رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصور التى لم نرها.. الأقوى فى الذاكرة

من العجيب أن يؤدى إخفاء الشىء إلى سطوع صورته التى لم نُبصرها، وأن تصبح تلك الصورة هى الأشد وضوحًا وجلاءً فى الذاكرة، ومثال ذلك أنه عندما رسم ناجى العلى صورة «حنظلة» الشهيرة، جعلنا لا نرى وجه الطفل الذى أدار ظهره للدنيا غاضبًا معاتبًا، وجعلنا لا نرى وجه الطفل، ومن ثم يطلق كل منا خياله فى تصور عذاب الطفولة، وبذلك سطعت صورة حنظلة إلى الأبد بإخفاء ملامحه وليس بإظهارها. 

خطر لى ذلك مع حلول ذكرى اغتيال ناجى العلى فى مثل هذا الشهر منذ ٣٧ عامًا، وبرقت معه صورة حنظلة. وقد لا يتذكر الكثيرون مئات اللوحات التى رسمها ناجى، لكن الوجه المخفى الذى لم نره يظل الأبقى فى الذاكرة. الإخفاء وليس الإظهار هو ما لجأ إليه من قبل المخرج فيكتور فليمنج عندما حول فى عام ١٩٣٩ رواية «ذهب مع الريح» إلى فيلم، وذلك فى المشهد الذى تفجر فيه حزن «ريت بتلر» زوج البطلة عند وفاة طفلته الوحيدة، فقد ارتأى المخرج أن أفضل وسيلة لإظهار أحزان الأب العميقة ليس تصوير وجه الأب، لكن بإخفائه، وجعله فى غرفة منعزلة فلا نراه، ومن ثم يطلق خيالنا فى تصور ألمه وعذابه، وبذلك بقيت الصورة غير المرئية أقوى سطوعًا فى الذاكرة، وأشد تأثيرًا من دموع تجرى أمام عينيك. 

ولنضرب مثالًا آخر، فنحن عادة ما نتذكر الحروب بصورها القاسية، خاصة حرب الإبادة التى تشن على غزة، نتذكر صور الأطفال الذين يحتضنون ويواسون بعضهم بعضًا، لكن حدث منذ أيام قليلة أن التقيت فى مقهى شعبى بمدينة نصر صديقًا مصريًا جاء وبصحبته شاب فلسطينى، نزح من غزة إلى القاهرة منذ شهور. وتطرق الحديث إلى بربرية الكيان، وصور الشهداء، وبطولة الأحياء، ولم يكن فى كل هذا جديد بالنسبة لى، لكننى توقفت بذهول حين قال لى الشاب بهدوء شديد: «تصور حضرتك انقضت ثلاثة أشهر وأنا أعيش فى القاهرة، لم يعد موت يهددنى، ولا قنابل، نعم.. لكن إذا حدث أن سمعت وأنا أعبر الشارع فرقعة موتوسيكل يعبر بالقرب منى، فإننى أرتجف دون وعى، ويخيل إلىّ أننى ما زلت فى الحرب، وأن تلك فرقعات القنابل التى تحصدنا، فأجدنى بشكل تلقائى أنحنى وأطوق بدنى بيدىّ الاثنتين لأحمى نفسى من الموت». 

هكذا تطل من الحرب أقوى صورها، الصور التى لم تحدث فى الحرب، لكن فى السلام! وتظهر حرب الإبادة بقوة مع إخفاء الحرب وليس إظهارها. وبالرغم من نذالة الحرب ودناءة المجرمين، يظل وجه حنظلة المخفى يجوب العالم، بكل الألم الذى لم نره، وهو يحمل حقيبته متجهًا إلى المدرسة تحت القصف، يفتش فى الدروب عن أمل، ويبقى وجهه الذى لم نره أشد سطوعًا فى الذاكرة والتاريخ وفى النصر القريب.