الشاعر حلمى سالم وسبب بكائه خلال لقائه جيفارا وعبد الناصر
الشاعر حلمي سالم، والذي غادر دنيانا قبل عشرة أعوام، تمرد على القوالب الشعرية السائدة، ولم يؤمن بالثوابت الجامدة، وكان يرى أن الإبداع ليس له حدود، أسس عام 1977 هو وحسن طلب وجمال القصاص ورفعت سلام مجلة شعرية باسم (إضاءة 77) كانت علامة على تيار كامل في الكتابة الشعرية في السبعينيات والثمانينيات.
من دواوينه الشعرية: حبيبتي مزروعة في دماء الأرض 1974 - سكندرياً يكون الألم 1981 - الأبيض المتوسط 1984 - سيرة بيروت 1986 - البائية والحائي 1990 - دهاليزي والصيف ذو الوطء 1990.
بالإضافة إلى كتابه “مدن لها قلوب”، مقاطع من حياة وشعر، ويضمن فيه بعضا من سيرته الذاتية، يسرد حلمي سالم ذكريات شبابه الأولى، تحديدا عن ذكرى مقابلته للمتمرد الثائر “تشي جيفارا”، خلال زيارته إلى مصر.
يقول “سالم”: الأيام ذات الطابع الخصوصي المنفرد في حياتي ــ وحياة كل إنسان ــ عديدة، لكنني سأختار منها، هذا اليوم الذي رأيت فيه المناضل الإنساني العظيم تشي جيفارا، منذ نحو أربعين عاما. ذلك اليوم الذي كنت ــ ومازلت ــ آتي به على أقراني من الثوريين المصريين والعرب (حتى الجيفاريين منهم، الذين لم يقابلوه مقابلة العين بالعين مثلي.
ويوضح “حلمي سالم”: كان ذلك عام 1965، كنت في السنة الثانية الإعدادية، بمدرسة عبد العزيز فهمي بكفر المصيلحة، وذات صباح من صباحات يوليو 1965، ذاع نبأ بأن جمال عبد الناصر وجيفارا سيزوران شبين الكوم اليوم، وستخرج المدارس كلها في استقبالهما، كان جيفارا حينئذ، وزيرا للصناعة في كوبا مع فيدل كاسترو، وكان صيته مدويا كقائد ثوري عالمي فاتن، كنت ساعتها، فتى من فتيان منظمة الشباب الاشتراكي، ولذلك كنا نتابع أخبار ثورة جيفارا بإعجاب مفتون، مناهضة للاستعمار الأمريكي في كل مكان، تركه عمله كطبيب في الأرجنتين وتنقله بين بلاد أمريكا اللاتينية المقهورة من أجل نفي القهر والاستغلال، الطابع الأسطوري لمغامراته النضالية، شكله الملحمي باللحية والشارب والكاب والشعر الطويل، والنظرة الملهمة.
ــ حلمي سالم يبكي وهو يرى جيفارا وعبد الناصر رؤي العين
ويتابع الشاعر حلمي سالم: كان جيفارا ضيفا على جمال عبد الناصر، باعتباره وزيرا لصناعة كوبا، وقد قرر ناصر اصطحابه إلى شبين الكوم، ليشهد معه الاحتفال بعيد ثورة يوليو الثالث عشر، حيث سيزوران مصنع شبين الكوم للغزل والنسيج، ثم يلقي ناصر في المساء خطاب عيد الثورة في الاستاد “المجاور للمصنع”.
في ذلك اليوم المشهود، جمعوا أبناء مدرستنا، ونقلوهم في مراكب صغيرة، منذ الصباح الباكر إلى الضفة الثانية من النهر بأقصى جنوب شبين الكوم، لاستقبال الزائرين، وكان من حظ تلاميذ مدرستي أن جاءت وقفتهم، بالضبط، في النقطة من جنوب المدنية، التي سينزل عندها الرجلان من سيارتهما السوداء المغلقة ليستقلا سيارتهما السوداء المكشوفة، ويدخلان المدينة، واقفين، لتحية الجماهير التي احتشدت في كل متر من أقصى جنوب المدينة إلى أقصى شمالها حيث المصنع والاستاد.
ويضيف حلمي سالم عن زيارة جيفارا وعبد الناصر: وقفنا على الطريق في الشمس الحادة من صباح 23 يوليو 1965، قرابة أربع ساعات، حتى جاء الموكب المهيب. جرفتنا هيستريا عاصفة. نحن أمام ناصر وجيفارا دفعة واحدة. أطاح بنا الجنون كل مطوح. كسرنا سياج الحرس الذي نقف وراءه، واندفعنا كالشلال إلى السيارة والرجلين، وهما يترجلان من “المقفولة” ويخطوان خطوات قصيرة إلى “المفتوحة”. في هذه اللحظة بالضبط رأيت عيني عبد الناصر، وعيني جيفارا: أربع حدقات نافذات عميقات، تهزان العالم كله ــ حينئذ ــ هزا . كان الحراس يضربوننا ليمنعوننا من الاندفاع على الرجلين، ونحن لا نعير الضرب اهتماما. أشار ناصر إلى الحراس أن يتركوا التلاميذ فتراجع الحرس. وانهمرنا على القائدين. صافحناهما ولامسناهما، ونحن ننكب عليهما بأجسادنا الصغيرة وسط تدافع مريع. وفتح خبراء الاتحاد الاشتراكي العربي الأقفاص التي كانوا يحملونها فانطلقت عشرات الحمامات في الأفق وعلى سطح النهر وفي القلوب.