نحو علاقة صحية ناضجة بين أطباء مصر والمجتمع المصرى!
نقطة بدء لازمة.. مقالى هذا لا يتناول واقعة بعينها وكاتبه يرى أن الواقعة الأخيرة بين الطبيب والمطرب لا فاصل فيها سوى القانون. لكننى أكتب عما هو أهم وأخطر مجتمعيًا، وهو اضطراب العلاقة بين أطباء مصر وبين المجتمع فى السنوات الأخيرة، ومحاولة البعض استغلال هذا الاضطراب- الذى سببته مسبباتٌ محددة سوف أتناولها- لأغراض خاصة لا تصب إطلاقًا فى صالح هذا الوطن! أفكر فى تناول هذا الموضوع منذ فترة ليست بالقصيرة، وحسم قرارى هذا التصاعد الأخير فى ذلك الاضطراب، وخلط الحابل بالنابل، ووضع تلك العلاقة كهدف من طرف قوى لن تكف عن استهداف مصر ذاتها!
هل أطباء مصر مظلومون، أو هل تظلم مصر أطباءها وتدفعهم للهجرة؟!
ما هى نسب الأطباء العاملين، والمهاجرين، وما أسباب تلك الهجرة؟
ما هى أسباب الخلل التى سببت ذلك الاضطراب؟
كيف نحتوى جميعًا كمصريين هذا الاضطراب ونضعه فى موضعه دون تهوينٍ أو تهويل وقبل أن يحقق المتربصون أهدافهم؟!
وقبل ذلك.. فهل القطاع الطبى فى مصر مستهدفٌ بالفعل؟!
سوف أخوض- كمواطن مصرى مهتم بالشأن العام- فى محاولة تقديم إجابات واقعية بناءً على ما تراكم لدىّ من معلومات فى سنوات سابقة، وبناءً على تراكم خبرات حياتية حقيقية يتشارك بها المصريون جميعًا! وأزعم أننى ربما أكون من أوائل من كتبوا عن أطباء مصر بالخارج منذ ما يقرب من عشر سنوات فى إحدى رواياتى، وخصصت للطب المصرى وقاماته منذ القدم وحتى الآن فقرات كاملة فى كتابى الأحدث الصادر منذ ثلاث سنوات، فأنا أدرك قيمة من صنعوا حضارة مصر قديمًا ومن يزالون يصنعون حاضرها! وإدراكى هذا لا يتضاد مع مسلمة أنه فى كل خطوات المجتمعات التى تطلعت إلى بناء علاقات مجتمعية صحية وناضجة كانت هناك كلمة سر «المصارحة قبل المصالحة!».
(1)
«إنت مش عارف أنا مين؟!» عبارة مقيتة أصبحت منذ عقود طويلة من مفردات المصريين. نعانى منها جميعًا، وأيضًا نستخدمها جميعًا بنفس اللفظ أو ما يعادله! نستخدم علاقاتنا الشخصية ومواقعنا المهنية فى سبيل الحصول على أفضل خدمة ممكنة، وأحيانًا للحصول على مقعدٍ يستحقه آخر، بدءًا من أرغفة الخبز وصولًا إلى مقاعد المعيدين فى بعض كليات جامعات مصر التى أصبح بعضها متوارثًا شأنه شأن بعض الوظائف الأخرى! لم يتخلص أى مجتمع من هذه العبارة وأخواتها تخلصا حقيقيا إلا عن طريق واحد لا بديل له، القانون! أن تتوفر إرادة جماعية حقيقية لتطبيقه بشكلٍ صارم أعمى لا يرى أسماءً ولا وجوه. أى أن الإرادة الجمعية الحقيقية تسبق الشروع فى الانتقال من مرحلة «مش عارف أنا مين» إلى مرحلة «الكل سواء!».
هذا هو الطريق الصحيح، أما الطريق الآخر- الذى ما زلنا بكل أسف نتخبط فى جنباته- فهو يرفع لافتة مواجهة «أنا كمان هوريلك أنا مين!» صدمنى بشدة ما كتبه أستاذ جامعى بكلية طب قصر العينى حيث كتب نصًًا.. «بمناسبة البرص الذى تعدى على طبيب أثناء تأدية عمله.. أنت برص لا أكثر ولقد أمر رسول الله بقتل البرص.. أنا أعتب على أطباء المستشفى والعاملين بها أنهم لم يأخذوا حق زميلهم لو كانوا تجمعوا وضربوه علقة موت ودمه سيسيل بين القبائل ولن يعرف أحد من اللى كسره...!» وصدمنى أكثر عدد من أعجبهم الحديث وهو ما يزيد على مائتى شخص، كثيرٌ منهم من الأطباء! تخيرت هذه الكلمات كنموذج لعشرات النماذج المماثلة المحزنة الصادمة التى طالعتها فى الأيام السابقة، كثيرٌ منها صادرة عن أطباء، وبعضها عن آخرين انضموا إليهم، ليس دفاعًا عن مواطن تم الاعتداء عليه أثناء ممارسة عمله، إنما احتقار لمهن «الفن والغناء»!
