لا نقول وداعًا يا سمية
لا نقول وداعًا يا سمية لأننا نودع من يفارقوننا، وأنتِ باقية فى القلب مثل وردة هوت من على غصنها، وبقى عطرها عالقًا بالجو. أتأمل حياتك الآن التى انقضت من دون حساب للمكاسب والخسائر، وأنتِ منكبة فقط على الحقيقة القلقة التى أرقتك من غير أن تكُفى عن التحديق بروحك.
قبل رحيلك بأسبوعين استحضرنا مسيرتك؛ كان ذلك بمبادرة من الروائية الصديقة هالة البدرى، وحضور د. سحر الموجى والكاتب علاء خالد وآخرين، وكيف أنكِ حصلت على الدكتوراه فى اللغة الإنجليزية بأيرلندا عام ١٩٨٣، ثم شققت طريقك الأدبى متأخرًا وأنتِ فى الرابعة والأربعين، عندما نشرت أولى مجموعاتك القصصية «خشب ونحاس» عام ١٩٩٥، وأعقبتها «منازل القمر» ١٩٩٩ ثم ترجمة كتاب فرجينيا وولف «غرفة تخص المرء وحده» ١٩٩٩، وأخيرًا رواية «أوراق النرجس» ٢٠٠١ الفائزة بجائزة نجيب محفوظ، ثم عكفت بعد ذلك على تدريس الطلاب فى المعهد العالى للنقد الفنى.
ورُحتِ شيئًا فشيئًا تتجنبين الحياة الثقافية والندوات واللقاءات، وبلغ بك الشعور بالوحدة حد أنك أقمت منزلًا فى أسوان تهربين إليه من الصخب والضوضاء، وظللت حتى نهاية يونيو هذا العام تترددين على المعهد، إلى أن هاجمك المرض اللعين، وكنت مرة تردين على مكالماتى، ومرات يرد نيابة عنك ابنك العزيز ياسر حتى ظهر يوم الإثنين ١٩ أغسطس عندما تلقيت مكالمة سمعت خلالها صوت ياسر يغمغم مختنقًا: «ماما.. خلاص». هكذا استعاد الرب فى ١٩ أغسطس النار التى أجرى فى قلبها الندى، وترك لنا حزنًا غمر كل خلية ورجفة شعور، وكيف لنا أن ننسى نظرتك الواضحة مثل شعاع نقى ينفذ إلى روح الجالس معك، بحثًا عن الحقيقة، من دون تجريح لكن بتفهم، النظرة التى تجعل مَن معك يلقى وراء ظهره بأى افتعال أو قناع أو ادعاء ويصبح حقيقته. ولطالما أدهشتنى حياتك التى مرت مثل ومضة جميلة لم تعبئى فيها بحسابات الربح والانتشار. كتبت عندما أردت وتوقفت عندما وددت، اختلطت بالناس حين شئت واعتزلت حينما رغبت. وكنت خلال ذلك أراك طائرًا قلقًا، الأرض ساخنة على قدميه والسماء ثقيلة على جناحيه.
تُرى هل تذكرين أنك مرة فى بدايات تعارفنا نظرت إلىّ مثل طفلة تتأهب لتدهش الآخرين وسألتنى: «أتعرف يا أحمد ما معنى اسمى؟.. سمية؟». لزمت الصمت، فقلت أنت بسرور الأطفال: «سمية هى القطعة الصغيرة من السماء»! وضحكت سعيدة وأنت تكادين أن تثبى من على مقعدك لأنك أدهشتنى.
الآن استرد الرب قطعة السماء الصغيرة، لكننا سنظل كلما تطلعنا إلى أعلى رأيناك، كاتبة موهوبة ومبدعة حقًا، وإنسانة تفعل ما يلزمها به ضميرها دون نفع شخصى. أذكر أنه فى ٥ يونيو ٢٠١٣ حين بدأ اعتصام المثقفين بمبنى وزارة الثقافة لصد الهجمة الإخوانية، كان هناك عدد من شباب المثقفين يقف يوميًا عند بوابات الوزارة حراسة للاعتصام، وكانت تمر عليهم صباح كل يوم سيدة تناولهم كميات ضخمة من السندويتشات لكى يفطر المعتصمون عليها ثم تستدير وتنصرف دون أن تعلن عن نفسها. فيما بعد وبالمصادفة فقط عرفوا أنها دكتورة سمية رمضان. لا نقول وداعًا يا سمية لأنك معنا، الآن، وغدًا، وبعد غدٍ، ملء القلب والشعور، قطعة غالية من السماء.