مصر وجولة شرسة من مصارعة الأفاعى!
(١)
بينما انشغل كثيرٌ من المصريين بمشهد مشاجرة طبيب مع مطرب، وانشغل آخرون بمتابعة محلل النقطة صفر وهو يقضى ساعات يتغزل فى مقطع فيديو لتدمير ميركافا على شاشة القناة المشبوهة، كانت هناك كوكبة من المصريين تخوض واحدة من أشرس جولات المصارعة ضد منتخب متعدد الهويات والملامح من الأفاعى! هذه هى أحدث مشاهد مؤامرة أو على أحسن التقديرات ظنًا ورطة السابع من أكتوبر الماضى!
منذ التاسع أو العاشر من أكتوبر صرحت قيادة الدولة المصرية بأن مصر تواجه واحدة من أخطر التهديدات على أمنها القومى. وأن مصر تقرأ المشهد من اللحظة الأولى قراءة حقيقية وأنها لن توافق أو تسمح بتصفية القضية أو التهجير القسرى أو إنهاء القضية على حساب مصر وأمنها القومى وسلامة أراضيها. كانت هذه تصريحات مصرية رسمية من اليوم الأول. مرت المشاهد والشهور حتى وصلنا لما قرأته مصر واستعدت له، فأين المصريون مما تواجهه دولتهم الآن تحديدًا؟!
(٢)
ربما لا يعرف كثيرون فى مصر أن دولتهم قد استبقت هذه المؤامرة بسنوات وتحديدًا منذ عام ٢٠١٥ وحتى ٢٠١٨م حين صوبت ما كان يمكنه أن يضعها فى ورطة حقيقية الآن! أن تكون قيادة ذات رؤية مستقبلية هو خط الدفاع القومى الأول. قامت مصر بتدمير أكثر من ألفين وخمسمائة نفق على حدودها الشرقية، وأصدرت قرارًا عسكريًا بتأمين حدودها الشرقية بخلق الحرم الحدودى الآمن. ساعتها انطلقت الأفاعى تحرض على مصر وتدعى كذبًا أنها تُهجر بعض مواطنيها قسريًا! ونشط العملاء خاصة العميل البدوى الذى كشفت عن وجهه القبيح القبائل السيناوية الوطنية الأصيلة. كسبت مصر جولة استباقية من تلك المعركة أو المؤامرة قبل أن يتم بدؤها رسميًا بسنوات، فالمجد كل المجد لأولئك الذين حموا ثغور مصر ولم يفرطوا كما حاول آخرون التفريط!
ثم خاضت مصر الجولة الثانية منذ صباح السابع من أكتوبر، حين صرح الرئيس السيسى بأنه عقد وترأس غرفة عمليات متواصلة منذ بث مشاهد هجمات السابع من أكتوبر ووضعت خطتها وشرعت فى تنفيذها بعقد مؤتمر قمة ثنائى مع ملك الأردن التى واجهت بلاده نفس المؤامرة بالتخطيط لتهجير بعض أو كل سكان الضفة إليها. ثم عقد مؤتمر دولى بالقاهرة لكشف المخطط ورفضه والتمسك بحل الدولتين كاختيار أوحد إذا أرادت إسرائيل العيش فى سلام مع جيرانها. وفى نفس الجولة أعلنت مصر عن غلق حدودها ورفض النزوح إلى أراضيها، وأعلنت عن أن ذلك ليس إلا تمسكًا بحق أهل القطاع فى أرضهم، لأنها تعلم أنهم إن خرجوا فلن يُسمح لهم بالعودة إليها أبدًا وستكون نكبة جديدة وإعلان وفاة قضية فلسطين للأبد.
(٣)
فى الجولة الثالثة أصرت مصر على إنفاذ المساعدات وأعلنت للعالم عن أن مطار العريش مفتوح لاستقبال طائرات المساعدات لثقتها أنها قادرة على تنفيذ رؤيتها وقرارها وهذا ما كان. لم ترضخ لمساومات وضغوط القوى الاستعمارية الكبرى التى هرول قادتها للقاهرة لمساومتها نيابة عن الحكومة الصهيونية المتطرفة. رفضت مصر كل الضغوط ورفضت إخراج رعايا هذه القوى دون إنفاذ المساعدات لأهل القطاع.
بعد أن استوعب قادة هذه الدول موقف مصر بدأت هذه الدول فى تغيير لهجتها إلى اتجاه محاولة التوصل لاتفاق لتبادل الأسرى مقابل الرهائن، وكانت مصر فى صدارة المشهد ونجحت فى الوصول بالصفقة إلى بر الأمان وأوقفت إطلاق النار وأتاحت لمئات الشاحنات الدخول للقطاع.
