«قناع بلون السماء».. رواية تنتصر لسردية مغايرة عن فلسطين وتواجه الرؤية اليهودية
تفتح الجوائز، رغم كل ما يثار حولها من لغط، بابًا واسعًا للاطلاع على أعمال أدبية قيّمة وأحيانًا بعيدة عن مراكز الضوء. وهذا ما ينطبق بوضوح على الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، التى صارت نتائجها كل عام مؤشرًا على طبيعة الحراك الأدبى بالعالم العربى وتوجهاته، ودالة عبر تتويجها لأعمال فائزة مختلفة كل عام على الإبداع العربى الذى لا ينضب.
فى هذا العام، ومنذ إعلان لجنة الجائزة للروايات المضمنة فى القائمة القصيرة، استقرت التكهنات على أن الرواية الفائزة ستكون لكاتب فلسطينى من الاثنين المرشحين، وهو التكهن الذى ثبتت صحته بإعلان فوز الكاتب والأسير الفلسطينى باسم خندقجى بالجائزة فى دورة هذا العام عن روايته «قناع بلون السماء»، الصادرة عن دار الآداب. ليثار السؤال الذى لم يخفت: هل انتصرت لجنة تحكيم الجائزة للسياسة انطلاقًا من تصاعد وتيرة الأوضاع الإنسانية المتدهورة التى يحياها الفلسطينيون؟ أم أنها انتصرت بالأساس للأدب القادر على التعبير النابض عن الواقع وآلامه بأساليب فنية مبتكرة ومشوقة؟
الافتراض الأول هو الأقرب للتصديق والأسرع تداولًا بطبيعة الحال، فليس ثمة ما هو أسهل من تبادل الاتهامات والأحكام الأولى، لكن القراءة المنصفة للرواية ربما تثبت أن اختيارها لتفوز بواحدة من أهم الجوائز الأدبية العربية بالوقت الراهن لم يكن محض موقف أرادت لجنة تحكيم الجائزة أن ترفع صوتها به فى وجه ظلم تاريخى أسهم فى توغل مآسى الراهن، وإن ظل ذلك موقفًا مشروعًا، وإنما الاختيار أيضًا جاء لأن الرواية تجيد الحديث عن مأساة الراهن وسرديات الماضى المهزومة والمنتصرة وهواجس الفلسطينى المهزوم وآماله، كل ذلك فى بناء شديد الإحكام ينأى عن النبرة الخطابية، ويتقن الانتقال بسلاسة بين الماضى والحاضر وما يؤطرهما من صراعات فكرية حول الهوية والشتات والاحتلال والأكاذيب الصهيونية.
منذ صفحات الرواية الأولى وحتى نهايتها يغزل المؤلف خيوط روايته على نول «الميتافيكشن»، ذلك الذى يعنى أن الكتابة التخييلية تعى ذاتها بوصفها نتاجًا صناعيًا، فنجد الشخصية الرئيسية «نور»، الباحث المختص فى التاريخ والآثار، يكتب عن محاولاته لكتابة رواية عن مريم المجدلية، ويوضح تفاصيل الرواية المزمع كتابتها وحبكتها وشخوصها الرئيسية ومكامن الإثارة والتشويق التى سيضفيها عليها.
هذا الميتافيكشن لا يأتى مجانيًا وليس محض حيلة فنية لا يوجد ما يبررها سياقيًا، فحسبما يوضح المنظرون لهذا التوجه ومنهم باتريشيا وُوه، يعبر الميتافيكشن عن وعى الكاتب بالقضايا النظرية المتضمنة فى بناء المتخيلات، فهو تعبير عن الوعى الذاتى والاجتماعى والثقافى وعن الرغبة فى الحفاظ على إحساسنا به. من هنا يسرد «نور» أفكاره حول روايته التى سيكتبها ليضع القارئ فى قلب قضيته الفكرية دون أن يشعره بأنه بصدد إلقاء خطبة عن الحق الفلسطينى المهدور والعدو الصهيونى المحتل.
فالرواية عن «مريم المجدلية» داخل رواية «قناع بلون السماء» تبدو وكأنها سردية مغايرة عن فلسطين، ومحاولة من جهة أخرى لمواجهة السردية اليهودية المهيمنة عن مريم الزانية والتعبير عن رفض انتصار النهج الذكورى على النهج الأنثوى، الذى قاد إلى اختفاء المجدلية بوصفها حضورًا عرفانيًا من المتون الدينية الإنجيلية الرسمية، وبالتالى فالرواية تستحضر السردية الغائبة على أكثر من مستوى.
