مريم حسين تُثري الساحة الأدبية بـ "السيرة قبل الأخيرة للبيوت".. رحلة بحث عن الهوية (حوار)
مريم حسين تطل بروايتها الأولى "السيرة قبل الأخيرة للبيوت" لتثري الساحة الأدبية بنكهة جديدة، بعد أن أثبتت مهاراتها السردية من خلال مجموعتيها القصصيتين "غزل السحاب" و"سر السكر" ومساهمتها في المجموعة القصصية المشتركة "حتى فساتيني".
وتقدم لنا مريم في روايتها رحلة ذاتية عميقة تبحث عن الهوية في عالم متغير، حيث تتراجع قيم الإنسانية وتهدد حرية الفرد، وتُجسّد الكاتبة هذه الرحلة بأسلوب سردي فريد يمزج بين السينما والسرد، مغنية المتن الأدبي بلغة بصرية ساحرة.
وتثير الرواية العديد من التساؤلات حول طبيعتها: هل هي سيرة ذاتية للكاتبة؟ أم رواية عن الوطن؟ أم هي مرثية لرحيل الأب الكاتب حسين عبد العليم؟ أم هي رواية تخرج عن إطار التصنيفات المُعتادة؟
ويضفي هذا الغموض سحرًا خاصًا على الرواية، ويحفز القارئ على التعمق في تفاصيلها واستكشاف معانيها المتعددة، و تثبت مريم من خلال هذه الرواية موهبتها الفريدة في السرد، وقدرتها على استخدام اللغة بأسلوب مبتكر يلامس مشاعر القارئ ويثير أفكاره.
وتعد "السيرة قبل الأخيرة للبيوت" رواية استثنائية تقدم تجربة قرائية مثرية، وتؤكد على قدرة مريم حسين على أن تصبح صوتًا هامًا في عالم الرواية العربية.
وكان هذا نص الحوار:
◄هل تُصنف رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت" ضمن السير الذاتية التي تروي قصة حياتك؟
تروي رواية "السيرة قبل الأخيرة" للكاتبة "البيوت" حكاية عائلة تتنقل بين بيوت مختلفة، إما طواعية أو قسراً، بفعل ظروف متباينة، ومع كل انتقال، تجد العائلة نفسها في طبقة اجتماعية جديدة، مما يخلق شعورًا بالارتباك وصعوبة التكيف مع الواقع الجديد.
وتتعلق مسألة كون الرواية ذاتية أم لا برغبة الكاتبة في مشاركة تجاربها الشخصية، ولا ينبغي على القارئ أن يشغل نفسه بهذا السؤال، فالعبرة تكمن في تفاعله مع النص، سواء أحبه أم لا، ففي كل عمل أدبي، ستظل هناك حواجز خفية تفصل بين الواقع والخيال.
ويقدم التشبيه "فليس لأننا في الصباح الباكر بالضرورة سنسمع زقزقة عصافير" درسًا مهمًا، فكما أن أصوات العصافير ليست مضمونة في الصباح الباكر، كذلك لا يمكننا توقع مسار الحياة بشكل دقيق، فالحياة مليئة بالمفاجآت والتغيرات، ومن المهم أن نتكيف معها ونستمر في السعي نحو أهدافنا.
◄هل تمثل الأماكن المذكورة في الرواية مجرد انتقالات جغرافية ترمز إلى نهاية كل مرحلة، أم أنها تعكس عمدًا مراحل عمر الساردة وشخصياتها؟
على حسب علاقة الإنسان بالأماكن، هل أكتب لأتخلص من زخمها في عقلي وروحي، ذلك الزخم الذي لازمني في بعض الأماكن بشخوصها لأكثر من ثلاثين عاما- أم أكتب لأرسخها ووأحتفظ بها مرتّبة واستعيدها بسهولة. في مراجعتي النهائية جلست فرحة أمام صفحات الرواية كأنني قتلت شخصا ما واستعد لدفن جثته. ومع قراءة أول صفحة مددت يدي له لينهض لنكمل حكاياتنا مبتسمين.