فى ذروة خوض مصر لهذه الجولة كانت جماعات الإسلام السياسى شيعة وسنة تخوض جولة منفردة من الحرب، لكنها كانت تخوضها ضد مصر! فى الوقت الذى قدمت مصر منفردة أكثر من ثمانين بالمائة من المساعدات التى يتم إدخالها إلى القطاع، وبدلًا من مساندتها والاصطفاف خلفها، قررت تلك الميليشيات العميلة خوض حربها ضد اقتصاد مصر ومحاولة خنقها بضرب ممر قناة السويس، وتجنيد أذرعها الإعلامية القذرة من قنوات تليفزيونية وصفحات التواصل الاجتماعى للهجوم الممنهج على مصر، قيادة وقوات مسلحة!
(٤)
وفى مصر ذاتها سقطت بعض وجوه النخبة سقوطًا مريعًا، وبدلًا من إدراكها لما يحدث إدراكًا سليمًا، انساقت بعض الأسماء الصحفية والدينية خلف العامة وشكلت بمواقفها وبعض كتاباتها ضغطًا إضافيًا على الدولة المصرية. بدءًا من مشهد سلالم نقابة الصحفيين مرورًا بتصريحات بعض القيادات الدينية وصولًا لتبنى البعض مطلبًا خيانيًا بامتياز «افتحى المعبر يا مصر!».
الغريب أن كل هؤلاء لم يتوجهوا حتى باللوم أو العتاب لدول تزعم أنها تشكل محور المقاومة! حتى كانت التسريبات من هنا وهناك تكشف عن أن هجمات السابع لا علاقة لها بمطالب وطنية فلسطينية، إنما لحسابات قوى شيعية وحسابات حمساوية، ورغم ذلك فقد ظل المغيبون فى مصر على مواقفهم وظلوا يشكلون ما يشبه أكياس الرمال فى أقدام الدولة المصرية فى وقت حاسم يتطلب أن تتحرك تلك الدولة مسلحة باصطفاف وإجماع وطنى كامل وبكامل طاقتها وتركيزها.
(٥)
موقف حماس بدأ يتكشف تدريجيًا مع تصريحات بعض قادتها وتوجهات تلك القناة المعروفة وما تبثه من تحليلات تدعى المهنية والاحترافية.
ففى يوم السابع ذاته ومنذ الصباح توالت تصريحات قيادتها تحرض المصريين صراحة على التوجه للحدود المصرية وتخريبها!
حين أصبح الحديث مكشوفًا عن خطة سرقة جزء من أرض مصر، خرج أسامة حمدان بتصريحه الأوقح بأن سيناء يمكنها أن تصبح قاعدة انطلاق قوية للمقاومة!
أما الموقف الأكثر سفورًا فقد كان فى تسليم المعبر والمحور بشكل أقرب لأن يكون صريحًا للقوات الإسرائيلية دون وقوع عمليات ممانعة عسكرية ذات شأن!
لم يكن ذلك عفويًا، إنما جاء اتساقًا مع وجهة نظر عبر عنها شيوخ غير مصريين على المنبر بجملة «إجبار مصر والأردن على دخول المواجهة!».
وفضح ذلك تصريحات ذلك اللواء المشبوه على شاشة تلك القناة بمجرد وجود القوات الصهيونية فى المحور حيث قال نصًا «الآن الموقف يخص مصر وأمنها القومى، وهى إن رضيت بهذا تكون قد فرطت فى أمنها القومى!». كانت المؤامرة واضحة كاشفة للجميع، ولا يراها سوى أهل الغرض والهوى!
اعتقدوا أنهم بذلك قد وضعوا ظهر مصر للحائط وأنها سوف تُجبر رغمًا عنها لخوض حربٍ ليست حربها ولم تختر توقيتها لهدمها وتفتيتها حتى تصبح مثل كل الأوطان التى تمزقت بأيدى أبنائها فترتع قوى الشر فى أرضها كما رتعت فى أراضى تلك الأوطان!
