رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الألفا

ناهد السيد
ناهد السيد

خرجت من شرنقتى بعد الأيام السبعة فى العناية المركزة كدودة قز، وتحولت إلى فراشة سبحت فى سماوات بعيدة، تاركة خلفها كرسيًا متحركًا تجره فتاتها الكبيرة.. وسريرًا ذا ملاءة بيضاء مشدودة من الحواف، بللته دموع ابنتها الصغيرة التى تصر دائمًا على النوم بجوارى، خوفًا من طيرانى بعيدًا.. وجدرانًا بيضاء تصلبت عليها عينا طفلها الصغير متسائلًا: لماذا أمى؟ ما الذى يحدث؟ ولماذا أمى بالذات؟ ثم ما هو الموت؟ ذلك الشىء الذى اختطف جدى، وهو يغنى لى، حتى صار ذكرى، هل ستصير أمى ذكرى أيضًا؟

هل أنساها كما نسيت جدى واختصرنا جميعًا وجهه فى حلف يمين مستهلك.. قائلين: ورحمة جدى؟! هل سأقول قريبًا ورحمة أمى؟ أين هى تلك الرحمة يا ربى.. لم أستمتع بها كإخوتى.. فأنا ما زلت صغيرًا أنتظر قدومها من الخارج، ولا أنام قبل أن تهمس فى أذنى بقصة وضحكة وحضن. هل سيكون أبى عوضًا عنها؟ لم أسمع قط أن الآباء يستطيعون القيام بما تفعله الأمهات.. كما أنه منذ الآن قد أصبح هائمًا مغيبًا لا يدرى شيئًا، يهرع من نافذة الحسابات إلى الإدارة ليوقع أوراقًا، ويدفع نقودًا، وعيناه صامدتان متحجرتان، لا يلفان.. كأنه يخشى أن يفقدهما من شدة ثقلهما.

كيف له أن يربت على كتفى، ويحتضننى، ويتحدث إلىَّ، ويتحمل ثرثرتى وأسئلتى اللا نهائية حول التوافه والمسلمات؟ من الذى سيوقظنى ليلًا ليغطينى، أو يقدم لى كوبًا من الماء، لأنه استشعر عطشى؟ أليست تلك غريزة الأمومة فقط؟ كيف سينقلها الله إلى أبى إذا أفاق من تيهه إن حقًا أفاق؟

فلا أظنه سيقوى على فراقها مثلى.. لأنها رفيقته، وفى كل جلسة حول الطعام فى الأيام القليلة التى تصادف أن نجتمع سويًا لتناول الغداء لا يفوت اللحظة، ويروح يسرد قصتهما، وكيف تزوجها، رغمًا عن الظروف وضيق ذات اليد وصغر سنهما، ويختتم دائمًا حديثه بأنها ليست زوجته فحسب، إنها ابنته الصغرى.. وهذا دائمًا ما يثير مشاعر أختى الصغرى، معلنة عن غيرتها على أبى، وتبدأ فى السخرية، ثم تقفز جالسة على قدمه، وتخرج لسانها لأمى.. بينما تنظر أمى لها مبتسمة بحكمة واثقة من مشاعره، وداعية فى قلبها أن يظل حبه لها أصيلًا.

زوجى.. فى أشد لحظات تشتته وضياعه كان يأتينى لأبارك زلاته، صرت أعى متطلباته جيدًا لكونه كاتبًا متغير المزاج، له صولاته وجولاته هنا وهناك.. لديه ما يثيره للفضول حتى ولو كان فى قلب أنثى أخرى.. لا يغيب كثيرًا ويعود إلىَّ ليغتسل بى.

أدرك الآن بعينى الثالثة أن للكاتب طبيعة بشرية مختلفة وجينات غرائبية، إذا لم نحتوِها تهشمت وصار ما يكتبه محض رماد. لطالما خشيت مروره بأزمة منتصف عمره، وما يحكى عنها من صبيانة ومراهقة لا بد من مرورها على أى رجل.. يا ويلى!.. ماذا لو التصقت به ولم تمر بسلام؟

هل أحتمل؟ لا أظن.. فإذا كنت أنا بالنسبة له ابنته الصغرى المتيم بها التى تقبض على عقارب ساعته ومزاجه وأحلامه، فهو بالنسبة لى أبى الذى يحنو علىَّ.. أخ أستند عليه، لهذا وبنفس منطق الذئاب أمثالى أنقض عليه دومًا فى تصرفاته، وأملى عليه ما يفعل.. أوجه وأدير وأحمى كأننى القائدة الأم ألفا. مارستها عليه قبل أى أحد، وكأنى قائدة قطيع منذ اللحظة الأولى.

من رواية «لالوبا، سيرة ذاتية»