رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ظاهرة «بغال طروادة» فى مصر!

(1)

تقول الأسطورة اليونانية «أوديسا» إن الجيش اليونانى فشل فى اقتحام مدينة طروادة فقرر استخدام حيلة بعمل حصان خشبى كبير أخفى بداخله ثلاثة من جنوده. ثم تظاهر الجيش بفك حصار المدينة والمغادرة تاركين خلفهم الحصان الخشبى الكبير الجميل الغريب، وهنا قرر سكان طروادة أن يقوموا بإدخاله إلى المدينة، وبمجرد أن فعلوا ذلك خرج الجنود الثلاثة من داخله وقاموا بفتح أبواب المدينة للجيش اليونانى فدخلوها. أصبح تعبير (حصان طروادة) من أدبيات الحديث السياسى، وتطور اللفظ ليشير إلى من يقررون أن يقوموا بدور الحصان الخشبى بأنفسهم فى أى بلاد لكى يمرق من خلالهم أى عدو متربص أو محاصرٍ لتلك البلاد، وأضيف إليه فى العصر الحديث مصطلح (الطابور الخامس) للإشارة إلى خونة الداخل فى أى وطن!. 


لم تضع الأسطورة اليونانية (حصان طروادة) رمزا للخيانة، بل كان رمزا لذكاء من قام بالحيلة واختار حيوانًا محبوبًا، لكنه مع مرور الزمن أصبح بالفعل رمزا للخيانة.. والحصان حيوان له شيمٌ وطباع أبعد ما تكون عن ذلك، لذلك فإننى سأستبدل هذا التعبير بتعبيرٍ آخر يتماشى مع المفردات اللغوية المصرية الدارجة.. فليكن التعبير بغال طروادة، للإشارة إلى من يقررون أن يتطوعوا من تلقاء أنفسهم للقيام بهذا الدور المشين! فالبغل يعمل بقوة شديدة (حمار شغل)، لكنه أبعد ما يكون فى شيمه وذكائه وكبريائه عن الحصان!.

(2)

هذا التعبير – بغال طروادة – أراه يتسق تماما مع هذه الظاهرة المتفردة التى طرأت على الساحة السياسية المصرية فى الأشهر الأخيرة تحديدا! ظاهرة يمكن تحديدها فى «المواطن الذى قرر التطوع بالانضمام إلى الجهد الإعلامى التعبوى للعدو!» فنحن لدينا مشهدٌ جدير بالتوقف أمامه ووضعه بين قوسين كبار، وهو كيفية تعاطى بعض المصريين إعلاميا عبر وسائل التواصل مع ما قامت وتقوم به عصابات أو ميليشات الحوثيين من ضرب السفن التجارية فى البحر الأحمر الذى يمثل ممرا تجاريا عالميا حيويا، ومصر هى المستفيدة الأكبر اقتصاديا من أمنه وسلامته! وربما تكون هذه هى السابقة الأولى فى تاريخ مصر المعاصر التى نرى فيها مواطنين مصريين يقومون بالاحتفاء والتهليل لميليشيات مسلحة تستهدف عسكريا وبشكل مباشر وصريح ضرب قناة السويس كممر تجارى مصرى خالص!.

من الطبيعى أن نفهم أن الإعلام أصبح أحد أسلحة الحرب المعاصرة، وأن تقوم مخابرات الدول المنغمسة فيما يحدث بتدشين آلاف الصفحات الموجهة لشعوب المنطقة لمخاطبتهم بمفردات هذه الشعوب بغرض التأثير عليها وتكوين ظهير شعبى يساند ما تقوم به هذه المخابرات. ومن أشهر مجموعات الصفحات التى تم تدشينها لهذا الهدف ما يعرف كليا بمسمى «الرسام اليمنى». عدد هائل من هذه الصفحات موجهة جميعها لتمجيد جرائم ميليشيات وعصابات الحوثيين المكونة والمستخدمة رسميًا من إيران. وأى إنسان طبيعى بسيط سوف يكتشف بسهولة أنها صفحات مخابراتية موجهة. ومن المنطقى أن الآلاف من مواطنى بعض الدول ذات المواقف المعروفة بتوجهها ضد المصالح المصرية يقومون بموجات مساندة لهذه الصفحات.

