وائل فاروق 3-3| نسبة كبيرة فى الغرب تستمد ثقافتها من التلفزيون
الدكتور وائل فاروق، أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو، قدم العديد من الأبحاث والرؤى المنجزة والمتفردة في علوم اللغة العربية وآدابها وعلاقتها بالآخر في الثقافة “الغربية - الأوروبية”.
تناول بالبحث الدلالي والجمالي نصوص كتاب كان لهم الفضل في تأطير وبلورة الفكر والفن والأداب العربية غبر مدارس شتى في لغات الرمز والاستعارة والكناية وكذلك الشعرية، ليمثل همزة وصل مهمة وحاذقة للانفتاح على الآخر،“الدستور” التقته فى هذا الحوار..
- ماذا عن تعدد الثقافات بين العربي الشرقي والآخر الغربي فيما يخص حياة الأفراد؟
هذه المواقف على اختلافها ليست إلا آمالا أو مخاوف من أفكار ما بعد الحداثة، فهي لم تبحث عن مظاهرها في الحياة اليومية للأفراد في وطنا العربي لتكون أساسًا لقراءة صيغها والدور الذي تلعبه في تشكيل الثقافة العربية اليوم، فقد رافق الاعتراف بتنوع الثقافات وتعددها وتباينها مفهوم النسبية الثقافية.
فالإنسان فيما بعد الحداثة اعتاد النظر إلى أي شيء على أنه ثقافة وهذا يشمل ثقافة البوب وشعارات الحائط والأزياء وثقافة الروك وأقراص الليزر وأشرطة الفيديو وبرامج التلفزيون وعمليات التجميل.
هذا الأمر يجعل الناس في دائرة ثقافة ليس قوامها قراءة الأدب ومطالعة الأعمال الفكرية، ليس قوامها شعر المتنبي وفلسفة ابن رشد أو مسرح شكسبير وفلسفة نيتشه، هذه الثقافة ليس لها علاقة بالذكاء الحقيقي والمعرفة العلمية أو مع الأعمال الفكرية بطابعها الإنساني.
حدثنا عن صور ملموسة لأفكار وتجليات ما بعد الحداثة في العلوم والآداب والفنون؟
لا يمكن لأحد الزعم بأن ثقافة ما بعد الحداثة هي ثقافة الفراغ، بل هي مشبعة بالصور، ملايين الصور والكلمات والشعارات والإعلانات والأصوات، تشكل ذاكرة الإنسان ما بعد الحداثي كما تشكل أحاسيس ومشاعر الإنسان المعاصر المتخم بالصورة والإعلان والعفوية.
وبالتالي فإن هذه الثقافة تتسم بأنها ثقافة للأمية أو على الأقل ثقافة تعزز الأمية بين صفوف أفرادها، فهناك كثير من الإحصائيات تبين حضور هذه الأمية حتى في الدول المتقدمة، وعلى سبيل المثال فإن نسبة تتراوح بين 10-12% من الفرنسيين لا يستطيعون تحرير شيكاتهم، وهذه النسبة لا تتقلص مع الأيام.
وهذا النوع من الأمية يتقدم نحو الجامعة حيث نجد تراجعًا كبيرًا في مستوى اللغات بالجامعات، حيث أن ضعف اللغة الذي يعاني منه الطلاب يكاد يُدهش المعلمين والمدرسين، ولقد بينت الإحصائيات في هذا الميدان أن أكثر من 25% من الناس الذين يعيشون في الغرب لا يقرأون أبدا وهم في الغالب يعتمدون على تلقي ثقافتهم من التلفزيون، حيث تسود ثقافة اللهو والتسلية والألعاب وقضاء أوقات الفراغ.
العالم ما بعد الحداثة يغلب كل ما يوجد في التفكير ويعظم الأحداث مضاعفاً إياها بصورة ذهنية وتخيلية وذلك من غير صلة مع العالم الواقعي ومع الحقيقة الخارجية. والصور التي غالبا ما تلتقط لجانب منفصل من جوانب الحياة تُجمع وتُصهر في وحدة تيار متدفق للحياة، ولكن الروح الحقيقية لهذه الحياة المتخيلة لا يمكن أن تكون في مكان أبدا، لأنها حقيقة غير واقعية، متوهمة.
