض ذلك ويقول إن الجزار ومن يتحدث باسمهم لا يمثلون الجماعة، وهناك الكماليون نسبة للقيادى محمد كمال؟.. رد «الجزار» بأنه مقيم فى إسطنبول منذ أربعة عشر شهرًا، وإنه منذ خمسة عشر عامًا لم يزر لندن، لكنه سوف يقوم بزيارتها سياحيًا قريبًا. وإن الخلاف بينهم خلاف إدارى قانونى مؤسسى، وإن محمود حسين قد وقع فى خطأ تفسير اللائحة الداخلية، وإن رجال قانون سوف يقومون بحل هذا الخلاف طبقًا لبنود اللائحة.. ثم قال أهم ما فى حديثه فى هذا الجزء: إن تنظيم الإخوان تنظيم مؤسسى به أفرع فى عدة دول فى تركيا وإنجلترا وغيرهما من الدول، وإنه من الوارد حدوث خلافات إدارية فى أى مؤسسات، فنحن نعمل بشكل مؤسسى. فالرجل يعلنها بصراحة ووضوح أنه يتحدث باسم التنظيم الدولى للإخوان المسلمين، وهو تنظيم متعدد الجنسيات.. فلا تحدثنى إذن عن مصر وأنهم يريدون العودة للمساهمة فى بنائها كوطن.
ثم كرر ما يعتنقه أفراد الجماعة عن عالمية التنظيم القائم على فهمهم للإسلام.. فلم يتغير حسب حديثه أى شىء، لا فكرًا ولا إنكارًا لاقترافهم جرائم إرهاب مسلح، وتمسك بلفظ «الرئيس الشهيد محمد مرسى».
أوهام التنظيم
اكتظ حوار «الجزار» بتلال من الأكاذيب الفظة وربما هذا الذى ألقى بالوجوم على وجه المذيعة لأنها كانت تتوقع منه أن يكون أكثر ذكاءً ومراوغة. فردًا على سؤال محدد عما تحمله الجماعة لتقديمه للمصريين من تراجعات عن أنشطة العنف التى مارستها، لم تستخدم لفظ الإرهاب، رد الجزار ردودًا مهمة تؤكد أن أى محاولة مستقبلية لإرجاع أنشطة هذا التنظيم فى مصر ستكون خيانة صريحة للدولة المصرية والمصريين ولدماء الشهداء ولكل من دفع ثمن التخلص من إرهاب الجماعة. قال «الجزار» إن الجماعة طوال تاريخها لم تحمل السلاح إلا فى وجه المحتل الأجنبى. وإن الاعتصامات لم تكن مسلحة، وإن «شخصية سياسية إفريقية» كبرى قد زارت موقع الاعتصام، وشهدت أنه لا يحوى أى مظاهر تسلح. وإن الجماعة لم ولن تحمل سلاحًا لا ضد المواطنين المصريين، ولا ضد مؤسسات الدولة المصرية.
وحين كررت سؤالها مرة أخرى بشكلٍ أكثر تحديدًا عن ضحايا الشرطة المصرية الذين سقطوا برصاص قناصة قبيل فض الاعتصام، رد قائلًا: لقد سقط مئات الضحايا فى فض الاعتصامات، ثم أردف وكرر نفس أدبيات جماعات الإرهاب المسلحة المصرية عبر تاريخها، حيث قال إن السلطات هى من بدأت فى استخدام العنف ضد الجماعة، واستشهد بمشاهد حدثت قبيل فض الاعتصامات مثل أحداث الحرس الجمهورى، ولما رأى أن كلامه بمثابة اعتراف بارتكاب جرائم إرهابية استدرك قائلًا: ولكن أيضًا هذا ليس معناه أن يكون هناك عنف مسلح، لا ضد المواطنين ولا ضد مؤسسات الدولة، وإنه شخصيًا كان فى السجن من شهر يوليو، وإنه لم يشاهد ما حدث فى الاعتصام.
هل المصريون سُذج؟
هل كانت هناك أخطاء فى تاريخ الجماعة؟ ردّ: كان هناك بعض الأخطاء فى عهد المرشد الأستاذ حسن البنا، لكن بعد ذلك لم تحمل الجماعة أو التنظيم الرئيسى للإخوان سلاحًا ولم ترتكب عنفًا.
لماذا تعتقدون أن عودتكم ممكنة؟ رجع «الجزار» لأوهام كوادر الجماعة العلمية التى يحتاج إليها الوطن. فمصر الآن فى أزمة وتحتاج لتكاتف كل القوى الوطنية للعمل من أجل الارتقاء بمصر. وتتفق معنا فى هذا الطرح قوى مصرية كثيرة، ترى أنه قد آن الأوان لخروج كوادر الجماعة من التنظيم من السجون. ووجه اتهامات للقضاء المصرى قائلًا: «إننا نحتاج لقضاء عادى عادل لأننا حُوكمنا أمام قضاء استثنائى».