لكن من غير الطبيعى أو المنطقى أن نجد من بين هؤلاء هذه الأعداد من المواطنين المصريين الذين ينضمون للمهللين والمحتفين بضرب واحدٍ من أهم موارد بلادهم الاقتصادية! أعتقد أن هؤلاء هم الأحق وعن جدارة بتصدر قائمة «بغال طروادة» فى مصر! كما أعتقد أن هذا المشهد يستدعى وبشكلٍ جدى كامل الدراسة العميقة لمحاولة الوصول لإجابات علمية مجردة ومقنعة لسؤالٍ واحد.. كيف ومن قام بالعبث بعقل مواطن مصرى إلى حد الوصول به إلى هذه الدرجة المخزية من الانسحاق والتدنى الوطنى والأخلاقى؟! وبالتبعية، مدى براءة أو إدانة المسئولين عن الخطاب الدينى فى مصر فى العقود السابقة فى هذا المشهد؟!

(3)

لدينا فى القائمة آخرون! مثقف وكاتب وإعلامى شهير كان قد سقط سقوطه الأول الكبير والمروع فى الاختبار العملى الحاسم لثقافته ووعيه بعد تنحى مبارك مباشرة، وذلك حين قام – على عكس ما يعرفه بدرجة يقينة عن فكر وطبيعة وأسرار التنظيم الدولى الدموى لجماعة الإخوان – بتقديم هذه الجماعة إلى المصريين البسطاء الثائرين الطامحين لغدٍ أفضل لبلادهم كجماعة سياسية معتدلة! وضع يده فى أيدى قادة الجماعة وسار كتفا بكتفٍ معهم فى مساوماتهم للمجلس العسكرى مما خدع بالفعل أعدادًا كبيرة من المصريين! هذا المثقف – الذى يعتقد فى فكره أن المصريين ينسون كما يتنفسون – حاول بعد أن كشف المصريون الوجه الحقيقى للجماعة غسلَ يديه من مشاهد سقوطه الأولى وخديعته الأخطر لهؤلاء المصريين! حاول فعل ذلك بتوجيه مقالاته وبرنامجه التليفزيونى لشن هجومٍ كاسح على الجماعة مثل غالبية المصريين وقتها، لكن الفارق بينه وبين هذه الغالبية، أنه فعل ذلك فيما يشبه الوقت الضائع! فلا قيمة لما فعله وقتها – بعد أن ساعد فى وصول الجماعة للحكم – لأن المصريين كانوا قد اتخذوا قرارهم بالفعل بطرد هذه الجماعة الخائنة، ولو لم ينضم لهذا القرار لأصبح فى عداد الماضى فى هذه البلاد بلاد رجعة! فلا قيمة حقيقية لمثقف سقط فى لحظة الاختبار الحقيقية، فسقوطه ينفى عنه شرعية الوصف وتقدم أى صفوف نخبوية، ويعود به إلى صفوف العامة!.

وفى عقود مصر الخمسة الأخيرة، كانت الفترة بين تنحى مبارك وبين انتخاب الجماعة هى الفترة الحرجة الحقيقية، وهى الفترة الفارزة الحاسمة لشرعية مثقفى مصر!

فقبل تنحى مبارك كانت الأحداث تتدافع بفعل عوامل كثيرة ولا يمكن الادعاء بأن مثقفى مصر هم من حركوا الشارع المصرى، فهم ربما يكونون أحد هذه العوامل، لكنهم على أى حال لم يكونوا على رأس قائمة هذه العوامل مقارنة بمشهدٍ أو خطيئة واحدة لنظام مبارك وهو التقاتل على رغيف خبز مدعم!.

