مقطع من رواية كاتانجا الخمر والبارود
رشيد - إليزابيث فيل - إقليم كاتانجا - ٢٠ سبتمبر ١٩٥٩
كان أول هدف أسعى إلى تحقيقه على أرض المطاط، هو أن أذهب إلى هذا القدم من الأرض، ذلك القبر الصغير الذى يضم بقايا أطراف والدى، وكنت أحتفظ بالخريطة التى رسمها لى والدى، وحدد الموضع بدقة بالغة، كأنه يخشى أن تضيع معالمه، أو أن يختلط عليه أو على ابنه فلا يستطيع الوصول إلى أطرافه بعد مرور سنوات طويلة، وإن كان فعلًا لم يستطع الهروب من هاجس طالما راوده آلاف المرات، وهو أن ينجرف هذا اللحد الصغير أمام أحد السيول القوية التى تهطل دائمًا على أرض المطاط.
كانت شجرة المطاط العظيمة التى أشار إليها والدى على خريطته، تقف فى خشوع، وكل فروعها تميل فى انحناء عجيب نحو أصغر لحد وأقدس قطعة أرض فى الوجود!
كادت الأغصان تغطى كل شبر من الأرض التى حولها، وكأن الملائكة تقف حارسًا لها، وتبعد عنها يد البشر، وفوق اللحد تنسدل أغصانها، وعدد مهول من أوراقها قد انهمر فوق اللحد فحجبه عن أعين المتطفلين والمتنطعين، بل والعجيب أن الشجرة سال منها مطاطها، لسنوات طويلة، كأنها كانت ولا تزال تبكى بدمعٍ سخين على ما أصاب والدى، فصارت إزاحته وكشف اللحد عسيرًا جدًا، لكنه كان علىّ يسيرًا!
ركعت على ركبتى، وبدأت فى نبش اللحد، تساعدنى فى ذلك «جريس» التى لم تكد تسمع نحيبى، وترى دموعى تنهمر من عينى على اللحد حتى ذرفت عيونها، فكأن والدى قد قُطّعت أوصاله منذ برهة!
على الرغم من أن اللحد قد تماسكت تربته، حتى صار كأنه قطعة من صخر، فإن أظافرى لم تلن أمام هذه القسوة، ولكن جريس قد أصابها اليأس بعد أن وصلنا بالحفر إلى قدمين داخل اللحد، وسألتنى: هل أنت متأكد من أن أطراف الوالد هنا؟
لم أقصد أبدًا أن أخيفها بنظراتى الحادة والمفزعة، إلا أن عينى أرسلت إليها نظرات شيطانية وأطلقت لهيبًا أرهبها، وجعلها تسقط على ظهرها، لا سيما أنها قد أصابها الإرهاق والتعب.
لم أتفوه بكلمة واحدة، وإنما استمرت أظافرى فى نبش اللحد، وكانت أكتافى تمنحنى قوة لم أعهدها من قبل، وذراعاى ينفجران قوة وعزيمة تجعلان من كفىّ آلتىّ حفر من فولاذ، ومع كل ثانية، كانت السرعة تتضاعف، والأظافر تتوغل داخل هذا الصخر الذى يشبه الجرانيت!
نهضت جريس وتابعت نبش اللحد معى، وفى لحظة رفعت كفيها وهى تصرخ من الرعب، وتسمرت عينى على عظمة إصبع صغير من أصابع والدى، ظهر وما زال الظافر معلقًا فيه، كأن الأرض أبت أن تأكله!
كانت الصرخات القصيرة المتتابعة لجريس تتعالى، كأن حالة من هوس وهيستيريا أصابتها لحظة أن لمست عظام والدى، لكننى لم أعرها اهتمامًا يُذكر، ولم ألتفت لصرخاتها، وكانت قد سقطت بعيدًا عن اللحد من شدة الصدمة، فأخذت مكانها، وبدأت أزيح عن كف والدى التراب شيئًا فشيئًا، حتى صارت مكشوفة تمامًا وبدأت الكف الأخرى بجوارها تظهر.
