علي قطب: النص ليس ضريحًا للأديب.. ويكشف أسرار جديدة حول نجيب محفوظ (حوار)
كان لصدور كتابه الرابع وعنوانه الأخير "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ"، والصادر من دار نشر “بيت الحكمة للصناعات الثقافية” يبرز اسم ومسارات الكاتب علي قطب، الكثير من المسكوت عنه، والذي لم تتناوله الكتابات النقدية من قبل فيما يخص علاقة نجيب محفوظ بالموسيقى والغناء والطرب.
في كافة كتاباته، على قطب المثير والفريد في طرحه_ سواءًا قصصيًا أو روائيًا أو حتى نقدي _ بمحاولات فتح نوافذ جديدة، عن علاقته بأجيال الكتابة وفنون القصة، قطب روائي مصري، من أعماله "كل ما أعرف" و"أنثى موازية" و"ملخص ماسبق"، بالإضافة لعنوانه الأخير_ " الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ" مع الكثير من الجوائز التي حصدها كا "ساويرس"، وجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وجائزة من وزارة الشباب والرياضة.
سألته بداية:
ما الدوافع لاختيار هذا العالم عند نجيب محفوظ_ الغناء والطرب؟
لكي تختار موضوعًا للعمل لا بد أن يكون واضحًا في أعمال كاتبها، وهذا ظاهر بشكل كبير لدى نجيب محفوظ، فطالما اهتم به فلا بد من دراسته؛ لأن نجيب عاش مساحة كبيرة من عمره في القرن العشرين، وهو قرن ظهور الشخصية المصرية في الأدب، الفكر، السينما، الموسيقى، وبالتالي في الأغاني والطرب.
كما أن الأغاني والطرب فى أدب نجيب محفوظ أكثر الأشياء شعبية للجمهور، بالتالي دراسة الغناء عند نجيب محفوظ، هي دراسة للروح الشعبية لدى نجيب، ومدى اقترابه ومعايشته للشارع والحارة، لأنهما أصوات غناء في المقام الأول، والغنائية هي شعر أيضًا، والشعر هو أساس الفنون، ولدى نجيب المكون الأساسي الذي يمكنه من إقامة أي فن، والطرب مرايا انعكست عليها أفكار محفوظ ورؤيته للعالم وقضايا عصره بصدد التقليد والتجديد والعلاقة بين الأجيال والروح المصرية، أضف إلى ذلك التوظيف الدرامي، فهو يجعل الغناء رابط بين الشخصيات، استشراف، معبر عن الموقف، والغناء والطرب بهما حيوية تخص البيئة بشكل أساسي، يمكن من خلال الغناء معرفة الهوية المصرية، بداية من ألعاب الأطفال ومعرفة الأغاني المرتبطة بالفرح والحزن وصولا للشعر الشرقي والشعر المصري القديم، كل هذا يجعل الغناء والطرب موضوعًا ثريًا عند محفوظ.
فكرة الغناء تشغل عندي مساحة كبيرة في حياتي وفكري وعلاقتي بالكتابة.
- عن الحنين وتفتيت اللغة الموسيقية في عالم نجيب محفوظ، كيف واتتك القدرة على الإلمام بتلك القدرات الحسية فيما يخص علاقة نجيب بالموسيقى؟
ذلك يأتي عبر معايشة النص، وتخيل الكاتب، والربط بين الكاتب والشارع، والربط أيضا بين الشخصية والأغنية، والموقف والموسيقى، وقد أفادتني أيضًا دراما نجيب محفوظ السينمائية، كان لها القدرة على إظهار علاقة نجيب بالموسيقى، وحتى في الأعمال التي تحولت إلى مسلسلات درامية كحديث الصباح والمساء، فموسيقى عمار الشريعي تحببك في المسلسل.
كما ظهر المغني في العمل الدرامي بوضوح. ويضيف الكاتب، لقد اعتبرت الأغنية عنصرًا دراميًا أصيلًا، وليس حلية توضع في النص، فلم أفصل بين السرد والأغنية، وأوضح مثل لذلك حكايات حارتنا، فالطفولة مرتبطة بالأغاني، الغناء والحكاية مرتبطان ببعضهما البعض، هناك أغنية تبلور الحكاية، وهناك حكاية تشرح الأغنية، هذه هي العلاقة بين الشعر والسرد، سردية الشعر وشعرية السرد، لقد استوعب نجيب ذلك جيدًا، فنجيب ابن عصر الشعر الغنائي والمسرح الشعري المتمثلان في حافظ وشوقي وسيد درويش وزكريا أحمد وأم كلثوم. لذلك جزء كبير من تكوين محفوظ شعري يحس بالإيقاع والصورة، والسرد عنده إيقاع وصورة. إن الغنائية صوت منفرد، والدرامية تعدد أصوات، ونجيب لديه مقدرة هائلة على تضفير الاثنين ببعضهما البعض. أنا أملك أدوات التحليل، ولكنني لست مؤرخ أغاني لكني قارئ جيد لنجيب محفوظ أقوم بتحليل الأغنية داخل السرد.