وبعد انتخاب الجماعة، كانت ممارساتها هى الكاشفة عن وجهها القبيح، وهذا الكشف هو الذى دفع المصريين للانتفاض ضدها! لذلك فالشرعية الحقيقية لمدى وعى وإخلاص وحقيقة أى مثقف كانت فى تلك الفترة الحرجة، التى توجب عليه أن يقوم بدور حقيقى على الأرض بين المصريين! سقط هذا المثقف الإعلامى سقوطا كبيرا فى تلك المرحلة الحرجة!

حاول من وقتٍ لآخر أن يعيد ترميم شرعيته كمثقف عن طريقين، الأول مداعبة مشاعر العامة ضد إجراءات الإصلاح الاقتصادى، والثانى تقديم نفسه كمثقف مستنير ضد الجمود الدينى! وفيما يخص هذا السبب الثانى، يمكن القول إنه قد أضر بقصة التنوير فى مصر أكثر مما أفادها! ارتبط اسمه بقضايا تندرج تحت مسمى «حرية المعتقد» التى لا تنفع أو تضر، وحاول دائما استفزاز العوام بالسخرية من قضايا عقائدية، بينما لم يقترب من المسائل التى تهم المجتمع المصرى بشكل حقيقى وتتماس مع قضية الجمود الدينى! فمثلا ما الذى يفيد قصة التنوير بأن نخوض معركة كبرى تحاول نفى أو حتى إثبات قصة الإسراء والمعراج؟! من شاء فليؤمن بها ومن شاء فليرفضها! أنا شخصيا قرأت كثيرا جدًا عن ممارسات شعائرية وقضايا عقائدية تخص المسلمين والمسيحيين، لكن الخوض فيها ومحاولة زعزعة يقين الناس بها لا يصب إطلاًقا فى قصة التنوير، بل ينفر الناس منها!.

(4)

هذا المثقف الإعلامى ذو هذا التاريخ قرر أخيرًا أن يضع اسمه فى قائمة «بغال طروادة» فى مصر! فى الأشهر الأخيرة بعد هجمات السابع من أكتوبر وجدنا بقايا دروايش وحشاشى اليسار المتطرف يصطفون فى خندق معادٍ بشكل علنى لموقف الدولة المصرية ويصب بشكل صريح فى صالح الذين أرادوا قضم قطعة من أرض مصر عبر توريطها منذ اليوم الأول لهذا الهجوم.. ففى ذروة مواجهة مصر لموجة الضغوط لإجبارها على فتح ثغورها وجدنا هؤلاء يتظاهرون رافعين علنا نفس اللافتات التى جاء قادة الموجة من الزعماء يتحدثون عنها مع القيادة المصرية سرًا! بعض هؤلاء كانوا من الوجوه التى قرر المصريون لفظها بعد الأحداث الكاشفة من تنحى مبارك وحتى ثورة يونيو، فبعضهم تورط بالفعل فى أحداث ضد الدولة المصرية، وبعضهم كل تاريخه أو تاريخها أنها تنتمى لهذه الغرزة اليسارية بالوراثة!.

وجوهٌ توارت فى الظل لسنواتٍ ولم نسمع لها صوتا طوال تلك السنوات التى كانت فيها مصر تقوم بما كان يتغنى به اليسار لعقودٍ عن المشردين وسكان العشوائيات والمهمشين أثناء حفلات زارهم وعلى خلفية الدخان الأزرق! صمتوا ومصر تبنى مئات الآلاف من الوحدات السكنية وتزرع ملايين الأفدنة، وتعيد بعث الهوية المصرية، وتخوض حرب تطهير الأرض، وتعيد صياغة مرفق الصحة والتعليم.. تقوقعوا على أنفسهم فى سنوات البناء.. وحين تكاثر الأعداء على مصر شرقا وجنوبا وغربا تم استنفارهم من مراقدهم على عجل، لا لكى يدافعوا عن بلادهم، وإنما ليصرخوا بملء حناجرهم طالبين من مصر أن تفتح ثعورها!.

