كاظم الساهر.. القيصر يغنى من جديد للأمل والحب والوطن فى ليالى مهرجان العلمين
«حينما غنّى كاظم أشعارى ضمن لى كرسيًا فى كل العصور»، هذا ما قاله الشاعر الفحل وعبقرى الرسم بالكلمات نزار قبانى، فهذا العملاق بكل منجزه مع عمالقة الغناء طوال تاريخه، لم يجد سوى كاظم الساهر الذى سيضمن لكلماته ولاسمه الخلود.
نعم هذا هو كاظم بلا إسراف أو مبالغة، فهو أكبر من كونه مجرد مطرب لامع سيأتى ليغنى فى مهرجان العلمين فى موسمه الثانى، فأنا وأنت وجميعنا نعرف، أن الذى سيأتى ويقف ويحضر أمامنا لنشاهده بأعيننا، حياة أجيال كاملة، عاشت نجاحات وخيبات، وانتصارات وانكسارات، وأفراحًا وأحزانًا بكل جوارحها.
والحقيقة، كل من يدرك قيمة كاظم الفنية، يعرف السبب الحقيقى لانتشاء الجماهير من سماع إعلان وجوده فى العلمين، فانقطاعه الطويل عن تنظيم الحفلات فى مصر لسنوات، جعل الإعلان بمثابة حلم يتحقق لمحبيه. واسألوا كل من حضر حفلته فى العاصمة الإدارية منذ أسابيع، لم يجدوا مكانًا واحدًا رغم ثمن التذكرة الباهظ، فكاظم حالة فنية تحتاج إلى ألف مجلد لتتحدث عنها، فهذا الرجل عاش معنا لحظات حاسمة من تاريخنا الشخصى وتاريخ الأمة بأكملها؛ غنّى للحب وللوطن وللأمل بكل فن وإحساس.. والأهم، أنه فنان احتفظ بعرش نجوميته، لا لشىء، إلا لأنه متسق مع مبادئه فلم تُخدش سيرته بأى هفوة، رغم كل زلات الشهرة ومطاردة المعجبات.
أول درس علمه الالتزام فى مسيرته المهنية
لا يعرف كثيرون أن كاظم الساهر فنان له عمق وتاريخ كبير، لا يمكن أن تفهم ما يقدمه إلا بالعودة إلى حياته الشخصية، فهو من عائلة بسيطة جدًا ووالده كان جنديًا فى الجيش الملكى وأمه ربة منزل، وكان ترتيبه السابع بين أشقائه، ولد فى الموصل بالعراق، ولم يكن أحد من أسرته يفكر فى الفن، رغم صوت والده الجميل.
وكانت أولى خطواته الفنية بتجويد القرآن، ولم يوجهه أحد إلى الفن، لأن نظرة العائلة للفن سيئة، ومع ذلك تغلب على هذه الظروف، وحب الموسيقى طغى على كل حواسه، وتحول لرغبة ملحة تطارده وتأمره بأن يتعلمها.
وسار كاظم وراء شغفه الحقيقى، وطلب من مدرس الموسيقى فى المدرسة أن يعلمه العزف على الجيتار وكان يذهب له يوميًا فى بيته سيرًا على الأقدام لمدة نحو ساعة ونصف الساعة، حتى يتلقى الدرس ويعود بعدها نفس المسافة وبعد أسابيع أصبح يجيد العزف على الجيتار وبعد عدة محاولات وبالمصادفة جذبته كلمات قصيدة لشاعر هاوٍ عنوانها: «أين أنت يا حياتى»، وحاول تلحينها، وخرج أول لحن له وعمره أحد عشر عامًا، ثم حاول مرة وأخرى، حتى أجاد التلحين والكتابة وأكمل دراسته الموسيقية وحصل على دبلوم المعلمين.
ويحكى كاظم قصة مؤثرة فى بداياته هى السبب فى انضباطه والتزامه الفنى حتى الآن، هذه القصة يحكيها على لسانه: «أهلى فى بداياتى الفنية حاولوا إرجاعى مرارًا وتكرارًا ولكن بعدما وجدونى مصرًا على الاتجاه للفن أراد أخى الأكبر أن يعطينى درسًا ما زال أمام عينى حتى هذه اللحظة وربما كان السبب فى التزامى الشديد، فطلب منى أن أذهب معه لمكان معروف يجمع السكارى، والمعربدين وهناك أشار لى أخى إلى شخص يترنج من شدة سكره ويهلوس بكلمات غير واعية وكل من حوله يضحكون عليه ويسخرون منه وطلب منى أن أدقق النظر إليه جيدًا وهنا اكتشفت أنه فنان كبير جدًا كنت أحبه بشدة، وبعدها حدد لى موعدًا مع فنان كبير أيضًا كان مثالًا للالتزام والاحترام وذهبنا له فى بيته وجلس يشرح لى كيف يكون الفنان مؤمنًا برسالته ويكون قدوة لجمهوره حتى يحترموه ويقدروه وبالفعل استوعبت الدرس جيدًا حتى الآن».
