رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإيمان الناطق بالحكمة

قدم الصحابى الجليل «بلال بن رباح» حالة إنسانية فريدة لمناضل عاش الحياة بالاستقامة، التى رسم خطتها لقمان الحكيم عليه السلام. وإذا كان «لقمان» نوبيًا من سودان مصر، كما يذهب «ابن كثير»، فقد كان بلال عبدًا حبشيًا يعود بجذوره إلى أبرهة الأشرم، الذى قاد حملة استهدف بها هدم البيت الحرام، وهى الحملة التى انتهت سريعًا، وأصبحت ذكرى فى عقل ووجدان من عاصروها أو سمعوا عنها، لكن ثمة رجلًا بقى ترجمة لهذه الذكرى على مدار عقود طويلة، وشاهدًا على تجربة إنسانية استثنائية فى رقيها، إنه المؤذن «بلال بن رباح».

بلال ابن أسيرة حبشية اسمها «حمامة»- يرجح طه حسين فى كتابه «الوعد الحق» أنها كانت ابنة أخت أبرهة- سقطت فى يد رجل من خثعم، بعد أن خرجت القبيلة على جيش أبرهة المنسحب من مكة بعد هجوم الطير الأبابيل عليه، وتمكن من أسرها، وساقها هدية إلى خلف الجمحى، أحد أعيان مكة، منذ اللحظة الأولى التى أهديت فيها «حمامة» لخلف انتوى فى نفسه أن يستذلها، وأن يجعل منها مادة لانتقامه من خالها «أبرهة»، صاحب الفيل، الذى أراد جنوده وأهله من الأحباش هدم البيت، فساقها إلى غلام يعمل لديه من مولدى الأحباش، وهو «رباح» وكانت له جذور زنجية، وطلب منه أن يذيقها من صنوف الهوان ما يبعثر كرامتها وكرامة العرق الذى أنبتها، لكن كانت للقدر إرادة أخرى، فحين رآها «رباح» وقعت فى قلبه، فاقترح على سيده طريقة فريدة لإذلالها كأميرة حبشية عظيمة القيمة والمقام بتزويجها منه، وهو العبد الزنجى الذى لم يكن يحلم بأن يكون خادمًا لها فى قصرها بالحبشة، وكان أن تزوجها.

حملت «حمامة» من «رباح»، ورغم حبه لها وفرحه بالوافد الجديد، إلا أنه اهتم واغتم؛ لأنه لم يُرد لابنه القادم أن يصير عبدًا من عبيد خلف أو ولده أمية، لكن كلمة الله تمت، وطرق بلال بن رباح أبواب الحياة، لتموت بعد ولادته أمه، ثم يلحق بها أبوه رباح، وينتهى به الحال إلى عبد من عبيد أمية بن خلف. كان صدر بلال يضيق بإحساسه بالعبودية، وربما داهمته لحظات شعر فيها بالأسى والحزن على الحال التى هو عليها، واسترجع ما كان يسمعه من أمه عن أنها كانت أميرة وابنة أخت «أبرهة» الخطير، الذى يذكره العرب جيدًا، ولم يكن يعلم فى هذه اللحظات أن القدر يخبئ له ما هو خير وأبقى.

اندفع «بلال» إلى الإيمان بمحمد «صلى الله عليه وسلم» لما سمع برسالته التى تساوى بين البشر جميعًا، وتحمّل من صنوف القهر والتعذيب ما لا يتحمله بشر، على يد سيده أمية، وهو ثابت الإيمان مطمئن القلب، حتى اشتراه أبوبكر وأعتقه، ليبدأ رحلة البحث عن ذاته فى الإسلام. خاض بلال المؤمن بدينه وبحرية الإنسان والحق فى المساواة ما بين البشر كل المواقف النضالية مع النبى «صلى الله عليه وسلم»، واختاره النبى ليكون مؤذنًا للمسلمين، وظل بلال إلى جواره حتى وفاته «صلى الله عليه وسلم». أكثر ما كان يميز هذا الصحابى الجليل هو الإخلاص العميق لما يؤمن به، وجوهر الحكمة لديه تمثل فى صدق الإيمان بالله، وبرسالة محمد «صلى الله عليه وسلم». وصفه «ابن كثير» قائلًا: كان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يُخرجه إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد «صلى الله عليه وسلم» وتعبد اللات والعزى. وظل الرجل صامدًا على إيمانه، إيمانه الذى شكل بالنسبة له بوابة الحرية، حين اشتراه أبوبكر الصديق وأعتقه، يقول عمر بن الخطاب: أبوبكر سيدنا وأعتق سيدنا بلالًا. عاش «ابن رباح» حياته مخلصًا للنبى «صلى الله عليه وسلم»، وآمن برسالته التى لا تعرف التمييز أو العنصرية، ولما شرع الأذان بالمدينة كان هو الذى يؤذن بين يدى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» وابن أم مكتوم، يتناوبان، تارة هذا، وتارة هذا، وكان بلال ندى الصوت حسنه، فصيحًا، وما يروى من أن «سين» بلال كانت «شينًا»- كما يذهب «ابن كثير»- ليس له أصل، وقد أذن يوم الفتح على ظهر الكعبة. 

بعد وفاة النبى اعتزل بلال الناس واستأذن الخليفة أبا بكر فى الخروج إلى الشام ورابط فيها، وامتنع تمامًا عن الأذان، إذ كان يرى نفسه مؤذن رسول الله. المرة الأخيرة التى أذن فيها بلال كانت عند زيارة عمر بن الخطاب للشام، حين ترجاه الصحابة فى حث بلال على رفع الأذان، فاستجاب الصحابى الجليل، وانطلق صوته الرخيم العذب مكبرًا، هنالك انهمرت دموع الجميع بالحنين إلى ذكرى وعهد النبى، حين كان ينادى بلالًا ويقول له: «أرحنا بها يا بلال»، وهناك خلاف حول السن التى توفى فيها «بلال»، إذ يذهب البعض إلى أنه مات فى الستين من عمره، ويرى آخرون أنه مات فى السبعين. وينقل «ابن كثير» عن «ابن بكير» أن بلالًا توفى بدمشق فى طاعون عمواس سنة ١٨ هجرية، وقال محمد بن إسحق وغير واحد إنه توفى سنة ٢٠ وله بضع وستون سنة. وقد عاش الصحابى الجليل يعانى من الأوبئة ويخشاها، بعد أن ضربه وباء الحمى هو وعدد من الصحابة بعد الهجرة إلى المدينة، وكان بلال يدعو على كبار أهل مكة الذين أخرجوهم إلى أرض الوباء. وقد شاء الله تعالى أن يخرج المناضل الحكيم من المدينة إلى الشام بعد أن حببها الله إليه، بسبب دعوة النبى بأن يحبب الله لهم «يثرب» كحبهم مكة، وأن يبارك عيشهم فيها، وشاء الله أن تنتهى سيرة المؤمن الصادق الذى عاش مخلصًا لله ورسوله بعيدًا عنها.

هكذا سارت رحلة الأقدار ببلال، فشاءت أن يكون أصله حبشيًا من عائلة «أبرهة».. وأن يعيش طفولته وصباه فى مكة.. وأن يتعلق قلبه بالمدينة بعد أن كان كارهًا لها.. وأن تختتم رحلته فى الشام حيث وافته المنية، رضى الله عنه وأرضاه.