جميل في كل شيء
لم يخش جميل أبو بكر راتب الموت أو كان يهاب لحظة لقائه، حتى بعد أن فقد وضوح صوته، ولم تعد كلماته مفهومة، تمني ألا يعاني آلام النهايات قائلًا: "الموت هو راحة من معاناتي مع المرض، مستعد للموت ولا أخافه ولكن بدون عذاب وألم".
بعد حياة صاخبة ومثيرة للاهتمام، حيث بدأ سلم المجد من أعلاه، ولم يهبط درجة واحد، فعلي عكس جميع الفنانيين الذين بدأوا حياتهم الفنية في مصر حتى وصلوا إلى العالمية، فقد فعلها جميل راتب وجاء إلى مصر وظهرت أعماله المصرية بعد تحقيق نجاح باهر في السينما العالمية.
لم يكن ابنا لأم فرنسية، كما يشاع عنه، لكنها سيدة صعيدية من عائلة ثرية ومحافظة، مما يفسر رفضها تعلق ابنها بالمسرح والتمثيل والحياة الفنية عامة، إذ اعتاد جميل أن يشترك في العروض المسرحية في المدرسة، وبالفعل حصل على جائزة الممثل الأول، وأفضل ممثل على مستوى المدارس المصرية والأجنبية في مصر، وذلك في أربعينيات القرن الماضي، ومن بعدها اشترك في بطولة أول أعماله السينمائية أمام الممثلة الفرنسية ونجمة المسرح والتليفزيون الفرنسي وملكة جمال فرنسا "كلود جودار" في الفيلم المصري العالمي "أنا الشرق" من إخراج عبد الحميد زكي، حيث وقعت الاختلافات في تحديد سنة الإنتاج، فبعض المصادر تشير إلى أنه تم إنتاج الفيلم في 1946 وأخرى تؤكد أنه عام 1956، لكن مايهم الآن أن انطلاقة جميل راتب الفنية لم تبدأ من فرنسا، لكنها بدأت من مصر، وذلك قبيل اختياره الحياة في فرنسا؛ ليصبح بذلك أحد نجوم مصر الذين وصلوا إلى العالمية.
جميل راتب لا يقل شهرة عالمية عن عمر الشريف
يقول جميل راتب ليس من المفترض أن يتطلع الفنان للوصول إلى العالمية، ولكن يهب حياته لخدمة الفن ذاته ووقتها تأتي إليه العالمية المنتظرة.
بات من الواضح أن عنف وشدة المقارنة بين صديقي ورفيقي الكفاح إلى العالمية من الأشياء التي يصعب الخوض في تفاصيلها، لكن يكفي القول إنه قد اشترك كل منهما في فيلم لورانس العرب عام 1962 إخراج البريطاني النابغة ديفيد لين، والحاصل على جائزة أوسكار أفضل مخرج عن الفيلم، كما حصل الفيلم على جائزة أفضل فيلم، بالإضافة إلى تقديمه سبعة أفلام فرنسية، قضى فترة من حياته فى أوروبا متقلبًا بين الشخصيات فى السينما الفرنسية والإيطالية حتى الأمريكية.
كانت البداية مجموعة من الأدوار المحدودة والثانوية، حتى جاءت الفرصة أمامه فى المشاركة فى فيلم "Trapeze" أمام النجمة جينا لولو برجيدا للمخرج كارول ريد عام 1956، والذى تدور أحداثه فى عالم السيرك، وأدى جميل في الفيلم شخصية "ستيفان"، أحد اللاعبين فى السيرك، وفى تلك الفترة قدم عددًا من الأعمال فى السينما الفرنسية، مثل مغامرة في الشانزليزيه للمخرج روجر بلان، كما شارك في بطولة فيلم To Commit a Murder عام 1967 أمام الممثل العالمي برنارد بلاير وإخراج إدوارد مولينارو، وكان "فرط الرمان" في فيلم وداعا بونابرت للمخرج يوسف شاهين عام 1985 وهو إنتاج مصري فرنسي مشترك، وحصل على أول بطولة مطلقة في فيلم فرنسي بعنوان Shadow of Evil أو ظل الشيطان في 1982 إخراج أندرى هونبال، ثم توالت بطولاته المطلقة في أفلام Young Wolves إخراج مارسيل كارنى، وPeau d›espion إخراج إدوار مولينارو.
لم تكن جميعها أوروبية
لم تقتصر أعمال جميل راتب على أدواره المتعدد في السينما الفرنسية والإيطالية والأمريكية، بل حان الوقت أن يشترك في الأعمال العربية، خاصة في السينما التونسية المحببة إلى قلبه، والتي أشار مرارًا إلى مكانتها في قلبه، فقد شارك في عدة أفلام تونسية أهمها فيلم صيف حلق الوادي للمخرج فريد بو غدير عام 1996
يعد فيلم الصعود إلى الهاوية 1978 إخراج كمال الشيخ من أكثر أعمال جميل راتب تميزًا في دورالضابط الإسرائيلي إدمون أمام مديحة كامل، التي استطاع إدمون إبهارها بالحياة في عاصمة النور حتي جندها لصالح المخابرات الإسرائيلية، إذ يذكر الجمهور أشهر جملة في الفيلم على لسان محمود ياسين "هي دي مصر يا عبلة"، بالإضافة إلى شخصية طارق مظهر، رئيس تحرير الجريدة، التي تعمل بها فاتن حمامة في فيلم لا عزاء للسيدات 1979، ومن أشهر أدواره أيضًا تجسيد شخصية نبيه بك الأربوطلي، إذ نطق بأشهر جملة تميز فيلم البداية 1986 لصلاح أبو سيف، "دا مالوش ملة، دا ديموقراطي، يعني عمره ما هيورد على جنة، ليجيب الفنان أحمد حمدي متعجبًا.. دا طلع لا مؤاخذة ديمقراطي".
لهجة خوجاتي سببت الضحك والمتاعب.. بيع يا لطفي
قضي جميل حوالى 30 عامًا في أوروبا، متنقلًا بين فرنسا وإيطاليا وسائر الدول المجاورة عشقًا في فن التمثيل، اكتسب عدة لغات من أبرزها الفرنسية، التي هي لغة تعليمه المدرسي والجامعي، بالإضافة إلى اكتسابه لهجات أخرى سببت له بعض متاعب الفهم والاستيعاب وأحيانا النطق، ففي مسلسل سنبل الشهير 1997 كان ينطقها سِنبل بكسر السين وليس بضمها، كما صرح من قبل بأنه لا يعلم سبب نجاحه في دور المعلم بهظ في فيلم الكيف 1985، وحينما عرضوا عليه الشخصية تردد؛ لأنه لم يفهم كثيرًا من ألفاظ حوار الفيلم أو حتى الجمل الحوارية التي ينطقها.
رغم تكريمات عدة قدمت إلى جميل من مهرجانات سينمائية مرموقة وحكومات أوروبية مثل فرنسا، إلا أنه وصل إلى آخر أيامه وشعر بالإحباط، وقام باستعادة شخصية الدكتور مفيد أبو الغار ورفع الراية البيضاء مستسلمًا لعدم حصوله على تكريم لائق من وطنه الأصلي مصر.