آلاف المقالات تدور حول فكرة واحدة.. الطبيب قضى سنوات عمره فى دراسة صعبة، وأسرته قد أنفقت عليه كل ما تملك، ويعمل لساعات طويلة، والدولة والمجتمع لا يُقدرون كل هذا حق قدره، وأن أى طبيب يجد فرصة للخروج ليخرج من هذه البلاد التى تضطهد الأطباء، وعلى أقل تقدير لا تنزلهم منزلهم اللائق! ولأن الواقعة الأخيرة طرفها مطرب، فقد شملت الكتابات تحقيرًا للفنون بصفة عامة!
أعتقد أننا لدينا مشكلة كبرى هنا. إن كنا نتحدث عن المشقة، فعامل التراحيل يبذل جهدًا خارقًا فى الشمس الحارقة لكى ينبى لنا المستشفى. الفلاح يطعمنا جميعًا ويعمل بمشقة أكبر والطعام مقدمٌ على العلاج! والحياة مقدمة على كليهما، فالجندى حارس الحدود فى الشمس الحارقة أولى بوضعه فى المرتبة الأعلى! وماذا لو لم يكن هناك عمال لجمع القمامة وانتشرت الأوبئة؟! وإن كنا نتحدث عن نسبة المخاطر المهنية، فكل العاملين فى القطاع الطبى معرضون لنفس المخاطر مثل العدوى، ونسبة المخاطر فى مهن يدوية أكبر مثل عامل البناء الذى قد تنزلق قدمه فجأة فيهوى من السقالة ويُكسر ظهره! ونسبة المخاطر لرجال القوات المسلحة أعلى بكثير وبعضهم فقد حياته بالفعل! والصنايعى قد يفقد يده وهكذا.. لكل مهنة نسبة مخاطر!
ولو عن قيمة العمل فماذا عمن يعلم كل هؤلاء، ولولاه لما كان هناك طبيب أو مهندس أو ضابط أو أى شخص آخر متعلم؟! وماذا لو خلت الحياة من الفنون والفنانين الذين تم احتقارهم فى كتابات كتب بعضها متعلمون وحاصلون على درجات عملية أكاديمية، ويقومون بالتدريس فى الجامعات؟! لو خلت الحياة من الموسيقى والرسم والغناء والرقص بأنواعه؟!
إن محاولة اقتطاع فئة معينة من أى مجتمع ووضعها فى مكانة خاصة مميزة فوق باقى المواطنين- سواء لأهمية المهنة أو مشقتها أو نسبة مخاطرها- هو الجنون بذاته وهو الإصرار على البقاء خارج الحضارة والمدنية الحديثة! الدول التى تخطت هذه المرحلة تحترم جامع القمامة كما تحترم الطبيب والمعلم والمهندس والضابط والمرشد السياحى. الكل سواء فى المكانة الإنسانية والأخلاقية والمواطنة والحقوق والواجبات! لم يبنِ أى حضارة الأطباء فقط، أو المهندسون فقط، أو الفنانون فقط. الحضارة الإنسانية- التى لولا تراكمها لما كان هناك طب أو هندسة أو علوم أو فنون- هى نتاج كل هؤلاء، يختلفون فيما منحهم الله من مواهب وقدرات وحصلوا عليه من علوم، لكنهم يتساوون فى القيمة والأهمية! احتقار أستاذ جامعى للفنون يعنى أن هناك خللًا عقليًا وتعليميًا وقيميًا لدى هذا الأستاذ، حتى لو حصل على أعلى الأوسمة فى مجاله، فهو يعانى من تخلف فكرى أو خلل فى بناء شخصيته الفكرية! ومنذ سنوات ليست بالطويلة، فقد وزير عدل سابق منصبه الوزارى ثمنًا لتصريحٍ فُهم منه أنه تحقير من شأن مهنة معينة! الطريق واضح ومحدد إن كنا جادين حقًا فى أن نضع بلادنا فى موضعها الذى يليق بها..أن يؤمن أى فرد فى هذا الوطن أنه- مهما تكن حرفته ومشقتها- ليس بأى حالٍ من الأحوال أفضل من أى فردٍ آخر! هذا أول طريق الهدوء النفسى المجتمعى!
(2)
ما هى أزمة الأطباء فى مصر؟! أى إجابة مختصرة هى قطعا خديعة كبرى. لأن الإجابة معقدة جدًا ومتراكمة. وأول الإجابة هو كيفية اختيار طالب الثانوية العامة لكلية الطب! عن مشاهدات شخصية، هناك طلبة تم الضغط عليهم أسريًا للالتحاق بكلية من كليات الطب بعد حصولهم على مجاميع مرتفعة! وهذه أكبر الخطايا! دراسة أى مجال تتطلب قدرات خاصة. فلا يمكن لمن يكره اللغات أو دراسة التاريخ أن يكون مرشدًا سياحيًا ناجحًا. دراسة الهندسة معقدة وتتطلب قدرات رياضية وميكانيكية خاصة. دراسة الطب أيضًا معقدة وتتطلب- بجوار القدرات العلمية- أن يكون الدارس صبورًا ذا نفس طويل وأن يلم بمعلومات عن مجال عمله بعد التخرج شأنه شأن أى دارس لأى مجالٍ آخر. إذن قرار الالتحاق بكلية الطب هو قرار شخصى، لا يكون مقبولًا معه أن يعتقد الطبيب أن المجتمع مسئول عن اختياره، وأنه على هذا المجتمع طوال الوقت أن يدفع ثمن هذا الاختيار ماديًا أو أدبيًا! لماذا لا يمن علينا الفلاح الذى يطعمنا بجده وعرقه؟! ولماذا لا يمن علينا ضابط الحدود الذى يمكنه أن يدفع حياته ثمنًا لأمننا؟! هو اختيارك وعليك أن تلم بمفردات هذا الاختيار وتكون مستعدًا له!