ما ماهية وآليات الثقافة التى تدفع الباحث للربط بين الذاتي والحياتي من أجل التلاقي مع الآخر من وجهة نظرك ؟
الثقافة تعنى عملية التحول الذاتي للحياة، هي حركة لا تنقطع ولا تتوقف عن تغيير ذاتها من أجل الوصول إلى صيغ أكثر تقدما من صيغ الوجود والتكيف، الثقافة لا يمكنها أن تختزل إلى أبعادها المعرفية الموضوعية، تتجلى في كل الصيغ عبر تحولاتها الداخلية لتتجلى في كل الوجدان الذاتي الأعمق لكل فرد لتأخذ حضورها المميز في ذكائه. والسؤال: ما المشترك بين قراءة كتاب يصدمنا ويهز ذكاءنا وقلوبنا وبين البهجة التي يضفيها سماع الموسيقي، وبين فرحة الرسم وتصوير الروح الإنسانية في هيئة ؟ الرابط الجوهري بين هذه المظاهر والفعاليات ليس شيئا آخر غير الشعور الخلاق الخالد أبدا بالحياة الإنسانية في أعمق أعماقها وفي صلب ذاتيتها، لا يوجد فصل حقيقي بين الثقافة والحياة، فالحياة تتجلى وتتكامل في الثقافة، وعندما تكون الحياة حركة لا انقطاع فيها، ذاتية التحول والتكامل، فإنها هي الثقافة ذاتها. وهذا يعني بالضرورة أن أي نفي ممكن للثقافة يعني في الوقت نفسه نفيًا للحياة ذاتها.
_ ماذا قدم الأكاديمي والناقد وائل فاروق لفهم صيغ وأشكال التقدم في المشهد العالمي وتحديدا عوالم التقنيات فيما يخص إنعكاس إختراعات الغرب في الوسائط الذكية على العرب والمسلمين بعالمنا الثالث؟
ربما لهذا أعكف منذ سنوات على دراسة ظاهرة الفتوى لغويًا وبلاغيًا، وقد نشرت عددا من الأبحاث باللغتين الإنجليزية والإيطالية نقلت فيها موضوع الدرس من إجابة المفتي إلى سؤال المستفتي، حاولت استكناه هوية وثقافة واهتمام جمهور المسلمين من خلال البني اللغوية والبلاغية لما أطلقت عليه "خطاب السؤال"، وهو انتقال فتح أفقًا جديدًا تمامًا للبحث في هذه الظاهرة التي احتلت فضاءً هائلًا في العالم الافتراضي وأصبحت واجهة حنى لأعرق المؤسسات الدينية، أذكر أنني قرأت على الصفحة الرسمية للأزهر على الفايسبوك عن شاب كان يجلس منهمكا تماما في " شخصنة " جهازه الجديد من الجيل الأخير من الهواتف الذكية ، ولأنه شاب متدين كان تحميل القرآن الكريم على جهازه من أهم الملامح الشخصية التي يجب أن يعكسها هاتفه، أثناء التحميل تحركت أمعاؤه تلك الحركة المألوفة التي تسبق أحد أكثر الأفعال الإنسانية بدائية وأهمية في الوقت نفسه، تماسك الشاب حتى انتهى التحميل، ثم تحرك باتجاه دورة المياه ولكنه توقف في منتصف الطريق، هل يمكنه دخول دورة المياه بهاتفه الذي يحتوي بداخله الآن القرآن الكريم ، أليس في هذا انتهاك لقدسية القرآن، هكذا بأمعاء يعتصرها الألم وعقل تعتصره الحيرة أرسل الشاب سؤالا لواحدة من صفحات الإفتاء المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي يستفتي شيخا افتراضيا ليخرجة من الهوة السحيقة بين هاتفه وأمعائه.
