رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهندس التحول إلى «الحكم العائلى»

تتميز الشخصيات الخطرة، عبر التاريخ، بالقدرة على إحداث تحولات كبرى فى مسار الأحداث ومصائرها، إنها قادرة على الإمساك باللحظات المفصلية، واستغلالها فى إعادة هيكلة شكل الحياة، ورسم خرائط جديدة لها، ووضع خطوط فاصلة بين مرحلتين، مرحلة ما قبل الدخول إلى مسارح الأحداث، ومرحلة ما بعد الدخول والتأثير على مسارح الحياة. لا تجد شخصية ينطبق عليها هذا الوصف مثل «مروان بن الحكم» مهندس التحول من حكم الخلافة الراشدة إلى الحكم العائلى الوراثى فى العصر الأموى، الرجل الذى قام- فى تقديرى- بدور أخطر من معاوية بن أبى سفيان فى تأسيس الدولة الأموية، والذى ظل يخطط من وراء حجاب، على مدار عقود، للوصول إلى سدة الخلافة، حتى نجح فى ذلك، ليصبح الحكم له ولأولاده من بعده. جلس مروان بن الحكم على مقعد الخلافة عام ٦٤ هجرية، بعد أن مكث يخطط ويدبر ويسعى للجلوس على هذا المقعد منذ عام ٢٣ هجرية «سنة تولى عثمان بن عفان الخلافة»، أى لمدة تقترب من أربعة عقود، نال بعدها هدفه، لكنه لم يمكث على كرسى الحكم سوى عدد من الشهور، ليتم اغتياله بعدها بطريقة شديدة الغرابة.

مروان بن الحكم من مواليد سنة ٢ هجرية، ما يعنى أنه عاصر النبى، وحين توفى صلى الله عليه وسلم «عام ١١ هجرية» كان عمره لا يزيد على ٩ سنوات، ويعنى ذلك ابتداءً أن وصف البعض له بـ«الصحابى» ليس فى محله، فلا يعقل أن يُنعت بهذا الوصف لمجرد أنه عاصر النبى خلال سنواته الأخيرة، فصحبته صلى الله عليه وسلم أساسها الدور والبلاء الذى أبلاه الصحابى فى الدفاع عن الإسلام، حتى مكّن الله تعالى لدينه الذى ارتضاه للناس، ولا تنهض مجرد المعاصرة الزمنية كمعيار موضوعى على ذلك، فما بالك إذا كانت المسألة تتعلق بطفل ولد أواخر حياة النبى، وعاصره لبضع سنوات قبل أن تصعد روحه الشريفة إلى بارئها. 

ومروان هو ابن الحكم بن أبى العاص بن أمية بن عبدشمس بن عبدمناف القرشى الأموى. يشير «شمس الدين الذهبى» فى «سير أعلام النبلاء» إلى أن الحكم بن أبى العاص ابن عم أبى سفيان بن حرب. وقد ظل كافرًا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، ومعاديًا له، ولم يُسلم إلا بعد الفتح، مثله مثل أبى سفيان. وقد قرر النبى بعدها نفيه إلى الطائف لكونه حاكاه فى مشيته وبعض حركاته. يشير «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» إلى أن «البيهقى» أورد أن رجلًا حاكى النبى، صلى الله عليه وسلم، فى كلام، واختلج بوجهه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كن كذلك، فلم يزل يختلج ويرتعش مدة عمره حتى مات، وقد ورد فى بعض الروايات أنه الحكم بن أبى العاص، أبو مروان بن الحكم. وقد كان من المسائل التى اعترض عليها المتمردون على عثمان بن عفان أيام الفتنة الكبرى كونه عطف على عمه الحكم وآواه وأقدمه إلى المدينة، ووصله بـ١٠٠ ألف. ويذكر «ابن كثير» أيضًا أن النبى، صلى الله عليه وسلم، وصف الحكم بن أبى العاص قائلًا: حية، أو ولد حية، عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه، إلا المؤمنين، وقليل ما هم، ليترفوا فى الدنيا، ويوضعوا فى الآخرة، هم ذوو مكر وخديعة، يعطون فى الدنيا، وما لهم فى الآخرة من خلاق.

ولم يكن لعثمان، رضى الله عنه، أن يأتى مثل هذا الفعل فيكرم رجلًا أساء إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، إلا تحت ضغط، وكان الضغط نابعًا من مروان بن الحكم الذى انضم إلى بلاط الحكم، وأصبح واحدًا من بطانة «عثمان»، وهو فى أوائل العشرينات من عمره. والواضح أن «مروان» كان من ألمع شباب قريش، بسبب حسبه ونسبه، ناهيك عما تمتع به من قدرات عالية فى الإدارة، جعلته يأخذ موقعًا متقدمًا داخل دوائر الحكم، بمجرد أن تولى الخلافة واحد من العائلة الأموية، وهو الخليفة الراشد الرابع عثمان بن عفان، رضى الله عنه. وقد تمتع «مروان» بتأثير كبير على الخليفة، برز أول ما برز فيما يتعلق بأبيه الحكم بن أبى العاص، فأعاده عثمان وأكرمه، بعد أن نفاه رسول الله إلى الطائف، ولعنه ولعن من يخرج من صلبه إلا المؤمنين. وتتعجب من تأثير شاب بعمر مروان بن الحكم فى ذلك الوقت «وكان عمره بضعًا وعشرين سنة» على شيخ بحجم عثمان، رضى الله عنه، وكان عمره حين تولى الخلافة ٦٨ سنة، وظل على كرسيها حتى عمر الـ٨٢ «بالحساب الهجرى». وقد ظهر تأثير مروان على الخليفة فى مواقف أخرى عديدة بعد ذلك، وكلها تشهد على أننا لم نكن بصدد شاب عادى، بل أمام رجل طامح إلى تمكين بنى أمية، الذين آمنوا والسيف فوق رقابهم، بعد فتح مكة، من حكم المسلمين.

ولكى تعرف خطورة الدور الذى قام به مروان فى تاريخ المسلمين عليك أن تتذكر المقاومة العنيفة التى قادها «بنو أمية» على وجه التحديد لرسالة الإسلام، وهى المقاومة التى تزعمها كبار الأمويين، مثل أبوسفيان بن حرب، الذى قاد المشركين فى معركة بدر، والحكم بن أبى العاص، الذى كان يسخر من النبى، صلى الله عليه وسلم. هؤلاء وغيرهم- من رجال بنى أمية- ممن مكثوا على الكفر، ولم يسلموا إلا بعد أن يئسوا من أن تقوم لهم قائمة فى مكة بعد أن فتحها النبى، ظلوا يخططون لاستعادة القيادة والزعامة على العرب من جديد، تحت راية الإسلام هذه المرة، وقد قام بالدور الأهم على مستوى الاستعادة شباب بنى أمية، وأهمهم وأخطرهم مروان بن الحكم.