الكلمة الثانية فى الأزمة المجتمعية لأطباء مصر خاصة الشباب منهم، أنه قد تم- ولا يزال قائمًا- استهدافهم بشكل خاص سواء فى الجامعات أو بعض التخرج. تم استهدافهم عقليًا وروحيًا وانطلاقًا من حقيقة عدم تفرغهم للبحث أو الثقافة العامة. وقد أتى هذا الاستهداف ثمارَه بالفعل، وأصبح لدينا أعداد غير قليلة منهم يعتنقون أفكارًا سلبية تمامًا عن بلادهم، وبعضهم يعتنق أفكارًا تكفيرية صريحة أو متطرفة سلفية متشددة، ويطغى هذا على مجمل نظرتهم لأحوالهم وبلادهم، دون أن يضعوا هذه الأحوال فى موضعها الصحيح من الصورة الاقتصادية أو المجتمعية الكلية للمجتمع. فحين نتحدث عن تدنى مرتبات الأطباء مثلًا، فهناك وبشكل موازٍ مرتبات متدنية مماثلة لأقرانهم من شاغلى الوظائف الأخرى لأنها درجات حكومية محددة، وحين حدث تحريك لمرتباتهم، فقد واكبها أيضًا تحريك لمرتبات هؤلاء الأقران.
لكن المشكلة- وبناءً على نظرة بعضهم السلبية لمصر، ونتيجة توقعهم بأن يتميزوا عن غيرهم من خريجى التخصصات الأخرى- أنهم ينتظرون أن يكونوا فئة خاصة، وهذا لا يحدث حتى فى المجتمعات الأخرى الغربية التى هاجر إليها بالفعل كثيرٌ منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى، ولقد قابلتُ كثيرًا منهم بالفعل وأعرف ما واجههوه هناك!
هناك حقيقة ثالثة لا يتطرق إليها أحدهم، عما يتكلفه تخرج طبيب مصرى من جامعة مصرية حكومية؟! لو افترضنا أن الأسرة تتكلف سنويًا مبلغ مائة ألف جنيه مثلًا لطالب الطب، فما الذى تتكلفه مصر فى نفس السنة من أساتذة ومستشفيات ومعامل وغيرها؟! قرأت منذ سنوات أن هذه التكلفة توازى ما يقرب من عشرة أضعاف ما يتكلفه الطالب أو أسرته! أى أن مصر تمنح لطالب الطب مبالغ لا تمنحها لغيره من تخصصات أخرى. وأنا أعلم أنه لا توجد دراسة طب مجانية مثلًا فى دول أوروبا! فلو اعتبرنا أننا فى دولة أوروبية وأن الطالب يحصل على قرض من الدولة للدراسة، فمتى وكيف يقوم بتسديد هذا القرض؟! لماذا لا يعتبر طالب الطب المصرى أنه يقوم بعد التخرج بسداد هذا القرض عن طريق عمله فى وحدة صحية ريفية أو الحصول على مرتب يرى أنه قليل جدًا؟! أليست هذه هى العلاقة بين المواطن والدولة فى أعتى دول الغرب؟!
(3)
لماذا يهاجر أطباء مصر؟! حلم السفر لدولة أوروبية والعمل بها والحصول على جنسيتها لم يكن أبدًا حلمًا قاصرًا على الأطباء. فمثلًا فى مجال السياحة، لا يوجد مرشد سياحى فى مصر عمل قبل يناير 2011م إلا وقد عُرض عليه هذا الحلم، فمنهم من سعى خلفه ومنهم من أدار له ظهره! وليس ببعيد عنا مراكب الهجرة غير الشرعية من مصر وغيرها. فلماذا تثير هجرة أطباء مصر هذا الجدل؟! لسبب بسيط أن ما تتكلفه الدولة فى سبيل تخريج أطباء ويفوق ما تقوم به فى سبيل تخريج مدرسين، هو جزء من خطة الدولة للتنمية والتعليم وتوفير الخدمات الصحية لمواطنيها. بعد نهاية حرب أكتوبر تم استهداف معلمى مصر للهجرة لدول الخليج عن طريق إغراء مالى فيما يسمى بالإعارة. وترتب على ذلك خلل فى العملية التعليمية فى مصر. لم يهاجر معلمو مصر وقتها لأن مصر لفظتهم مثلًا، أو أنها لم تنزلهم منزلهم، وإنما لأنهم ضجروا من الظروف الاقتصادية لدولة خارجة لتوها من الحرب وقرروا الخروج، وتزامن ذلك مع حاجة بعض الدول إليهم، أى أن ما حدث كان تلاقى مصالح بينهم وبين هذه الدول، ترتب عليه تضرر مصر. ثم تولى الحكم مبارك وقرر الاستفادة من تحويلاتهم مقابل أن تدفع مصر ضريبة خروجهم خصمًا من مستوى التعليم فى مصر!