يعيش حياته كفنان حقيقى لا يتاجر بإبداعاته
فى رأيى أن ظاهرة كاظم الساهر التى لا تزال تشغل فضاء العالم العربى، سببها أن كاظم يعيش حياته الشخصية كفنان، فهو لا يخرج من بيته إلا قليلًا، يعيش حياته كعصفور ينتقل من شجرة إلى شجرة، وقصيدة إلى قصيدة ويحول الكلمات إلى جمل موسيقية ليخلدها بصوته الشجى الذى تشعر وأنت تستمع إليه أنه صوت طفل متعب مزقته الهموم والآلام.
انظر ماذا يقول كاظم عن نفسه فى حوار قديم: «أدخل غرفتى أحيانًا كثيرة وأبكى، أغسل أحزانى بدموعى، فأشعر بالراحة، قد يظن البعض أن الدموع ضعف، غير صحيح، إنها تنفيس عن حالة حزن وأصعب شىء، أن نحزن، ونترفع عن البكاء، ثم أخرج من غرفتى أجلس بين مفردات مملكتى، أبنائى وأصدقائى، أحتضن عمر ووسام، أطلب من وسام أن يغنى، ومن عمر الإيقاع، أسعد بهما، ثم أخرج إلى الشرفة ودون أن أدرى تخرج منى جملة موسيقية إذا أعجبتنى، وأطير إلى عنان السماء حيث مملكة الراحة، وأعود إلى غرفتى أجلس مع نفسى، أشعر بحنين إلى أمى الحبيبة، إنها أقرب الناس لى، ثم أقول بصوت هامس: محتاجلك يا أمى، ثم أمد يدى لألتقط كتابًا أحبه، أقرأ قصيدة جميلة، فأحس بأن الحياة حلوة، والطريق الذى رسمته لحياتى واضح، إنه طريق المحبة والعشق، أطوى صفحات الكتاب، وأحلق فى حيطان غرفتى، ثم أحن إلى أصدقائى ثم إلى جمهورى، فتدب الحياة فى أوصالى عندما يستقبلنى الجمهور، إنه الحب، وحب الناس لى يحمينى».
هذا باختصار تلخيص لحياة كاظم الساهر اليومية، فهو يعيش حياته بروح الفنان المرهف، الصادق، لا يدعى شيئًا ليس فيه، وإن كان يدعى، فلم يكن له أن يعيش كل هذه السنوات فى قلب ووجدان جماهيره التى لا تزال تتعامل معه حتى الآن بروح الأطفال التى ترى النجوم فى السماء لأول مرة.. انبهار ودهشة ولهفة تتجدد كل يوم.
الغناء للوطن العربى همه الأكبر.. وفلسطين فى قلبه
فى حفله بالعلمين المنتظر، سيغنى كاظم الساهر لفلسطين المنكوبة، هذا الحفل سيكون تاريخيًا، لأنه سيكون أول حفل لكاظم من بعد الحرب الأخيرة سيغنى لفلسطين، والجدير بالذكر وربما لا يشير إليه كثيرون أن مهرجان العلمين بأكمله خصص ٦٠٪ من إيراداته لدعم الدولة الفلسطينية وأشقائنا.
وعندما يغنى كاظم الساهر من أرض مصر لفلسطين، بفنه وإحساسه الكبيرين، أظن أننا أمام حدث سيكون مؤثرًا وعابرًا لكل الحدود، فكاظم يعرف جيدًا بعراقيته، ماذا تعنى الأوطان المدمرة، فهو عاش أصعب المحن مع وطنه، وعندما يغنى لأوطاننا العربية، فهو يجرح القلوب ويدميها، وفى الوقت نفسه يجعلها تنتشى بالأمل والتغيير.
جمهوره مسئولية فى عنقه
المتأمل فى خطوات كاظم الساهر منذ ظهوره الأول فى الثمانينيات، سيدرك شيئًا مهمًا، أنه فنان يتعامل مع إنتاجه الفنى وجمهوره وكأنها مسئولية فى عنقه، تدفعه دائمًا إلى التجويد والبحث عن الجديد، يقول كاظم عن نفسه بحسم: «أنا أريد أن أكون تراثًا بعد وفاتى، أنا مهموم بمشروعى الفنى».
وليس غريبًا أن هذا الفنان الحالم يكون نجمه المفضل والمؤثر الأكبر فى مشواره هو موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، فهو لم يجد من كل نجوم العرب سوى محمد عبدالوهاب، فهو الفنان الوحيد بسيرته وإنتاجه الفنى الذى يهز كيان كاظم الساهر ويرى أنه يسير على دربه، ولن يموت قبل أن يبنى مسرحه الخاص، ويغنى حتى سن التسعين مثل عبدالوهاب، وهو التحدى الأكبر له للحفاظ على صحته ولياقته.
وما قاله كاظم قبل ثلاثين عامًا، يبدو أنه يتحقق، وما زال وهجه مشعًا أقوى مما ظن وتوقع لنفسه.