لقد أنكر «حلمى الجزار» كل ما عاصره المصريون ورأوا بعضه على الهواء مباشرة من جرائم مسلحة، وأنكر ما شاهدناه من لقطات تصويرية توضح قطع الأسلحة، وأنكر حق الدولة فى إنهاء اعتصام اختطف بعض مناطق مصرية وجهزها بما يشبه ثكنة عسكرية، وأقام ودشن الحواجز العسكرية وقام بتفتيش مواطنين ومنعهم من المرور، قدم الجماعة كجماعة سياسية سلمية تمامًا. وهو ما استفز المذيعة، لأنها تدرك سذاجة هذا الطرح، فأعادت عليه نفس السؤال بأكثر من طريقة: أنت تكرر نفس الخطاب، فما الجديد الذى تحملونه؟ الجديد هو أن مصر فى حاجة لأن تطلق سراحهم حتى يقوموا بالمساهمة فى البناء. ورفض وراوغ فى تقديم أى اعتذار عن جرائم الجماعة.
المظلومية الكاذبة
لم ينس التذكير بخطاب المظلومية.. سألته عن مدى خوفهم من التقارب المصرى التركى، وحقيقة أدهشنى بعبارته الأولى، قال: نحن سعدنا كثيرًا بهذا التقارب فهو يصب فى مصلحة الوطنين تركيا ومصر، ونحن أسعد الناس بذلك. لم يتم سحب الجنسية التركية من أحد إلا فى حالتين بسبب مشاكل إدارية وتم إرجاع الجنسية لهما، لم يُطلب منا غلق قنوات تليفزيونية، ولكن وارد لكل دولة، ومن حقها، يقصد تركيا، أن تطلب تخفيف حدة الخطاب الإعلامى.. قناة «مكملين» هى التى بادرت بالانتقال إلى مكانٍ آخر.. «تركيا» قامت بمنح ملاذ لكل المظلومين ليس فقط لنا، وضرب أمثلة بأصحاب جنسيات أخرى مثل السوريين.
لكن ما ورد فى حديثه أقرب للدعابة السمجة.. أنهم مُنحوا الإقامة فى تركيا بصفتهم البرلمانية كبرلمانيين مطاردين من قِبل النظام المصرى.
تفجير القوى المدنية
أما أخطر الأكاذيب فهو، حسب نص حديثه، أن الجماعة أبلغت القوى المدنية السياسية التى تواصلت معها أنها، أى الجماعة، لن تزاحم تلك القوى فى أى منافسة للوصول إلى السلطة السياسية. هذه العبارة التى طالما خدعت بها الجماعة نظمًا وقوى سياسية مصرية سابقة، فكانت بعد تورطها الصريح فى جرائم قتل أو تخريب وبعد قيام الدولة بحظرها، كانت تنسحب كالأفعى رافعة نفس اللافتة: «نحن لن ندخل فى صراع سياسى.. دعونا نعود كجماعة دعوية.. لا نهدف للوصول لسلطة».. فقط أعيدونا نعبث بالعقل المصرى عبر جمعياتنا ومساجدنا، وفى كل مرة كان القائمون على إدارة مصر يسقطون فى الفخ، ويُسقطون مصر معهم فى براثن هذا التنظيم ثم ندفع الثمن فى كل مرة أفدح من التى سبقتها. كرر الجزار بث نفس العبارات المسمومة التى تهدف لاستدراج مصر إلى نفس الفخ.
فهل هناك قوى مدنية فى مصر، سواء أحزابًا سياسية أو تكتلات ثقافية نخبوية، تصدق هذا العبث؟. لو أن هناك من يصدق فهو لا يصلح لموقعه السياسى أو الحزبى، لأنه ببساطة إما أن يكون جاهلًا تمامًا بما يتصدى له، أو أن يكون متواطئًا مقابل منافع شخصية.. فى عبارة موجزة رد بها «عبدالناصر» على «السادات» حين ألمح له، بعد تورط الجماعة فى الإرهاب عام ٥٤، بأن هناك من يتحدث عن مصالحة مع الإخوان، ردّ «عبدالناصر» بجملة حاسمة: «اسمع يا أنور اللى يتكلم عن مصالحة مع الجماعة يبقى خاين».. وأنا أكررها اليوم: أى كوادر سياسية تدعى أنها من القوى المدنية تزعم أنها تصدق هذا الزعم، فهى إما غير جديرة بالعمل السياسى أو أنها كوادر وخلايا نائمة. من بديهيات العمل السياسى أن يلم المشتغل به بتاريخ بلاده السياسى المعاصر، وأن يلم بتاريخ الكيانات السياسية المعاصرة للمشهد.