الآن ما يحدث هو صورة كربونية مما حدث فى ذلك التوقيت، لكنه يحدث فى مجال الطب. هناك دول لديها مشاكل اقتصادية مع أطبائها، مثل إنجلترا التى أضرب أطباؤها لأطول فترة منذ سبعة عقود. ومثل دول أخرى، لكل منها أسبابها لفتح الباب أمام أطباء شباب من دول أقل فى مستواها الاقتصادى مثل مصر، أى أنهم يشكلون لهذه الدول- كأطباء شباب - عمالة أرخص من عمالتها، وتزامن ذلك مع محنة أو حرب تخوضها مصر منذ عام 2011م، وكلما مرت من جولة وجدت أمامها أخرى. هذه الحرب ألقت بظلالها على الأحوال الاقتصادية على الجميع. وكمثال بسيط، هناك أرباب أسر من العاملين فى قطاع الإرشاد السياحى توقفت دخولهم تمامًا ولسنواتٍ بعد 2011م! من حقك أن تبحث عن فرصة تراها أفضل لك ماليًا ومهنيًا تمامًا مثلما فعل المعلمون نهاية السبعينيات وعقدى الثمانينيات والتسعينيات، لكن ليس من الحق أن تحاول أن تبرئ نفسك من هذا الشعور بأن تكيل لمصر الاتهامات حتى تحصل على ما تريد!
منذ أكثر من عشر سنوات التقيت جراحًا مصريًا فى أسوان للاتفاق على عملية جراحية لأحد أفراد العائلة. وبعد عدة لقاءات عرفت أنه أكمل دراسته فى إنجلترا وعاد يوم حصوله على أوراقه ورفض عرضًا مغريًا من أخيه الطبيب المقيم هناك. سألته لماذا؟ ابتسم.. هذا نفس سؤال أخى..ما الذى يدفعك للعودة للفوضى والتراب و.. أنا رجعت لأنهم يحتاجوننى هنا وليس هناك. فى يوم عملى الأول بعد العودة وفى أحد مراكز محافظة أسوان وجدت الأدوات الجراحية قد امتلأت صدأ.. جمعت كل العاملين بالوحدة واشتريت مساحيق و(سلك مواعين) وقمنا معنا بتنظيفها ثم قمت بتعقيمها.. انتهينا مساء ونحن منهكون تماما، وبمجرد جلوسى سمعت صراخا.. حادثة..سيدة وابنها.. حالتها خطرة لن تتحمل نقلها.. قمت بإجراء جراحة لها بنفس الأدوات وعاشت السيدة وعلمت أن الله قد أرسلنى إليها.. هذا الطبيب القبطى إيميل هو نموذج لما أتحدث عنه، بينما يمثل شقيقه النموذج الآخر!
(4)
ماذا تقول الإحصاءات عن نسب الهجرة وأسبابها ونسب الأطباء العاملين بعد التخرج؟ كشفت دراسة مصرية أن عدد الأطباء المسجلين والحاصلين على ترخيص مزاولة المهنة من نقابة أطباء مصر 213 ألفًا، يعمل منهم حاليًا فى جميع قطاعات الصحة، سواء بالمستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو مستشفيات الجامعات الحكومية حوالى 82 ألف طبيب فقط بنسبة 38% من عدد الأطباء المسجلين. وهذا يعنى أن 62% من الأطباء فى مصر هم بالفعل خارج المنظومة الطبية المصرية، إما بسبب السفر للخارج للعمل أو لاستكمال دراستهم العليا أو بسبب الحصول على أجازات بدون مرتب أو الاستقالة من العمل الحكومى! وانخفض العدد من 100 ألف طبيب عامل عام 2021 إلى 97ألف طبيب عام 2022م! هذا يعنى باختصار أن مصر تقوم بضخ أموال فى القطاع الطبى لتخريج أطباء من كليات طب حكومية مجانية لكن أكثر من نصف الخريجين لا يقومون بالعمل فى القطاع الطبى الحكومى، أى أنهم وبصراحة شديدة لا يسددون ما قدمته الدولة إليهم من دعم مادى كبير مقارنة بنظرائهم فى كليات أخرى! فالدولة فى سبيل توفير رعاية صحية لمواطنيها تقوم باقتطاع مبالغ ضخمة من أموال المصريين فى صورة دعم لطلاب الطب فى انتظار أن يستفيد المصريون بخدمات طبية مقابل هذا الاقتطاع، لكن لا يحدث إلا بنسبة أقل من 40%! تمامًا كما حدث فى قصة نزوح معلمى مصر إلى الخارج بعد حرب أكتوبر!