◄ ليس هناك أدنى شك من تلك الحميمية وظلال الدم والدموع فيما يخص سيرة الأب.. حدثينا عن ذلك
أي إنسان بيفقد حبيب له يتحدث عنه بحميمية ايا كانت صلته به، شخصية الأب في الرواية شخصية غنية جريئة مبدعة، الأب هنا له فلسفته في التعامل مع معطيات حياة اختارها واصر على اختياراته فيها مهما كلفه الأمر، هى شخصية صاحبة مبدأ بل وتنفذه طوال الوقت على أرض الواقع ضاربة بأراء الآخرين ومحاولاتهم للتدخل في حياته عرض الحائط لينسحب كل لحياته واضعا لسانه في فمه، أن تكون شخصية كهذه أب وبكل هذا القدر من الحميمية والقوة. فإن أثرها نافذ وبالتالي فقدها غائر.
◄حدثينا عن السبب الأساسي لكتابة الرواية ؟
كنت اكتب قصة قصيرة عن بيت يقع على بحيرة، لأقع في بحر استرسال لا يتوقف عن عدة بيوت مرت عليّ، ارتبكت لكبر القصة.، انا كاتبة قصة قصيرة احبها ومخلصة لها، ولا أود التورط في رواية ، ابتعدت قليلا لأجد تساؤلا يلح عليّ ماذا تعني كلمة بيت، وفي الأثر من الأقوى ومن يكوّن الآخر، الإنسان أم المكان، من يصنع تفاصيله أولا، وهل أثر آخرين مروا على المكان يسهم في العلاقة الجديدة بالسكان الجدد ؟ كل تلك الأسئلة استدعت المزيد من الحكي لأجدني أتورط في الرواية عن طيب خاطر.
◄عن تلك اللغة في الرواية التي تتأرجح مابين الأسى والصوفية والخروج عن المألوف فيما يخص اطارات أوسع للعامية.. كيف كان التفكير في لغة الرواية ؟
لكي أقدر على القول بأنني امتلك لغة الشخصية التي أكتبها فلابد أن أعي جيدا المساحة التي سأتركها لها في النص، وأعي جيدا المساحة التي سأتركها لنفسي للتعايش ولاقتراب من شخصياتي، متى اندمج تماما مع الشخصيات وانحي نفسي ولغتي جانبا كي أتشرب لغتهم ومتى أقرر أنه يكفي. لأنني في النهاية الساردة، كما أنني أتعامل مع لغة الشخصية بفضول وحب فهي ليست دراسة لكتابة نص، انها تعايش حقيقي وواعي، وقد أسمهت دراستي للسيناريو في إحكام ما يخص لغة الشخصيات وتعدد أصواتها وضمائرها، جعلني السيناريو أتعامل مع الزمن في الأدب بشكل أكثر جرأة وتجريب.
◄هناك الكثير من إشكاليات التناقض في العمل خاصة على مستوى الحدث، مثل الفقر والغني، النشوة والألم، الموت والحياة.. ماذا تمثل لك هذه الرواية.
بكل بساطة الحياة تتكون من مزيج متناقض طوال الوقت، فالإنسان من طائرة يرمي صندوق مساعدات ليأكل الناس ويتكنوا من البقاء على قيد الحياة ومن نفس الطائرة يلقي قنبلة لكي يقتلهم، الرواية هى تعبير هاديء أحيانا وصارخ أحيانًا شأنها شأن الحياة عن تجربة إنسانية لعدد من الشخصيات وقعت في تناقض مقصود أو غير مقصود رضت أم أبت كان لها موقف أم لا.
وعموما انا أرى أنه الأشكالية الأساسية في الرواية هى الاختيار.
اختيار الأب لأسلوب حياته اختيار الأم للاستمرار معه اختيار يوسف الانسحاب للبحيرة وقرار الانتحار، اختيار ميمي لصالح، اختيار جينا للسفر، حتى الأطفال اختاروا اللعب على سلالم بشتيل بدلًا من سلالم الحي الراقي حيث ينزعج السكان الارستقراطيين من القصص التي يقومون بتمثيلها على الدرجات الرخامية الفاخرة.