_ ما تأثير نسبة الأمية المتفشية في عالمنا بتلك الأزمة وسحق خطابات التجلي المعرفي بل والتقني أيضاً؟
حتى خمسين عاما مضت كانت الفتوى - في مجتمعات يتجاوز عدد الأميين فيها ثلاثة أرباع عدد السكان – ضرورة حياتية لكن عدم توفر التكنولوجيا فرض على هؤلاء الأميين التفكير وإصدار الأحكام في شؤون حياتهم اليومية، كانت الرحلة للمراكز الحضرية تتكلف ثروة وتستغرق وقتا طويلا فكان على كل شخص في ضوء ما يملك من معلومات قليلة أن يصدر حكما يرضي ضميره وبالتالي يرضي الله. اليوم وفرت وسائل الاتصال الحديثة لكل شخص امكانية أن يحصل على فتوى تخص حالته هو دون غيره، وبالتالي لم يعد عليه التفكير أو القياس أو المناقشة، لقد وفرت الحداثة تكنولوجيا قامت بفض الاشتباك نهائيا بين التدين والعقلنة، فقد يسر الله للناس بما يتوفر من وسائل الاتصال الحديثة الحصول على الفتوى في أي وقت وفي أي مكان وفي أي موضوع مهما كان شخصيا وشديد الخصوصية بالنسبة لطالب الفتوى، وهو ما يتناقض مع ما يعتبره الإسلام أهم مميزاته وهو مبدأ لا كهنوت في الإسلام ومبدأ استفت قلبك وإن أفتاك الناس. فقلب الإنسان هو المرجعية الأخيرة التي تحكم أفعاله. الشاب الحائر أمام الحمام لا ينقصه التعليم أو الثروة أو المهارة ولكنه ابن ثقافة أدى فيها الانتصار الأيديولوجي للدين إلى تدمير أي إمكانية للتدين الفاعل المبدع للشخص الذي يعيش وفق مفردات عالم غربي أدت فيه الهزيمة الأيديولوجية للدين إلى إقصاء التدين من الحياة العامة، ففقد دوره في انتاج المعنى للإنسان والمجتمع. إن أكبر هزيمة للدين هي تحوله إلى أيديولوجيا انتصرت أوانهزمت – لا شك – سيكون الإنسان أول ضحاياها. تبدو حكاية هذا الشاب الواقعية مثالية لوصف دراما الجدل حول عالم ما بعد الحداثة حيث صار الواقع واقعين تقليدي وافتراضي، يتداخل الواقعان في حياة كل شخص للحد الذي يصعب فيه الفصل في التجربة الشخصية والحياتية للفرد بين ما هو واقع تقليدي وما هو واقع افتراضي، من قراءة الصحف إلى اختيار شريكة الحياة ومن العمل إلى المشاركة في الثورات مرورا بالفن وحتى ممارسة التقاليد والشعائر الدينية كما نرى في شبكات التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص.
وبالتالي فقد تتوفر في هذه القصة كل العناصر التي تشكل ذلك الواقع الجديد الذي يصعب رسم حدوده؛ من تكنولوجيا بلا هوية نسعى لإضفاء شخصيتنا عليها إلى تراث مازال يمثل العامل الحاسم في تحديد هويتنا إلى اللاتناغم بين فضاءات متباينة ننتمي لها بنفس الدرجة ولكن دون وعي حقيقي يجمع هذه الانتماءات في سياقها الإنساني الواحد ، إلى الالتباس الذي يصعب فضه بين هذه العوالم والذي يجعلنا في النهاية عالقين في الحيرة كهذا الشاب أمام كل التقاطعات الممكنة بين هذه الفضاءات .تبدو هذه الفقرة وكأنها وصف مثالي لعوالم الرواية المصرية الجديدة التي تقوم بمزج هذه العوالم في صيغ سردية جمالية متعددة وهو ما يدفع كثير من الباحثين إلى نعتها أو بتعبير أدق تصنيفها ضمن الأدب الغرائبي أو الواقعية السحرية والسؤال الذي نحاول ط رحه هنا هل هذه النصوص الروائية تمثل مفارقة للواقع هل هي مقاربة له من خلال اصطناع عالما خياليا لا تفض علاقته بالواقع المألوف إلا من خلال استنطاق الرمز وتحرير رسالته من ظلال البلاغة والتخييل؟ هل يختلف الواقع الذي نمارس فيه حياتنا اليومية عن العالم الافتراضي؟ إن أول أسباب الحيرة في رأيي هو الانطلاق من فرضية التقابل بين الواقعي والافتراضي، والنظر إلى الافتراضي كبديل، أو محاكاة، أو انقطاع أو عامل تدمير للواقع، وهو ما يظهر جليا في كل محاولات توصيفه، كما نرى في هذه التقابلات القائمة في تعريف الافتراضي.
رد الشيخ على سؤال الشاب العالق بين الهاتف ودورة المياه بسؤال: هل تحفظ شيئا من القرآن الكريم؟ أجاب الشاب متعجبا: طبعا. هنا أفتى الشيخ بأن عليه ألا يصحب هاتفه ورأسه إلى الحمام. وهي إجابة ساخرة ليس فقط على سؤال الشاب وإنما كذلك على آلية معرفة مفردات العالم الجديد وتعريفه من خلال التقابلات.