أما عن أسباب النزوح فهى كما ذكرها بعض الأطباء لأسباب متعددة، أولها البحث عن فرصة عمل أفضل شأنهم شأن أى مواطنين آخرين، وثانيها لاستكمال دراساتهم العليا. وثالثها صعوبات ومشقة العمل الذى يواجهه الطبيب الشاب بعد تخرجه سواء عمل فى مستشفيات حكومية أو خاصة، مع الفارق فقط بين الاثنين فى المقابل المادى!
(5)
ما الذى يعانيه الأطباء فى مصر تحت بند ظروف العمل؟ أول ما يعانيه شباب الأطباء هو معاناتهم من كبار الأطباء العاملين فى المستشفيات الحكومية! هذا التعليق هو ما لفظت به ألسنة بعضهم. كثيرٌ من كبار الأطباء لا يقومون بالمرور الدورى على الحالات ويلقون بالعبء كاملًا على شباب الأطباء، ويتابع بعضهم الحالات تليفونيًا فى سبيل التفرغ لعياداتهم أو مستشفياتهم الخاصة، مما يضع الطبيب الشاب دائمًا فى المواجهة! خروج أعداد كبيرة من العمل كما سبق توضيحه، ألقى بأعباء مضاعفة على من بقى فى مصر وضاعف من ساعات العمل.
ما يعانيه المجتمع المصرى خاصة فى الأقاليم من فهم غير منضبط لعلاقة ذوى المريض بالمستشفى. فليس منطقيًا أن يُسمح للعشرات بمرافقة حالة مرضية واحدة. والأمر ليس بصعب وقد نفذه العبقرى دكتور مجدى يعقوب فى مؤسسته. فعن طريق معايشة شخصية منذ سنوات اطلعت على أحد أسرار نجاح هذه المؤسسة، وكما لخصتُه لأحد الأصدقاء فإن السور الفاصل بين مستشفى مجدى يعقوب ومستشفى أسوان هو بمثابة حدٍ فاصل بين حضارتين! النظام الصارم الرحيم! لا يمكن إطلاقًا لأى شخص الدخول لحرم المستشفى بغير ذى صفة حتى لو كان السير مجدى يعقوب ذاته! شخص واحد يوقع على ورقة بأنه المرافق المسئول. وقت الزيارة محدد لعدد محدد ولا توجد كلمة استثناء! واستراحة خارجية كبرى تكفى لمن يريد الانتظار بالخارج دون أن يفكر مجرد تفكير فى الخروج عن النظام!
حالات الاشتباك التى شهدتها مصر فى بعض المستشفيات فى سنوات الفوضى زامنها مشاهد مماثلة فى مناطق عمل أخرى، لكن لم يتم تسليط الضوء عليها..ففى بعض المناطق السياحية لم يتمكن بعض المرشدين من أداء عملهم؛ بسبب فوضى الباعة وبعض المتطفلين على السائحين وحدث شجارات كثيرة وأصيب بعض زملائنا بالفعل! كانت الفوضى شاملة كجزء مما مرت به مصر، ولم يكن متوقعًا مثلًا أن تكون المستشفيات بمنأى عما يحدث فى مصر، أى أن الأطباء لم يكونوا مستهدفين كفئة فى مصر، وإنما عانوا من الفوضى كما عانى كثيرٌ من المصريين!
(6)
المعاناة الاقتصادية فى الدخل لا يمكن أن نناقشها بمنأى عن مناقشة الأوضاع الاقتصادية للبلاد ذاتها. فلو سلمنا بمبدأ مساواة الجميع فى أهمية ما يقومون به من أعمال، سيتم وضع هذه المعاناة فى موضعها السليم. لكن أحد أوجه الأزمة هنا هو أن كثيرًا من المصريين قد سقطوا فى الفخ!
منذ عقودٍ وهناك أفكار يتم غرسها فى التربة المصرية ملخص بعضها، أن مصر بلد ترفع التافهين وتمنحهم ما لا يستحقون، بينما تهين العباقرة وتجحفهم حقوقهم، ودائمًا المقارنات جاهزة بين دخول الفنانين مثلًا ولاعبى الكرة وبين دخول الأطباء! لقد ابتلع المصريون الطُعم كاملًا، وتجرعوا هذه الكأس حتى الثمالة، فأصبح بعضهم أبواقًا دعائية سلبية تهين بلادها وتصفها بأنها بلد الراقصات والفنانات، ولا مكان فيها للعلماء، وعلى رأسهم بالقطع الأطباء! لقد نجح من نصبوا هذا الفخ نجاحًا مبهرًا لدرجة أن كثيرًا من شباب مصر أصبح حبيسًا طوال سنوات شبابه لتلك الأفكار الشيطانية وأصبحوا دائمًا ناقمين على أوضاعهم وفقدوا متعة التمتع بما يحققونه من نجاحات فى حياتهم، لأنهم دائمًا يشعرون بهذه الدونية فى بلادهم التى تم غرسها فيهم قسرًا! رغم أن أحدهم لو توقف لبرهة لأدرك أنه كمن يحارب طواحين الهواء، بينما الآخرون يسيرون فى طريقهم!