الخلاصة وبيع الوهم
فى الحقيقة أنا أشكر «حلمى الجزار» على حواره هذا، وعلى هذه الدرجة من الغباء السياسى، لأنه قدم خدمة جليلة للمصريين ولمصر قطعًا دون أن يقصد.. كما أشكر هذه «القناة البريطانية»، التى ترتبط قطعًا بأذرع ما، وتعمل طبقًا لنظام مؤسسى وطبقًا لبنك أهداف طويل المدى، على أنها ساهمت بغير إرادتها فى تقديم هذه الوثيقة لنا..
وخلاصة هذه الوثيقة ما يلى..
جماعة الإخوان المسلمين وبتكليف مباشر من التنظيم الدولى الإرهابى تريد خداع المصريين صراحة، وتريد أن تلدغهم للمرة، التى لا أتذكر عددها يقينًا، لكن ربما السادسة منذ نشأتها، من نفس الأفعى.
الجماعة متمسكة حرفيًا دون تراجع بكل أفكارها ومعتقداتها، ولم تغير فيها قيد أنملة.
الجماعة تنكر ما عاصرناه من اقترافها جرائم الإرهاب.
رفض الجزار تقديم أى اعتذار عن تلك الجرائم.
الجماعة ترى فى إطلاق سراح مدانين فى جرائم إرهاب عدلًا وخيرًا لمصر.
الجماعة تستمر فى تطاولها على مؤسسات الدولة وهذه المرة على القضاء المصرى.
الجماعة تريد بيع الوهم للمصريين مرة ثانية فى أقل من عقدين بالحديث عن حاجة مصر لكوادرها.
وأى مُشاهد للحوار سيخرج بنتائج يقينية تتلخص فى الآتى:
أى حديث عن مراجعة فكرية بعد هذا اللقاء سيكون فخًا متقن الإعداد وكمينًا صريحًا للمصريين.
أى حديث عن مصالحة وعودة، يعنى عودة التنظيم لا الأفراد كمواطنين.
قبول المصريين فكرة المصالحة والعودة يعنى ضمنًا قبولهم عودة التنظيم الدولى لأرض مصر وإعادة كل ما سبق عبر العقود الماضية.
على المصريين الانتباه لأى حديث يصدر عن قوى تسمى نفسها مدنية بخصوص الجماعة.
القول الفصل: على المصريين الاختيار، وأن يحددوا هل كانت ثورة يونيو هدنة يعود بعدها التنظيم أكثر مكرًا وقوة اقتصادية لإهدار عقود جديدة من عمر مصر، أم تكون نهاية أبدية له ولفكرة وجود تنظيمات أو جماعات دينية بخلاف المؤسسات الدينية الرسمية؟
لو سمحت مصر مرة أخرى بعمل تنظيمات دينية، تدعى أنها دعوية، على أرضها، يعنى أنها قد اختارت طواعية الوقوع فى التيه مرة أخرى، وربما يكون السقوط الأخير. يجب وضع مادة دستورية فى الدستور المصرى تمنع وجود مثل هذا التنظيم، إن أرادوا تحصين بلادهم حقًا.
نداء إلى الشركة المتحدة
فى النهاية أتوجه بنداء إلى الشركة المتحدة بخصوص هذا الحوار:
أعتقد أننا أمام وثيقة مهمة جدًا.. ينبغى أن يتم تسليط الضوء على كل ما ورد بها من عبارات، وعمل نقاش مجتمعى ثقافى حولها.. وأقترح أن تكون على أكثر من قناة وفى أكثر من جزء.. أن يتم تقطيع الحوار وتولى تفنيد ما جاء به بالمعلومات والوثائق.. فهذه وثيقة ثمينة جدًا لا ينبغى لنا أن نفرط فى استغلالها المشروع بأفضل الطرق الممكنة.. لأن أهميتها أنها النسخة الأحدث مما يتم محاولة إعداده من خديعة للمصريين، لو سقطوا فى براثنها فسوف يكون ثمن هذا السقوط باهظًا جدًا.
أتخيل مثلًا أن تكون مقاطع صوتية مما ذكره التلمسانى عن جرائم التنظيم السرى المسلح، وأنه عمل كان يتقرب به الإخوان لله، تاليًا لعبارات الجزار عن إنكار حمل الجماعة السلاح إلا ضد المحتل الأجنبى.
وأن يتم دمج مادة أرشيفية عما ذكره من أحداث مثل الحرس الجمهورى.. ومشاهد القناصة.. وأن يتم التسليط عن ماهية التنظيم الذى تحدث عنه صراحة وربما لأول مرة فى وثيقة معاصرة. وعما تورطت فيه المجموعة المقيمة بتركيا والتى زعم أنهم موجودون هناك كبرلمانيين سابقين مطاردين.