(٦)
ثم كان آخر المشاهد الذى ما زلنا نتابعه الآن والذى لا يمكن أن يخطئ تفاصيله طفلٌ صغير.. تجمعت فى أيام معدودة على أصابع اليد الواحدة مجموعة تفاصيل وأخبار معلنة. أولها غياب حماس عن جولة المفاوضات الأخيرة فى واقعة مثيرة. ثانيها تصريحات مشتركة بين وزير الخارجية الأمريكى وأمير دويلة ملخصها الاتفاق على «عدم السماح لأى جهة فى المنطقة بتعطيل الوصول لاتفاق» حظى بموافقة صهيونية. سبق التصريح تصريحات رئيس وزراء الكيان بتمسكه بالتواجد فى المحور! ثالث التفصيلات كان خفوت صوت حماس فيما يخص المحور والمعبر والحديث عن خطة بايدن القديمة التى لم تتطرق للتواجد الصهيونى فى كليهما، وتسريب خبر عن طلب السنوار ضمانات أمريكية بعدم ملاحقة إسرائيل له حال التوصل لصفقة. وقبل تلك المشاهد كان تصريح أبومرزوق الصريح عن أن مصر بإمكانها وقف العدوان! ثم خاتمة المشاهد خريطة «نتنياهو بلينكن» التى تحتوى إعادة انتشار صهيونى فى المحور أو إقامة أبراج صهيونية ثمانية أو اثنين أو قوات متعددة الجنسيات تحت إشراف صهيونى!
حين نضع هذه التفاصيل كمعطيات لأى معادلة رياضية منطقية نصل يقينًا لنتيجة أن الأفاعى قد توافقوا أو اتفقوا ضمنًا على مساومة مصر! واعتقدوا وهمًا بأن مصر خياراتها محدودة، فإما أن توافق على «خريطة نتنياهو بلينكن» وساعتها تنطلق كل الأفاعى من الجحور تكيل الاتهامات لمصر، وفى ومضة تغسل حماس ثوبها تمامًا، وتقدم نفسها فى صورة المقاومة التى خانتها مصر! أو أن ترفض مصر وساعتها يتخلى عنها الجميع كما تعودنا وتنتظر حماس أن تخوض مصر نيابة عنها معركة عودتها للحكم ولاسترجاع معتقليها ويتم تقديمها بأنها التى انتصرت!
(٧)
يقينًا هم واهمون، فمصر الرسمية العريقة لديها أوراقها التى يمكنها أن تستخدمها كما تريد. أى عبث باتفاقيات ثنائية سابقة ستقابله مصر برد فعل مضاد ومساوٍ فى القوة أو يزيد وستخسر إسرائيل كل ما سعت من أجله فى السنوات السابقة من إقامة علاقات متوازنة مع دولة كبرى فى المنطقة اسمها مصر، وستدفع الحكومات التالية لنتنياهو الذى سيسقط حتمًا قريبًا جدًا، ثمن هذا العبث وستستفيد مصر فائدة كبرى.
الإدارة الأمريكية الحالية أقرب لحكومة تسيير أعمال تلهث من أجل تحقيق أى انتصار فى الشرق الأوسط تنفع به مرشحتها المقبلة ولن تستطيع الضغط على مصر بالقوة.
أما أسوأ السيناريوهات - الذى أستبعد أن تلجأ إليه الدولة المصرية - وهو أن ترفع يدها عن الوساطة فسوف يدفع الجانب الفلسطينى ثمنه وبالأخص حماس التى لن يكون فى يديها أية اوراق ضغط بها بعد تحرير الرهائن أو تسليمهم أو حتى قتلهم بغارات إسرائيلية بالتدريج، وساعتها لن يكون هناك شىء اسمه حماس.
المصريون مطالبون الآن بإدراك ما تخوضه مصر بوجهه الحقيقى، وعلى رأس القائمة هؤلاء الذين يقودون مؤسسات الوعى من صحافة وإعلام ومؤسسات دينية. الدولة المصرية قادرة على خوض الجولة الشرسة باحترافية وهدوء وثقة بالنفس، لكنها تحتاج إلى دعم شعبى كاسح.
سوف تمر المعركة وسوف تخرج مصر منتصرة، لأنها داعية حق وسلام تخوض معاركها بشرف، لكن التاريخ لن يجامل أحدًا ولن يصمت عن تسجيل المواقف مهما يكن اسم أو صفة صاحب الموقف. سوف يسجل التاريخ مواقفنا، من قام بدوره الوطنى ومن تواطأ ومن خان ومن لم يكن على قدر اللحظة! أتمنى أن يستفيق المصريون وأن يعلو أصحاب المناصب والمواقع إلى مستوى المعركة الوطنية قبل أن يندموا فى لحظة لن يفيدهم ندمهم! ليس من المنطق أن يتوقع المصريون أن تخرج القيادة المصرية ببيانات تفصيلية يومية تعلن فيه عما تمتلكه من أوراق فى معركة للمعلومات اليد الطولى للحسم، لكن كل المنطق أن يدرك المصريون عبر متابعاتهم للأخبار حقيقة المشهد وأن يقوموا بما يمليه عليهم ضميرهم الوطنى.