لكل عصر مفرداته ونجومه ونخبته المالية. وفى عصرنا هذا وفى أعتى دول الغرب- تلك التى يطمح الأطباء إلى الهجرة إليها- هناك النجوم والأثرياء من لاعبى الكرة والفنانين ورجال الأعمال وكبار الساسة. فلو أن مصر - بسبب ذلك- تصبح بلد راقصات، فسيكون العالم كله كذلك وعلى من يرفض هذا العالم الراقص أن يبحث له عن عالمٍ آخر يحيا به! كل العلماء وأصحاب الفضل فى تقديم الحلول العلمية للأمراض ولتسهيل الحياة العصرية بمبتكراتهم لم يصارعوا طواحين الهواء هذه، لكنهم صارعوا الجهل والمرض فى المعامل، وكانت لحظات انتصارهم هى نشوتهم الكبرى، ولم يفكروا فى مناطحة لاعب كرة أو فنان فى شهرته أو أمواله! حين يكون هناك مقارنة يجب أن تكون بين فئات متشابهة، مثلًا بين الأطباء والمهندسين والمعلمين العاملين فى مؤسسات حكومية مصرية. لو أن أحدهم- مهندس أو طبيب أو معلم أو مرشد- يمتلك قدرات أن يكون من أصحاب الثروات ويرغب فى ذلك لفعل! العجز عن ذلك لا يمنح الحق فى الاستعلاء على هؤلاء أو غيرهم!
ولم نتوقف أمام بديهية أخرى.. من قال إن مجرد الالتحاق بكلية الطب والتخرج منها يعنى أن تكون عالمًا أو عبقريًا؟! الحصول على مجموع مرتفع يعنى أنك شخص مجتهد تجيد العمل لساعات طويلة ولا تعنى إطلاقًا عبقريتك! التخرج فى كلية الطب وبدء العمل كطبيب لا يعنى أنك أصبحت عالمًا أو عبقريًا، إنما يعنى أنك أصبحت تحترف مهنة شأن مهنٌ أخرى، وأن أمامك طريقٌ طويل من العمل الشاق لكى نعرف وتعرف أنت إن كنت عبقريًا مبتكرًا فعلًا أم مجرد طبيب يحترف مهنة الطب! فليس كل الجراحين هم مجدى يعقوب، وليس كل أطباء النساء هم أسامة شوقى!
يا سادة الأطباء ليسوا شياطين، وأيضًا ليسوا ملائكة. هم جزءٌ من نسيج هذا المجتمع. طيبهم طيب قبل أن يصبح طبيبًا وبعد ذلك، وشريرهم وفاسدهم شرير وفاسد أيضًا قبل أن يصبح طبيبًا وبعد أن أصبح! من الخلل المجتمعى أن نتعامل مع الأطباء على أنهم ملائكة لا يُنتظر منهم غير تصرفات ملائكية، أو أن ننظر إليهم كشياطين أو مصاصى دماء! الطب مهنة مثل باقى المهن، وبعد مرور عام من ممارستها يصبح الجسد البشرى للطبيب عبارة عن قطعة عمل، ولو لم يحدث ذلك لما استطاع الطبيب نفسيًا ممارسة عمله! فلا ينبغى أن ننتظر منه غير ذلك إن كنا حقًا نريده طبيبًا ناجحًا! كلنا قابلنا فى حياتنا نماذج مختلفة من النقيض للنقيض، تمامًا كما نتعامل مع موظف شريف وآخر مرتشى، وكما تعاملنا مع معلم شره للمال يبتز طلابه لإجبارهم على الدروس الخصوصية وكما تعاملنا مع معلم بأخلاق القديسين! من الأطباء هناك فاسدون وهناك متهربون من الضرائب وأيضا هناك فاشلون يدفع ثمن فشلهم المرضى. ومنهم شرفاء ما يزال بعضهم يتقبل حالات مجانية لغير القادرين، ومنهم من يتمسك برسوم بسيطة فى المناطق الشعبية، ومنهم عباقرة وصلوا لمصاف العالمية أذكر منهم قطعًا مجدى يعقوب ومحمد غنيم وأسامة شوقى الذى طالعت له مؤلفات لعمليات كُتبت باسمه ويتم استقباله فى أكثر من مائة دولة استقبال العظماء! وغيرهم كثيرون لا نعرفهم! هذه هى النظرة المنطقية الطبيعية التى يجب أن يرى المجتمعُ أطباءه من خلالها، وأيضًا أن يرى الأطباء أنفسهم من خلالها!
(7)
لكن ما ليس طبيعيًا وهو السبب الأول لكتابتى لهذا المقال، فهو وبشكل واضح وصريح التنبيه إلى استهداف المرفق الطبى المصرى كأحدث مشاهد الحرب الموجهة ضد الدولة المصرية. أى متابعة للمشاهد الأخيرة- ومنها المحاولة الظاهرة من بعض الصفحات معروفة التوجه للنفخ فى النار، ومحاولة تفخيخ المشاعر المجتمعية بين أطباء مصر ومجتمعهم- سوف توضح هذا الاستهداف. ومؤخرًا نشر أحد كبار أطبائنا العالميين على صفحته الخاصة واقعة جديرة بالتوثيق. حيث تواصل معه بعض الأطباء المصريين بالخارج ونقلوا له رغبتهم الصريحة فى التواصل مع الأطباء الراغبين فى الهجرة وأنهم سيقومون بتوفير مساعدات مالية ووظيفية لهؤلاء الراغبين!
