رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحداث صغيرة ودروس كبيرة

يحدث أحيانًا أن تصادف رجلًا غير متعلم، لم يدخل حتى المدرسة، ومع ذلك فإنه يدهشك بحكمته وصواب نظرته إلى الحياة والبشر، ولعل ذلك يعود إلى أن الثقافة كما لاحظ مكسيم جوركى ليست الكتب وحدها، لكنها أيضًا التجارب التى نعيشها ونستخلص منها قوانين الحياة ودروسها.

فى ذلك السياق، مرت بى أحداث صغيرة علمتنى ربما ما لم تعلمنى إياه الكتب، بعض تلك الأحداث وقع فى الطفولة، هناك حيث لا ينسى المرء شيئًا تقريبًا، وكان أولها الدرس الذى تعلمته من الرجل الصعيدى الذى لا أذكر اسمه، لكنى أكاد أرى ملامح وجهه العنيدة الآن، وخطواته النشطة وهو يتجه للدفاع عن كرامته بما فى وسعه. كان الصعيدى يسكن كوخًا بناه بيديه على ترعة فيصل جوار بيتنا، وكان يعيش على صناعة الفخار من قُلل وما شابه، وعلى امتداد شاطئ الترعة بعيدًا عن الصعيدى بنحو مائتى متر ارتفعت فيلا الألفى الفاخرة التى اشتهرت فى الحى بأنها فيلا الضباط، نظرًا لأن أبناء صاحب الفيلا كانوا جميعًا من الضباط. ولا أذكر بل ولا أدرى ما الذى جرى، لكن المؤكد أن أحد أولئك الضباط الشبان أهان الرجل الصعيدى بكلمة أو إشارة. 

كانت ملامح الصعيدى المقهور المحفورة بالعناد تلتهب من الغضب والعجز، لأنه يعلم أنه لا يسعه أن يرد بشكل مباشر على ابن الأسرة الكبيرة، لكننا فوجئنا بعد ذلك بالرد الذى توصل إليه الصعيدى، فكان يصحو صباح كل يوم، ويمد خطاه نحو الفيلا ويجلس أمام بوابتها ويتبرز هناك، ويترك مخلفاته تلك ويرجع إلى الكوخ. وتحول الأمر إلى مشكلة فى الحى، وكان الصعيدى يرد: الشارع ملك الحكومة، ويعود صباح اليوم التالى إلى فعلته. وفى نهاية الأمر قام بعض الطيبين بعقد جلسة صلح فكف الصعيدى عن الانتقام لكرامته. علمتنى هذه الحادثة الصغيرة للأبد أن بوسع الإنسان دائمًا أن يرد الإهانة، أيًا كان وضعه، أو قدراته، وأن الكرامة ليست مرتبطة بما تستطيع لكن بما تريد.

فى موسكو تلقيت درسين من حادثتين صغيرتين، الأولى كانت وأنا واقف فى المترو، وكانت تجلس أمامى سيدة عجوز وعلى حجرها حقيبة ثقيلة، ومع توقف المترو فى إحدى المحطات رأيتها تهم بالوقوف، فمددت لها يدى لأساعدها، فقالت لى ما أذهلنى، قالته برقة ومحبة: لا تساعد الإنسان ما دام يستطيع أن يقوم بالأمر بنفسه، لأنك بذلك تجعله يعتاد الكسل، فيفقد قدرته على الحياة.

الحادثة الثانية الصغيرة التى شكلت درسًا كبيرًا كانت فى مبنى الطلاب الذى أقمنا فيه فترة الدراسة فى موسكو، وكانت تجلس فى مدخل المبنى عادة امرأة عجوز تراجع بطاقات الداخلين إلى المسكن، وكنا عادة نقدم لأولئك النساء هدايا رمزية فى عيد المرأة، مثل علبة شيكولاتة أو باقة ورد، وبطبيعة الحال لم نكن ننتظر منهن مقابل ذلك أى شىء. واعتدت أن أقدم الهدايا دون انتظار لمقابل، حتى جاءت امرأة جديدة ذات يوم، ما زلت أذكر اسمها، نحيفة، ودقيقة كالساعة، فقدمت لها هدية فى عيد المرأة، حتى حل عيد الرجل، وكانوا يعتبرون أن يوم الجيش السوفيتى عيدًا للرجل عامة، ففوجئت بها تحمل إلى باقة ورد، لم تشترها، لكنها قطفتها من زهور الحديقة العامة بالجامعة، فتوقفت مذهولًا دقائق، لكى أتلقى درسًا جديدًا، أن الشكر والعرفان لا يتوقف على مقدرتك، وأن بوسع الإنسان إذا شاء أن يظهر تقديره أن يجد الوسيلة مهما كان وضعه الاجتماعى أو ظروفه المادية، وأن الأمر لا يتوقف على ما لديك، بل على ما فى داخلك من مشاعر. هى أحداث صغيرة ظلت دروسها الكبيرة عالقة بنفسى إلى الآن، بالقدر الذى علقت بنفسى دروس الكتب العظيمة.