تماسكت جريس قليلًا، وحاولت أن تسير على يديها وركبتيها لتصل إلى الجهة الأخرى من اللحد، ومالت لتكمل الكشف عن الكف الأخرى وإزاحة التراب عنها، فإذا بكف يدى اليمنى تنقض ممسكةً بيدها وتعتصرها عصرًا، وتكومت أصابعها فى قبضة يدى، وصوت اصطكاك عظام الأصابع ببعضها، لم ينبهنى إليه سوى صرخة ألم رهيبة انطلقت من صدرها، ومزقت الصمت الذى يحيط بنا من كل جانب!
لم تلن قبضتى أبدًا لصرخة جريس، بل أَمْعَنَت فى قسوتها، حتى ماتت صرختها وانقطعت، وصار فمها على أقصى اتساعه، كأنه فم تمساح يوشك أن ينقض على فريسته، وعيناها كادتا من فرط انفراجهما وجحوظهما أن تسقطا من محجريهما!
لم ينقذ كف جريس من التحطم سوى أنى دفعتها بعيدًا عن اللحد، فانطرحت أرضًا، مؤكدة أنها واصلت البكاء والألم لكن بعيدًا عنى، أو بالقرب منى، لكنى لم أهتم بها أو بآلامها، وانشغلت عن نحيبها بالنبش فى اللحد وتحرير أطراف أبى من أسر دام سنوات طويلة!
كنت كلما حررت أحد أطراف والدى، أخرجه وحدى إلى سطح الأرض، أحمله كأننى أحمل خيوطًا من حرير خرجت إلى النور توًا من فم دودة قز، لا أريد أن تصاب بضرر، أو أن أغير من هيأتها على الإطلاق. كنت أحتضنها فى صدرى، وأميل بخدى ألمسها فى لهفة وحنو، كأن أبى قد عاد إلى الحياة من جديد، فألثم كفه، ويفيض الحب فألثم قدمه، آه يا أبتى ما أشد قسوة الإنسان حين يظلم بنى جنسه ليس لسبب سوى أنه أسود!
بعد أن تراصت أطراف والدى على الأرض بجوار بعضها، التفت حولى أبحث عن جريس، فإذا بها قد انزوت بعيدًا تحت شجرة مطاط ضخمة، تكاد تبتلعها من شدة تقوقعها وانصهارها فى جذع شجرتها! اقتربت منها بخطوات بطيئة، أمد يدى ناحيتها لتتشبث بهما وتنهض بعد أن صارت حية رقطاء تلتف حول نفسها، أنثى الكوبرا، وقد تكورت وصارت مستعدةً للانقضاض فى أى لحظة، لتدافع عن نفسها ضد من كانت تعتقد أنه مصدر دفء وأمان لها!
رأيتنى أدور حولها كأننى أخاف أن تلدغنى وتفرغ سمها فى جسدى، لا أعرف سببًا لهذا الشعور القذر الذى تملكنى، بل قد أجد لها عذرًا فيما لجأت إليه، لكنى لا أستطيع أن أفسر ما أنا فيه الآن! كنت فظًا غليظًا فى تعاملى معها فى الوقت الذى كانت تريد أن تساعدنى، وها أنا الآن أحذرها وأخاف منها فى الوقت الذى تشعر هى فيه بالخوف منى! صرت أحوم حولها كالذئب، وهى تتابعنى كالحية، توشك أن تنقض على فريستها، وكنت حين تفصل شجرة المطاط بينى وبينها أشعر بالأمان بعض الشىء، ثم يعاودنى الخوف والحذر حين تتقابل عيوننا، التى لا أدرى من أى نبع استمدت كل هذا الحقد!
فى لحظة لست أدرى متى جاءت، تولدت بيننا رغبة عميقة فى العناق! كنت حينها قد ركعت أمامها على ركبتىّ، وتشابكت يداى بعنف تحت ذقنى، وتسمرت عيناى نحو عينيها.
زحفت جريس نحوى، وزحفت تجاهها، وكان عناقًا لم يحدث بيننا من قبل قط! استمر إلى وقت لا أعرف مقداره، لكننى كنت أشعر بأننى أغوص داخل صدرها، وشىء يشبه الانصهار قد جعلنا كسبيكة واحدة، صعب أن يحدد شخص يتابعنا كيف يميز بيننا على الإطلاق.