ليس هذا هو الاستهداف الأوحد، فقد سبقه منذ سنوات استهداف فئة الأطباء أثناء دراستهم الجامعية بنشر الفكر المتطرف والمعادى للدولة المصرية، وأصبح لدينا أعداد غير قليلة هى بالفعل معتنقة لهذه الأفكار من سلفية وإخوانية. ولا يمكن الاحتجاج هنا بحرية الفكر والمعتقد، لأن هذا يسهم فى إفساد منظومة الطب المصرية بتحريض شباب الأطباء على المغادرة بعد التخرج، أو على تبنى مواقف لا تستقيم مع طبيعة مهنة الطب.
استهداف ثالث تحريضى تتبناه قوى مصرية بالخارج تعادى الدولة المصرية بشكلٍ صريح، وفى سنواتٍ سابقة استطاعت بالفعل السيطرة على بعض أنشطة نقابة الأطباء وحولت بعض أنشطتها الإنسانية إلى أنشطة دينية متطرفة. التأثير على مرفق الطب فى أى دولة هو من تمام مفردات الحرب الصامتة، كما رأينا كيف سقطت دول كبرى فى جائحة كوفيد حين سقطت أنظمتها الطبية. المشهد الحالى يطابق مشهد هجرة المعلمين الذى دفعت مصر ثمنه لعقود تالية!
(8)
كيف نواجه كل هذا المشهد بشكلٍ يحتوى هذه العلاقة المجتمعية، ويضعها فى إطارها الناضج الصحيح؟ إجابة هذا السؤال هو السبب الثانى لحديثى هذا، وكان واجبًا أولا تقديم المشهد بكل جوانبه.
إن أول متطلبات المواجهة هو استلهام تجربة ومنظومة مؤسسة مجدى يعقوب فيما يتعلق بوضع نظام صارم يمنح للطبيب- مثل أى مواطن مصرى يقوم بمهنته- الحماية الكاملة للقيام بوظيفته. لقد كانت مشاهد التشابك بين الأطباء وذوى المرضى فى السنوات السابقة هى المطية الأولى، والحجة الأكثر استخداما من جانب القوى التى تستهدف منظومة الطب المصرية. الموضوع ليس معجزا ويتلخص فى وضع بروتوكول نظامى رسمى يتم الالتزام به فى جميع المؤسسات الطبية المصرية يشمل عدم السماح لأكثر من مرافق من دخول حرم أى مستشفى، وتوقيع هذا المرافق على مستند بمسئوليته المتفردة عن التواصل الإدارى مع الطبيب المعالج لوقتٍ محدد صارم. وإعادة النظر فى منظومة شركات الأمن الخاصة التى تتولى مسؤلية تطبيق هذا النظام.
النقطة الثانية تخص تلك العلاقة بين شباب الأطباء وكبارهم من رؤساء الأقسام والمسئولين عن الحالات فى كل مستشفى. يجب أن تتدخل إدارات المستشفيات فى تلك العلاقة إداريًا وبشكل رسمى، وتضع نظامًا يوجب على الطبيب المعالج القيام بمسئولياته داخل المستشفى وتحديد ساعات عمل للطبيب الشاب بما يتناسب مع المعدلات الدولية.
أن تقوم نقابة الأطباء فى مصر بعمل إعلانات تليفزيونية إرشادية للمصريين، تشرح من خلالها دور الطبيب، وحدود العلاقة بين الطبيب وذوى المريض، وتشرح فيه بنود هذا البروتوكول وأهمية تفعيله بشكلٍ صارم حرصًا على حياة مرضاهم، ولتوفير المناخ الملائم للطبيب للقيام بعمله مثل المعلم الذى لا يمكن لأسرة طالب مثلًا أن تقتحم الفصل الدراسى أثناء أداء عمله! دور نقابة الأطباء التوعوى ضرورى جدًا لكل من المرضى وذويهم من ناحية، وللأطباء من ناحية أخرى.
(9)
هناك خطوة استباقية يجب من خلالها توفير حماية فكرية وثقافية لطلاب كليات الطب الحاليين. أتصور لهذه الخطوة أن يتم استحداث مادة تثقيفية جديدة محدودة زمنيًا لجميع الطلاب لا تقتطع من وقتهم أكثر من ساعتين كل أسبوع. تحتوى هذه المادة بعض المحاضرات التى من شأنها تحصين عقل الطبيب ضد الاختراق، خاصة أن طالب الطب لا يتوفر لديه وقتٌ كافٍ للقراءة الثقافية العامة.
من ضمن هذه المحاضرات أقترح محاضرة عن تاريخ مصر الطبى عبر العصور وتوضيح إسهامات مصر الكونية فى علوم الطب والصيدلة؛ لتحفيز الطلاب وتوعيتهم بأهمية ما يقومون به، ولإدراك موقع بلادهم على خريطة الكون الطبية.
ومحاضرة أخرى موجزة عن تاريخ مصر عبر العصور التى أعتقد أنها من تمام حائط الصد وتفعيل لفكرة الهوية التى يجب أن تكون لكل المصريين!