- هل هناك تفكير لطرق هذا العالم من جديد والاشتباك مع نجيب محفوظ؟
نجيب محفوظ أديب مانح، لديه دائما مادة للعمل، سواء على مستوى المراحل الأدبية المختلفة، وقدرته على استيعاب التيارات الأدبية الغربية العالمية من أول الرواية التاريخية إلى العبث واللامعقول، والرموز التي يتفنن في استخدامها والمكانية المتعددة لديه، وتشخيص العالم، وعلاقة كاتبته بالأحداث الكبرى في عصره، ثورة 19، الحرب العالمية الثانية، ثورة يوليو، تجربة الستينيات، النكسة، الاستنزاف، الانفتاح، بالإضافة لذلك، فصورة نجيب ظاهرة في أعماله، يمكن استخراج هويته وصورته من داخل نصوصه كأديب ومفكر، عقلاني وحائر، محب ومحبط.
أما أبطال نجيب محفوظ في الدراما فيمكن أيضًا العمل عليهم ومقارنتهم بالعمل الأصلي، كذلك المخرجين الذين تناولوا أعماله، كل هذه محاور يمكن العمل عليها.
- كل ما أعرف، أنثى موازية، ملخص ما سبق، حدثنا في إطار مجموعتك القصصية ملخص ما سبق عن الأسماء التي أثرت في مسارك الإبداعي وخصوصا يحيى حقي ويوسف إدريس.
تأثري بهم انعكس في المجموعة بشكل واضح، فلا يوجد أديب يبدأ من الصفر، كلنا حلقة في متوالية كبيرة، ولمعرفة موضعنا الحقيقي في تاريخ الكتابة، كان لا بد من العودة لجيل الرواد والتأصيل، وحتى جيل الستينيات بمحاولاته التجريبية الكثيرة، فوجدت عوالم ليحيى حقي في القصة والرواية القصيرة فيها جرأة واقتحام لمناطق شائكة، وتعبير عن قسوة الحياة ومواجهتها بالسرد، ووجود روح السخرية في المأساة وعمل مثل البوسطجي لا أَملُّ من قراءته، أما يوسف إدريس فلكل عمل لديه به فكرة عميقة، وحتى لو تحول عمله إلى عمل كوميدي التصنيف كمسرحية المهزلة نظل نرى الأفكار الكبيرة التي حملها النص، كصراع الإنسان للوصول إلى الحقيقية، وعلاقة الإنسان بالآخر، وتحويل المفاهيم التجريدية لمفاهيم اجتماعية. "ملخص ما سبق" مصالحة تاريخية مع النصوص الكبيرة التي يمتلئ بها تاريخ الأدب العربي المعاصر.
- في مجموعتك القصصية "ملخص ما سبق" هناك حالة من التماهي مع تلك النصوص للأسماء الوارد ذكرها في الإهداء، حفوظ وحقي وإدريس لكن هناك فرادة في العالم المطروح والأحداث في قصصك، فهل هناك ثمة رابط ما بين لغتك ولغة هؤلاء الكتاب؟
طبعا، هناك قدر كبير من المحاكاة الأسلوبية، لكي أكمل القصة بالأسلوب نفسه مع اختلاف في الرؤية بوضع الشخصية في سياقات جديدة مع الاحتفاظ بالأداء الأسلوبي للأديب.
- القارئ لأعمالك الإبداعية يكتشف الكثير من الرؤى المعاصرة الحداثية وما بعد حداثية فيما يخص القضايا والمعالجات، فهل هناك تعمد لذلك؟
شيء طبيعي، فالأديب يعيش زمنه العالمي بمعنى الكلمة مع الاحتفاظ بمحليته وهويته، والأدباء من جيل التسعينيات لهم رحلة طويلة في أدب الحداثة، ولم تكن موضة وانتهت بحكم انتشار الأدب الجماهيري من جديد، فالحداثة لا تضيع، لأن لو حدث ذلك ستكون خسارة للزمن، فمع الاقتراب من الشعبية والجماهيرية لا يمكن تضييع الرؤية الحداثية التعبيرية يمكن استثمارها، فمتلقي العصر الحالي مثقف، هناك ورش أدبية وأندية قراءة، وحوارات طويلة بين القارئ والكاتب، كل هذا يكرس لقيمة الحداثة الأدبية والاجتماعية، فتطور المجتمع مرتبط بحداثة الفكر.