من جهة أخرى، عمد المؤلف إلى الاستناد إلى حيل فنية أخرى يمكنه من خلالها تضفير الكثير من الأفكار والأحداث بين الماضى والراهن ومن ذلك، الخطابات التى يسجلها لصديقه «مراد» الذى وقع أسيرًا من قبل جيش الاحتلال الصهيونى، والتى يروى فيها خواطره وهواجسه عما يقوم به كما يتخيل ويرد على انتقادات صديقه لأفكاره ومخططاته، وهو ما يجعل هذه الخطابات وسيلة للكشف عن أفكار الشخصية الرئيسية وصراعاتها وهواجسها وموضع كل تلك الأفكار المتصارعة من مسار الأحداث فى الرواية.
تكشف الخطابات أيضًا عن شخصية الصديقين، فـ«مراد» واجه المعتقل بإرادته الفولاذية وهو مشغول بمصائب الراهن مثل قضية بيوت حى الشيخ جراح التى ينوى النظام الاستعمارى الصهيونى إخلاءها وطرد سكانها أو الحفريات المستمرة تحت المسجد الأقصى، وهو لا يكف عن التفكير فى تأسيس مرجعية معرفية تتصدى للمستعمر وأكاذيبه.
أما «نور» فيفكر فى التفاصيل الصغيرة التى تشيد الكولونيالية، التفاصيل المعرفية والتاريخية والثقافية والنفسية، والأكاذيب التى يكشفها الواقع والأساطير التى اخترعت لتبرير الهيمنة الاستعمارية والإبادة الممنهجة للشعب الفلسطينى، ومن هنا فقصة «مريم المجدلية» التى يتتبعها «نور» أثريًا وتاريخيًا تكشف فى تفاصيلها الدقيقة عن عمق التزوير الذى تلحقه السرديات المنتصرة والمهيمنة بالحقائق.
كما تتيح الخطابات التداعى الحر لأفكار «نور»، الذى يتذكر الماضى ممثلًا فى والده بطل الانتفاضة الذى استحال إلى مهزوم صامت، ولمحطات حياته التى جعلته يولد فى كل مرة من رحم صدمة جديدة، كما تمنحه مساحة للحوار مع الكتب، ومنها كتاب «ألغاز الإنجيل» لفراس السواح، و«بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» لفرانز فانون.
من نقاط التحول فى الرواية، تلك اللحظة التى يعثر فيها «نور» مصادفة فى أثناء تسكعه بسوق الخردوات والملابس المستعملة فى يافا على معطف جلدى بلون بنى غامق ليقتنيه، ويعثر به على بطاقة هوية صهيونية زرقاء اللون لرجل يُدعى أور شابيرا، فيقرر «نور» أن يرتدى قناع أور وأن يتسلل به إلى أعماق العالم الكولونيالى؛ «كولونيالية مطعمة بالحداثة والحضارة المحفوفة بالمخاطر وإمكانية القبض عليه متلبسًا بشخصية ليست له»، وعبر الحوار بين الشخصية الفلسطينية والقناع، أى الهوية الإسرائيلية المزورة، تجرى المواجهات بين فكرين؛ أحدهما منتصر وظالم، والآخر هو المهزوم والمظلوم، والذى استحال بفعل العدوان المتتالى إلى مسخ، إذ يقرر «نور» أنه «المسخ الذى ولد من رحم النكبة والأزقة والحيرة والغربة والصمت».
لا يكف «نور» عن مواجهة «أور» الذى يرتدى قناعه بالحقائق التى جرى تزييفها، فالقرى المطمرة، ومنها قرية اللجون التى تلاشى تراثها الأثرى بعد أن جرّف المستوطنون الصهاينة أراضيها، والتى محيت ملامحها وصارت منتجعات سياحية ترفيهية، يستدعيها المؤلف عبر شخصية نور ليسرد حقائقها ويواجه بها. وعلى الرغم من أوقات قليلة يتمكن فيها القناع من مرتديه، لا يكف «نور» عن مواجهة قناعه مسلحًا فقط بما يحمله من مرارة الظلم، فنراه يخاطبه قائلًا: «أريد أن أدرك حقوقك التى اخترعتها أنت فوق هذه الأرض، حقك بالوجود، بالحرية، بالحركة، بالاستيطان، بالاحتلال، بالاعتقال، بالاغتيال، حقك بتشريدى ومصادرتى ومطاردتى وإقصائى وتهميشى».
تمنح الرواية فرصة لصوت نور المهزوم والممسوخ لأن يظهر ويعبر عن ذاته، بل إنها تدعم ذلك بشخصية «سماء»، الفلسطينية القادمة من حيفا، والتى تتشبث بهويتها وترفض الاحتماء بأقنعة أو هويات مزيفة، وتدفع نور للتخلص من الأقنعة والتمسك بهويته الحقيقية.