◄إلى أي مدى استفادت مريم حسين من تجربة حسين عبد العليم في مسارات الرواية، واللغة، وطريقة السرد، وبناء الرواية بشكل عام؟
يُغمرني شعور عميق بالسعادة عند قراءة نصوص الكاتب الكبير حسين عبد العليم، فهو بمثابة الأب الروحي بالنسبة لي، أحتفظ بآخر أثر لسنه على علبة "لبانة سمارة" وآخر قطرة من ريقه على فلتر سيجارته الأخيرة.
أشعر بتماه تام مع أسلوبه الأدبي، لكن الكتابة تفرض علينا الانفصال عن أي تأثير خارجي، لكل مبدع بصمته الفريدة، ولن يسعده أن تقلد أسلوبه.
يتميز حسين عبد العليم بمهاراته الأدبية الفائقة وسلاسة أسلوبه، فهو يدرك تمامًا ما يريد قوله، ولا يهدر كلمة واحدة، يتعامل مع الرواية بذكاء فريد وتكثيف متقن دون أن يخل بأي حدث أو شخصية.
ويُخرج القارئ من عوالم رواياته مشبعا بها تمامًا على الرغم من قصر حجمها، تلك هى لعبته التي مارسها بحرفية وسلاسة مذهلة.
تنوعت أساليب حسين عبد العليم بين العامية الحوارية، كما في رواية "موزاييك" و"بازل"، وبين لغة تتأرجح بين العامية والفصحى بمهارة فائقة، كما في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل".
كما اتبع أسلوبًا بناءً مقاربًا للأسلوب السينمائي في رواية "رائحة النعناع"، ونجح في دمج أحداث تاريخية مع حيوات شخصيات واقعية في رواية "سعدية وعبد الحكم وآخرون".
◄هل الرواية مرثية للبيوت، مرثية لمصر، خاصة انعكاس فترات بعينها على الساردة بكل شخوصها ؟
نعم الرواية مرثية للبيوت، حتى لو ظلت تعيش بشخوصها داخلي، وهى بالطبع مرثية لفترات زمنية مضت، التمانينات والتسعينات من الفترات التي تركت أثرا كبيرا على الشخصية الرئيسية وعلى معظم الشخصيات، بدءا من لون الشعر النسائي " الميش" إلى مرورا بانتشار الجماعات الإسلامية ومحاولات الاغتيال السياسي وزلزال ٩٢ والتغيرات الطبقية التي حدثت واربكت العائلة.
◄متى بدأت تفكرين في الرواية ؟
فى نهاية ٢٠١٩ انتهيت منها في ٢٠٢٣والمراجعات النهائية استغرقت قرابة عام.
◄كيف ترين بنات جيلك في الكتابة سواء في القصة أو الرواية وكيف تري الخريطة الأدبية ؟
مع أن هذا السؤال من المفترض ألايختص لجنس بعينه، لكني أرى سيدات وفتيات يافعات، قابضات على عوالمهن ولغتهن وبمرور الوقت والتجربة والخبرة سيزددن ثقلا أدبيا ولترسم الخريطة لمن يستحق، منهن هالة صلاح الصياد هبة الله أحمد، آية طنطاوي، مي أبو زيد، أميمية صبحي، هبة عبد العليم، ويوجد الكثير لم اقرءه بعد.
◄رغم الأسى والحزن في هذا العمل إلا انه هناك الكثير من التهكم والسخرية والتهشيم.. فما رأيك؟
أنا شخص كئيب للغاية ومرح للغاية ورومانسي للغاية.، انفعالاتي متطرفة، كل ما احاوله هو ظبط انفعالاتي التي هي جزء من انفعلات شخصياتي، والنجاة بها بأقل قدر من الألم. ودائما ما تداهمني السخرية في أشد المواقف جدية وغضبا وليس ألما.. فأنا اعطي الألم حقه على مضض.