(5)

قفز هذا الإعلامى فجأة وقرر أن يعيد تقديم بعض هذه الوجوه إلى المصريين متكئا على ما يعتقده بأننا ننسى كما نتنفس! قام بتقديم وجهٍ شديد القبح الوطنى، وخذله ذكاؤه هذه المرة فى اختيار اللحظة، واختيار المشهد.. شخصية تمت استضافتها لمنحها دورا جديدا وشرعية جديدة وهذه المرة شرعية أدبية! والكل يعلم أن الأدب – بمعناه الإبداعى لا الأخلاقى – لا يتم توريثه! لم يلتفت المصريون حتى للإنتاج المزعوم لهذه الشخصية، بل انتبهوا فقط لتطاولها المتدنى على أحد أهم أركان قوة مصر الناعمة  شديدة الانتماء والوطنية فى العقد المنصرم! قامت بالتطاول على سفير مصر الرياضى الأعظم محمد صلاح، قبيل منحها هذه الفرصة لكى تتخفى داخل جسد أحد من يهون لعب دور بغال طروادة فى مصر، حيث لعبه مرة بعد تنحى مبارك، ولعبه مرات فى قصة التنوير لتمرير وجوه أضرت بطموحات مصر فى هذه القضية، وأخيرا يحاول لعبه فى إعادة الحياة لبقايا الغرز اليسارية منتهية الصلاحية فى مصر!

(6)

ممن سطروا أسماءهم فى القائمة بأحرف وكلماتٍ من عارٍ مواطنون عاديون قرروا أيضا القيام بدور «جابر الطليانى» فى فيلم بئر الخيانة حين وصفه ضابط المخابرات الإسرائيلى بأنه «متبرع خيانة»! أى مواطن فى أى بلاد يقوم بالتنقل بين الصفحات الموجهة للهجوم على قوات بلاده المسلحة، لا لكى يقوم بالرد أو الدفاع عن شرف بلاده، لكن لكى ينضم طواعية للمتطاولين، أى مواطن يفعل ذلك هو قطعا متبرع خيانة، وفى أوقات المواجهة الحقيقية، سيكون بغلا كبيرا من بغال طروادة، يقود العدو لثغور بلاده وربما يقدم الدعم المادى واللوجستى لهم! حقيقة أعتقد أننا فى حاجة ماسة لدراسات نفسية لتقدم لنا تفسيرا نفسيا لهؤلاء! دولة تقوم بالحفاظ على حدودها وتصمد أمام ضغوط كبرى وتحرشات مسلحة صريحة وتهديدات مبطنة بقوات عسكرية دولية، ثم تجد بعضا من مواطنيها ضيوفا دائمين على صفحات هؤلاء المتربصين ليسخروا من دولتهم، وليصفوا قواتهم المسلحة بما يتطاول به المعادون! كيف لهؤلاء أن يُستأمنوا على أى عمل أو إدارة أو ثغرٍ من ثغور هذه الدولة؟! وأى محاولة لتبرير موقف هذه البغال هى محاولة مقنعة لتبرير الخيانة، لا يختلف صاحبها كثيرًا عمن يحاول أن يبرر لهم جريمتهم!

(7)

فى قائمة «بغال طروادة» فى مصر لم أتحدث عن الوجوه الإخوانية، سواء فى داخل مصر أو خارجها لسببٍ واحد أن هذه الجماعة وأعضاءها المنتمين إليها لا يناسبهم هذا الوصف إطلاقا، لأنهم خونة صرحاء منذ عقودٍ طويلة. فكرة الجماعة نفسها وكفرها بالوطن والدولة تعنى أن كل المنتمين إليها خونة للدولة الوطنية. وأنهم لا يعترفون بهذا الوصف – الخيانة - ويفخرون بفكرتهم ولا مانع لديهم من التعاون أو العمل لدى الشيطان لتطبيق فكرتهم.

فهم ليسوا بغال طروادة يتخفى فى أجسادهم العدو حتى يمرق من خلالهم إلى ثغور مصر..بل هم أنفسم يصطفون صراحة فى صفوف مقاتلى العدو! وهذه ليست مبالغة بل حقيقة حدثت بالفعل ويمكن أن تحدث مرة أخرى!.