أيمن السميري: الرواية لا تسد ثغرات بقدر ما هي تتلو القصة الأخرى
رغم أنها محاولته الروائية الأولى، إلا أن رواية “شارع بن يهودا”، للكاتب أيمن السميري، والتي لم يكاد يمر سوى شهر من إطلاقها نفدت طبعتها الأولى.
حول تأخر نشره للرواية، والقضايا التي تتناولها الرواية، وعن النقد والجوائز، وانتشار الرواية قراءة وكتابة مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى، وغيرها من القضايا الثقافية والأدبية كان لـ “الدستور” هذا اللقاء مع الكاتب المصري أيمن السميري.
ــ رغم ما مرَّ به، لماذا لم تعتنق الشخصية الرئيسية في الرواية "علي غالب" من التاريخ الذي حمله فوق رأسه؟
دعيني أقول ابتداء إن طبيعة الشخصية وتكوينها كانت جزءًا أساسيًا من منطق الرواية وعالمها. لم يكن ممكنًا لعلي غالب الذي بدا في السياق الروائي كبطل تراجيدي بكل سمات البطل التراجيدي التي عرفناها منذ الدراما الإغريقية، مرورًا بهاملت وما بعده من تناولات، فكان علي غالب عبر مسافات السرد مدفوعًا بتاريخه كطفل مُعاق، ابن لعائلة اعتادت تقديم القرابين لهذا الوطن بدءًا من عمه "عز العرب" المصروع صغيرًا في اليمن، مرورًا بأبيه الشيوعي السجين في وطنه، الأسير في إسرائيل، المشارك في كل الحروب. علي غالب ابن أسرة اعتادت دفع الأثمان مقدمًا دون مقابل، فكان هو الحفيد الذي ورث نفس الهم، فلم يكن بعاهته وأزمته الشخصية استثناًء من شقاء العائلة، وهو يواجه ضربات فساد عهد كامل، سحق كرامته، استكمالًا لسحق عائلة غالب في حفيدها، ودفعه دفعًا إلى مآلاته الدرامية. تاريخ "علي غالب" بقي يلاحقه في كل مراحل رحلته، القهر والانكسار شكلا معًا مساره ودوافعه، ومحاولاته للتمسك بخيط الحب الواهي الذي لمع فجأة في بداية رحلته، وأسلمه للهزيمة وكسر الإرادة، فكما لم يتخلص هاملت من تاريخه ورغبته في الانتقام لأبيه، لم يتخلص علي غالب من تاريخه وانكسارات عائلته، ومن ثم هزائمه هو شخصيًا.
ــ خاتمة الرواية تقول إنها تمت في عام 2018 بالولايات المتحدة الأمريكية. لماذا تأخرت في نشرها؟
بالفعل انتهيت من رواية "شارع بن يهودا" في مايو 2018، لكنني كنت أراقبها وأمنح نفسي فرصة لإعادة مطالعة العمل بعين حيادية، علاوة على مراقبتي لهذا السيل من النشر الروائي، وكيف تهضمه الذائقة الجمعية. خلال تلك الفترة كانت الرواية مُتداولة في دائرة ضيقة من الأصدقاء الروائيين والنقاد ارتبطت بهم منذ فترة النشر في إبداع مع الدكتور عبد القادر القط، ورعايته لنا في مطلع التسعينات، واستمرت علاقتنا رغم ابتعادي بين المهاجر والغربة. الرواية وصلت أخيرًا إلى الناشر "دار الرواق" الذي أدهشني بحماسه لها وحماس لجنة القراءة لديه.
ــ بين الواقع والخيال، لماذا غابت شخصيات مثل "عز العرب" والشيخ "نعمان بن الفخار" بينما علا نجم "عبد القادر شعير" وآل "جميعي"؟
"عز العرب" فقيد العائلة في اليمن، والشيخ "نعمان بن الفخار" وأولاده السبعة مثل إعدامهم فقدًا آخر للوطن في رحلته بين مدارات الاحتلال والقهر. الرواية تمثل تجربتهم كظلال ضرورية للمحكية الكبرى عن الوطن في صورته الكلية، والتي كان اللاعبون على المسرح "آل غالب" يستكملون مرارتها في مصر المعاصرة بكل أحلامها، ورغبتها في الإحياء، والانبعاث من رماد أكثر من 1500 عام من الهمود والانطفاء، وغياب إرادة المصري الحقيقي في استعادة وجوده الحر كأمة قديمة، وحضارة فاعلة. ظلال "عز العرب" و"آل نعمان" مثلت بدرجة ما معادلا سرديًا لأزمة الحاضر، ويقيني أن الظلال كان حضورها متوهجًا جنبًا إلى جنب مع الشخوص الفاعلة على الأرض.