وثالثة عن مصر المعاصرة الحالية وما تواجهه الدولة المصرية من تحديات حتى يدرك الطبيب الشاب أنه جزء من هذه البلاد، وأن دوره لا بد وأن يكون فى إطار الصورة العامة فلا ينفصل فكريًا عن واقعه ومجتمعه. وفى نفس الإطار أن يتعلم طالب الطب أن مهنته حيوية لبلاده، لكنها ليست الوحيدة المهمة، فكل المهن مهمة، وكل مهنة لها مشاقها وعليه أن يدرك ذلك ولا يتعالى على أصحاب مهن أخرى، فإنتاج أى مجتمع يقوم على الناتج الكلى لكل أفراده!
وأخرى رابعة عن مواجهة الفكر المتطرف وأهمية التفكير العلمى والمناقشة وعدم تسليم العقل لرجل دين. وفى هذه النقطة فلدى مناقشات كثيرة مع أطباء شباب اكتشفت من خلالها أن مصر ستواجه مشكلة حقيقية إن لم تتدارك هذه النقطة، فأحدهم قال ردًا على سؤالى إن حدث وجود طرق علاجية جديدة تمامًا هل ستطبقها مباشرة، فكان رده أنه سيسأل أولًا رجل دين! وثانيًا يعتقد أن مصر مخطئة فى تحريم عمليات الختان! على من يهمه الأمر أن يتدارك الأجيال الجديدة من طلاب كليات الطب ويوفر لهم هذه المحاضرات التثقيفية، كما فعلت مؤسسات مصرية كثيرة جدًا فى كل التخصصات!
(10)
من تمام تصويب العلاقة بين الأطباء والمجتمع، أن ندرك معنى عبارة «الاستثمار فى الإنسان» على حقيقتها. ففيما يخص المرفق الطبى، فمصر تقوم بهذا الاستثمار بالفعل ومنذ عقود وتحديدًا منذ وضع مجانية التعليم الجامعى فى إطار الدستور المصرى. تقوم الدولة بالإنفاق بمبالغ طائلة على منظومة كليات الطب المصرية. وفيما يخص الطالب، فهى كأنها تمنحه قرضًا مؤجل السداد لإتمام دراسته، ويقوم هو بعد التخرج بسداد جزء من هذا القرض فى شكل «أمر التكليف» للعمل فى المنشآت الطبية الحكومية لتوفير الرعاية الصحية للمواطنين فى ربوع مصر. فليس من العدل أن يستفيد الطلاب من القرض، ثم لا يقوم أكثر من 60% منهم بالسداد! هذا يعنى أن هناك خللًا فى تلك العلاقة أثرت بالفعل فى حقيقة وجود نقص فى عدد الأطباء. لو تخيلنا مثلًا أن هناك مصارف تقوم بتوفير هذا القرض وتلزم الطالب بالسداد بعد التخرج، فهل كان يمكن لهذه النسبة الكبيرة أن تمتنع عن السداد؟! الإجابة قولًا واحدًا لا! لأن البنوك ساعتها كانت تستطيع منع الطبيب من المغادرة قبل السداد!
لذلك وتحقيقًا لمبدأ العدل فى هذه العلاقة فإننى أقترح أن يتم تخيير الطالب بين التمتع بمجانية التعليم فى كليات الطب، مقابل أن يوقع على إقرار ملزم بالعمل فى المنشآت الطبية الحكومية لعدد سنوات معين مثل خمس سنوات قبل أن يكون له حق الاستقالة أو الإجازة دون مرتب، يتوفر خلالها خريجون جدد يسدون فراغًا من يغادرون بعد هذه السنوات الخمس! ومن لا يرغب فى ذلك فمن حقه، شريطة أن يقوم بالالتحاق بكليات الطب الخاصة أو الأهلية بمصروفات! ومن يحتج على هذا بأنه مخالف للدستور المصرى الذى يمنح الحق القانونى لكل مصرى فى التمتع بمجانية التعليم الجامعى أقول إن أى دستور هو فى الأساس عقد أخلاقى وقانوى بين المواطن والدولة، يترتب على كل طرفٍ فيه أن يلتزم أخلاقيًا وقانونيًا بما له وبما عليه. وأن مصر حين قررت منح مجانية التعليم الجامعى فى عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فإنها كانت تهدف بالأساس لتخريج أجيال يقومون ببناء دولة مصرية عصرية، ولم تفعل ذلك لكى تضخ ميزانيتها وتقوم بإعداد أطباء تقوم دول أخرى بالاستفادة منهم! إن كان هناك حق للطالب المصرى، فعليه واجب أخلاقى تجاه بلاده! وإن كنا قد وصلنا لمرحلة من الذاتية أصبح خلالها هذا الواجب مستنكرًا أو مستهجنًا، فلا بد أن يتم تصويب المسألة وأن يتحول هذا الالتزام الأخلاقى الوطنى إلى التزام قانونى، ويجب أن تعمل الدولة المصرية كما تفعل دول أوروبا الغربية وتتحول العلاقة بينها وبين بعض مواطنيها فى بعض الحالات إلى علاقة نفعية تبادلية!