محنة الجبر والاختيار
قال مقدر الأقدار: "ولذلك خلقهم"، "لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ"، "وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" ، "والله خلقكم وما تعملون"، وفي الكتاب المقدس: "كَمَا قَصَدْتُ يَصِيرُ وَكَمَا نَوَيْتُ يَثْبُتُ.. هَذَا هُوَ القَضَاءُ الْمَقْضِيُّ بِهِ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ".
كان يقرأ في رواية "أوقات عصيبة" (Hard Times) للكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، فإذ بعينيه تقع على عبارة "ثمة أحداث ثلاثة كبرى في حياة الإنسان: الولادة والموت والزواج، يؤمن المرء يقيناً أن القدر هو الذي يحدد ولادته وموته (أين ومتى؟)، لكن الإنسان يعتقد أنه الذي يختار شريك حياته، والأمرُ جبرٌ في كلٍ"، همس: "ولذلك خلقهم".
قال الدرويش: محنة الجبر والاختيار، ودنيا الاختبار، والأمر له من قبل ومن بعد، وما لي حيلة إلا رجاء، يمنح المُقّدر جمالا ومالا وجلالا لفئة ويمنعها من أخرى، لا مقيد لإرادته ولا كبح لمشيئته، فهي التي تخلق النواميس والأسباب لكل إرادة بشرية، مشيئة تمنح السلطان سلطةً وترغمه على الرحيل، وبين هذا وذاك يُمنح حرية الاختيار، والأمر حرية في جبرية وجبرية في حرية، في ظاهره اختيار والباطن تخيُّر، يُؤمر ولا يأمر، يُحرَّك بقَدر ولا يتحرّك بقدرته، والفاعل الأول لا يُسأل، والثاني هو المسئول رغم أنه المفعول، فإرادته جزئية، لا قيمة لها أمام الإرادة الكلية "ولذلك خلقهم".
حدث الدرويش نفسه: تحمَّلي يا نفس سوط عذاب الجبر، وصوتا للاختيار، صوت بين جنباتي أغالبه ويغالبني كم أنا ممزق بين صوت وسوط، صيحي اصرخي، ادع لي بحق ما كان وما يكون! والأمر ليس بحولك أو بحولهم وإنما بحوله "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
همس: ألم ترَ كيف فعلت بالعشاق آيات التنزيل، مزاجها في قلبي من سلسبيل، وسع جلالها أفئدة الأنام، سكينة للحيرى وحسن سلام، كلم وكلام وما هو بالكلام، ثم! ثم ماذا؟ منه تفرّقوا فافترقت على سبعين ملّة "ولذلك خلقهم"! أسرع الدرويش الخطى إلى شيخه، خطى كأنها كتبت عليه، ومن كتبت عليه خطى مشاها.
نظر في عيني شيخه، فصاح الشيخ: أعلم ما يجول بخاطرك، وأردف يرتل "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ"، ثم تحدث همسا: لا تعيب يا ولدي إذا اهتديت على من أضل لأنه أضل، فالهدى والضلال مقدوران، وعليهما أقيمت حياة الإنسان، ومن عبد فقد عبد الله"وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه"، فالكل مسلم جهرة أو خفية، الجميع مؤمن طوعا أو خيفة؛ لون الماء من لون الإناء- الماء واحدٌ يعبد ربًا واحدا، الضال والمهتدي "ولذلك خلقهم".
أبصر الدرويش لوحة ليوناردو والعشاء الأخير للسيد، يُقال إنه قتل في سبيل خطايا العالم؛ فلماذا ضلوا؟ يبدو أن الأمر لم يكن بأيديهم، فهو "يهدي من يشاء"؛ أو لم يُذكر: "كَمَا قَصَدْتُ يَصِيرُ وَكَمَا نَوَيْتُ يَثْبُتُ"، "ولذلك خلقهم".
نظر الدرويش إلى طعامه وشرابه، هاتف نفسه: جسدي سيبذل عقله لينسج وهم اختيار، ودمي سيتلون في معارجه له في جسدي انتشار، سيتلون كالحرباء علني أغالب من يجري فيه ويسلك به؛ لن أولي الأدبار، سأتحرّف لقتال، معركة مع شيطان ينتظر هو مجبور على ذلك مجبول، سأتحيّز لفئة شفعائي من الصالحين، وتحرّفي وتحيّزي بيده لا بيدي "خالق كل شيء"، "وما تعملون"، وكله بقدر "إنا كل شيء خلقناه بقدر"، والسر سينكشف بعد "ثم كلا سوف تعلمون"، وحينئذ سيعلم المتشاكسون "فيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" ألم أقل لا حيلة لي إلا أمل ورجاء واستعاذة "ولذلك خلقهم".
ارتفع صوت الدرويش في مقامات، في رفقة آهات وتأوهات: يا سمع بصري وبصر سمعي، يا تقلب قلبي وقلب تقلبي، وعاقلة عقلي، فُك العقال بفيض العقل الأول، علني أدرك المعنى! الأمر ليس إلا رجاء، الأمر ليس إلا نداء، وحين يحكم القدر فلا حيلة إلا الصبر، والآمال ليست إلا دعاء، أعوذ برب النفوس ومن أرسل الناموس، أن يمنح نفسي ضياء ونورا، وأن يجنّبُني شر كل مستور، ووسوسة خناس يوسوس في الصدور، صراع هو من المهد إلى اللحد "ولذلك خلقهم".