ــ في روايتك "شارع بن يهودا" اختزلت تاريخ مصر منذ حملة لويس التاسع حتى ثورة 2011. ألم تخش من تشابكات هذا التاريخ الطويل؟
هذا صحيح.. تبقى المعضلة في التناول. هل تم هذا التناول بشكل تقريري تسجيلي مباشر، أم أنه كان جزءًا أصيلا، وعضويًا في محكية "آل غالب" ومحكية مصر في المجمل؟. نعم التاريخ الطويل لرحلة الوطن المصري كان حاضرًا، لكنه الحضور الموظف فنيًا بالتشويق والإسقاط، والتمثل كمعادل موضوعي للحاضر بكل انكساراته وعقده. التاريخ كان الرافعة الضرورية لتأهيل الحاضر سرديًا، وترك ذلك الأثر في المتلقي، بطرح الأسئلة، وعقد المقارنات، واكتشاف وجوده وتجاربه الزمانية، وبالتبعية التوقف أمام الحاضر ومحاكمته.
ــ رغم انتشار الأشكال الروائية الجديدة "كالغرائبية" إلا أنك اخترت السرد الحكائي في عملك الروائي الأول. لماذا اخترت هذا الشكل الأدبي؟
تجربتي الطويلة إنسانيًا أولًا، ثم كدارس للأدب الأمريكي والإنجليزي في الجامعة، وكذلك النقد الأدبي بشقيه العملي والنظري، ثم دراستي للسينما والسيناريو، والأهم من محصلة المراكمة للقراءة الإبداعية عامة، والرواية بشكل خاص محليًا وعالميا، من جِماع كل ذلك يمكنني أن أقول بشكل متصالح أن التجربة الروائية تفرض إطارها وقالبها السردي. لقد أرهقني التنظير لسنوات طويلة، بل وجعلني متردد إبداعيا في بعض الأحيان، حتى تخلصت من ذلك وسمحت لصوت المبدع أن يعلو. في "شارع بن يهودا" فرضت طبيعة الموضوع عالمها وقالبها، هي محكية طويلة عن الوطن، لم يكن ثمة طريق إلا نزفها بوحًا شفيفًا دامعًا على الورق. لم يكن من الممكن أن يتوسل الموضوع بتيارات ومدارس السرد التجريبية كاستدعاء الترميز، أو الأجواء النفسية الكابوسية، وعالم الأحلام، وتعدد الأصوات، وكسر الأبعاد، لم يكن أمامي إلا عفوية البوح، ربما رائدي هو شكاوى الفلاح الفصيح، أنت تحكي عن الوطن، فدعنا نعيش حكايتك كما هي، بهذا النسق الإغريقي الحكاء.
ــ لك كتابات قصصية كثيرة منشورة في دوريات مصرية وعربية. لماذا تأخرت عن الكتابة الروائية؟
أول عمل نُشر لي، كنت في بداية دراستي بكلية الآداب، كان قصة "تفاصيل ما حدث" عام 1988 في جريدة المساء في عهد الأستاذ عبد الفتاح الجمل، ثم تمتعت برعاية الراحل الكبير الدكتور عبد القادر القط في مجلة "إبداع" التي نشرت فيها عام 1990 حتى عام 1994 بالتوازي مع مجلة "الثقافة الجديدة" ومجلة "أدب ونقد" مع الأستاذة فريدة النقاش، "والأهرام" التي نشرت لي "هذه المسافة" ثم توالى النشر بعد ذلك بالدوريات المصرية والعربية. بالطبع منعتني كثرة أسفاري حول العالم من التفرغ التام لإتمام مشاريعي الإبداعية رغم وجود أعمالي الأدبية كمخطوطات بعضها تم تداوله في دائرة ضيقة. كنت دائمًا أقول الوقت غير مناسب خاصة مع صعود الاستسهال، والأعمال الرغائية المصحوبة بصخب مصطنع. لا أعرف إن كنت على صواب في انتظاري هذا أم لا، لكنني وصلت على كل حال إلى اللحظة التي أراها مناسبة لأدلي بما لدي من إبداع.
ــ ما رأيك في الرواية التاريخية، وهل تسد الثغرات في التاريخ الرسمي؟
الرواية التاريخية هي عمل إبداعي يتوسل بالاستلهام، واستحداث روح الحدث ومعناه ومن ثم توظيفه سرديا وحكائيًا، لكن بكل وضوح دعيني أقول إنها ليست التاريخ. التاريخ رغم ما يشوبه من عدم الموثوقية والهوى والغرض لواضعه، لكنه يبقي السجل الوحيد المتاح لدينا للزمن والمكان، مهمة الإبداع انتزاع حقيقة مغايرة ورواية القصة الأخرى عن ما قيل وما لم يقل. الرواية لا تسد ثغرات بقدر ما هي تتلو القصة الأخرى.
ــ تزخر "شارع بن يهودا" بالمشهدية العالية، فهل كانت أمام ناظريك الدراما وأنت تكتبها؟
أنا دارس للسينما وكذلك الدراما والأدب الإنجليزي، دائمًا مفتون بالشريط المرئي تماما كولعي بالسطر والسرد، الصورة والمشهد جزء من أدواتي السردية، ولهذا تركت التجريد للقصة القصيرة. أنا أؤمن أن الرواية ببساطة يتعين أن تروي، أن تحكي، أن تكون سطورها كاميرا تشكيلية ملهمة للعالم بعيدًا عن إلغاز التجريد والرمزية المفرطة.