- ماذا يتبقى من النصوص الأدبية للكتاب الذين قمت بمحاكاة أسلوبهم بعد مرور أكثر من نصف قرن؟
الأدب لا يسقط بالتقادم، إن أهمية الأدب تزداد مع الزمن، يُستخرج من نظريات أدبية، وتتولد منه أعمال أدبية جديدة، وجود مارسيل بروست على الساحة الآن أكثر من خمسين عاما مضت، كذلك الأمر لتيار الوعي، فمرحلة تكوين القارئ تكون التدرب على قراءة الكلاسيكيات، فصناعة المثقف تبدأ من قراءة العلامات الأدبية الكبيرة. والأمر نفسه يمكن قياسه على أدبائنا الكبار الذين تجدد أعمالهم بصناعتها دراميا من جديد مثل: "لا تطفئ الشمس" و"أنف وثلاثة عيون".
- في عصر الأزمات والحروب عبر الهوية، ما هي الجدوى من الكتابة؟
الكتابة تشرح لنا الهوية الكونية للإنسان، وتقيم حوارًا بين الهويات المختلفة، وعبر اللغة تعمق الهوية المحلية.
- عن مفاهيم النشوة والسلوى والخلاص، هل ينتهي مفهوم الخلاص بعد انتهاء الكاتب من نصه، أم أن هناك مفهومًا آخر للخلاص ينتظره المبدع؟
ممكن أثناء الكتاب تنفتح للمبدع قضايا جديدة يتورط فيها ويشتبك معها، فعند قراءة محفوظ نجد بعض النماذج متكررة في أكثر من عمل، لأن هذه القضايا تلح عليه وتظهر بشكل جديد، نجيب محفوظ في اللص والكلاب مثلا يسخر من فكرة الخلاص التي يطرحها شخص واحد أو فكرة واحدة أو اتجاه واحد.
إن النص ليس ضريحا للأديب بل هي مغامرة تترك مساحة لمغامرة أكبر، وبالتالي خلاص الإنسانية لن يتحقق طالما الإنسانية باقية.
- عن علاقتك بالجوائز بعدما نلت جائزة ساويرس، وجائزة وزارة الشباب والرياضة، وجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب.
الجائزة حافز كبير لكي يستمر المبدع في كتابته وتضع عبئا كبيرًا على الكاتب فيما سيقدم بعد ذلك، لكن أيضًا عدم حصول الكاتب عليها لا يعني أن نصه ردئ، فالمبدع الحقيقي لا يُصنع بالجوائز،
- هل هناك عتبات ما تتكأ عليها لجان التحكيم في مسألة منح الجوائز للكتاب أم أنها مرتبطة بلجان التحكيم؟
من مصلحة أي جائزة أن تُقدم لمن يستحق، فالنص السيئ الحاصل على جائزة يسئ إليها وإلى من حكم فيها في المقام الأول. لذا من المهم جدًا أن تقدم الجائزة حيثيات حقيقية للعمل الفائز شارحة أسباب فوزه للمتلقي العادي، أما المتخصص فهو قادر على استخراج الجماليات الفنية التي تسببت في فوز العمل بالجائزة.
- ليتك تحدثنا عن ماهية وأشكال ورؤى النقد المصري والعربي فيما يخص الاشتباك مع كتابات علي قطب؟
أعمالي نالت اهتمام نقاد كبار أمثال د.محمد عبد المطلب ود.محمد علي سلامة –رحمه الله- ود.يسري عبد الله، ود.محمد سليم شوشة، وهذه القراءات مفيدة جدا لي لأنها تطلعني على عملي عبر مسافة كأنني شخص آخر، لكن فقط ينقصنا كجيل نقاد من داخلنا، يجب أن نتناول أعمال بعضنا البعض بشكل واضح ومنهجي.
كما أن مساحة النقد ليست كبيرة وإن بدت غير ذلك، مساحة القول الحقيقية قليلة عبر نقد تفسيري لا يقدم أحكاما نهائيا، فالنقد وجهة نظر في العمل، وهناك أنواع من النقد لكن النقد القائم على فلسفة ومعايير معرفية هو الباقي.
فالنقد لن يتطور إلا بتطبيق يتجاوز وضعيته.
- هل هناك ثمة أسماء عالمية أو عربية كان لها السطوة في اختيارك لمجال الكتابة أو الإبداع أو الفن؟
طبعا، بالنسبة للأدب العالمي لا بد من الرجوع للكلاسيكات العالمية والأعمال اللاتينية الساحرة والأدب الأسيوي يشغل حيزا كبيرا أيضًا، أما على المستوى العربي فقد أثر في كل من قرأت لهم بشكل ما بداية من قراءات الطفولة لمحمود سالم وحجازي وخالد الصفتي ونبيل فاروق وصولا لمحفوظ وإدريس وحقي.