"إله العنف".. هل مات عبدالرحمن السندى مقتولًا؟
صدق والله ابن عطاء الله السكندرى عندما قال: «الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد»، فلا يزال هذا الزمان الذى تعرفت فيه على الشيخ أحمد دعيدر يروح ويغدو معى كأنه سائل لم يستقر ولم يثبت، ولا تزال ذكرى تلك الأيام التى جلست معه فيها ببيته مستقرة فى وجدانى، بحيث كلما زرت فوَّه لشأن من شئون حياتى تدفعنى إلى الوقوف أسفل منزله، أستعيد بهذا المكان ذاك الزمان، فلا المكان تغيَّر مع تحرك الزمان، ولا الزمان ثبت مع ثبوت المكان، وليته ثبت.. فى أحد أيام الجُمع من ذلك الزمن البعيد، كان لقائى الثالث مع الشيخ «دعيدر»، حفيد الشيخ الصوفى داعى الدار، وأقسم بالله العلى العظيم إننى إلى الآن لا أعرف هل الشيخ الذى تقابلت معه فى مدينة فُوَّه هو الحفيد أم أنه الجد، رغم أن الجد مات ودفن بعد منتصف القرن التاسع عشر فى المسجد الذى أخذ اسمه فى فُوَّه، وما جرى هذا الخاطر الغريب فى قلبى، إلا لأننى كنت متيقنًا من أن هذا الشيخ الذى قابلته لا يمكن أن ينتمى إلى زمننا هذا، فهو قطعة بشرية مذهلة جاءت إلينا من دنيا أخرى، أو من بُعد زمانى أو مكانى آخر لا ننتمى نحن إليه.
***
بدأ حديثه قائلًا: كنت تسألنى عن حسن البنا فقلتُ لك اسأل عن الغيمة التى هبط منها لتعرف من هو، أليس كذلك؟
أومأت برأسى علامة الموافقة فقال لى: لا تكلمنى بالإشارات ولكن كلمنى بالعبارات.
قلت: نعم نعم، هذا هو ما قلته لى يا مولانا، ولقد أومأت لك برأسى علامة الموافقة!
فقال: كنت أريد أن أسمع صوتك، فمن صوتك أعرفك.
قلت مستفهمًا: قال لى الأستاذ أبوغالى إنك تقرأ الوجوه.
فقال: من صوتك أعرفك، ومن وجهك أقرؤك، ومن كليهما أستطيع معرفة صدقك، فالكلام الصادق يصل إلى القلوب بلا تكلّف.
قلت: فى بعض الأحيان أسمع أحدهم يتكلم حديث صدق ولكننى لا أصدقه، وأنظر لوجهه ومع جماله إلا أننى لا أحبه.
قال: لأنك تقرأ ما فى قلبك، لا ما فى قلبه، فالمشاعر تخدع الأرواح فلا تجعل مشاعرك تخدعك.
قلت: لم أفهم يا مولانا، اعذرنى.
قال: أحيانًا ينظر أحدهم إلى وجهك فيقول هذا وجه شيطان، وينظر آخر إلى ذات الوجه فيقول هذا وجه ملاك، الأول كان يكرهك قبل أن ينظر إليك، فرأى ما فى قلبه لا ما فى وجهك، والثانى كان يحبك فرآك بعين المحب، ولكن الذى لم يعرفك من قبل، وكان الله قد وهبه الفراسة، ثم نظر إلى وجهك فسيراك على حقيقتك، صادقًا أم كاذبًا، وإذا سمع صوتك فستتأكد قراءته، فإذا تحدثت مع الناس كن صادقًا معهم حتى ولو كان كلامك مؤلمًا، فسيصل صدقك إليهم.
قلت: ولكنه لن يصل إلى من يكرهوننى.
قال: وهل وصل كلام سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى من كانوا يكرهونه على الرغم من أنه كان الصادق الأمين.
قلت: فهمت المعنى واضح.
قال: لذلك يجب أن تُعد نفسك من الآن، فلو جاهرت بنقد الإخوان فسيرونك شيطانًا، ولو دافعت عنهم سيعتبرونك ملاكًا.
قلت: لا يهمنى كيف سيروننى، ما يهمنى هو أن أمارس قناعاتى، ولكن يا مولانا ما الغيمة التى هبط منها حسن البنا؟ قرية شمشيرة محافظة كفر الشيخ، أم تقصد المحمودية، أم أنك تُرجع البصر بعيدًا حيث المغرب الذى يقال إنه جاء منه، أم أنه كان بالفعل يهودى الأصل كما قال عباس العقاد؟
أخذ الشيخ نفسًا عميقًا، ثم قال: لا، المسألة أبعد من ذلك.
اعترانى العجب فقلت: أبعد! كيف أبعد؟!
قال بصوت مرتعش: أبعد مما تصور، وأقرب مما تظن.
نظرت إليه وهو يقول تلك الكلمات، فوجدت وجهه قد اعتراه حزن عميق، وتخيلت أن هذا الصوت المرتعش لم يصدر من فمه، وإنما صدر من فم الزمن الموغل فى القِدَم، ولا أعرف لماذا اعترانى الخوف وأنا أسمع الشيخ، خاصة أنه بدأ الكلام وهو مغمض العينين كأنه يريد أن يطرد صورة مفزعة داهمته.
ما هذا الحزن الذى خرج من أعماق الشيخ أحمد دعيدر، هل كان يأسى على حاله أم يأسى على أحوالنا، ولكن كانت أولى كلماته لى فى هذا اليوم المشحون هى: أظنه سقراط الذى قال قديمًا: «علىّ أن أتبع الدليل إلى حيث يقودنى».
تعجبت من إلمام هذا الترزى البسيط بالفلسفة والفلاسفة وأقوالهم، وبدت الدهشة على وجهى إلا أنه استرسل: منهج سقراط يجب أن يكون منهجك، فأنت محامٍ، والمحامى يتبع الدليل دائمًا، فيأخذ به ويصل إلى النتيجة التى يؤدى إليها أو ينقضه فلا يصل إلى أى نتيجة وتظل الحقيقة معلقة فى منطقة مخفية لا يراها أحد، أو أن يصل من خلال نقضه هذا إلى جزء من الحقيقة، وعلى من يأتى بعده أن يبحث عن الجزء الآخر من الحقيقة.
قلت للشيخ: وما الحقيقة؟
قال: يا سيدنا الأستاذ ليست المشكلة فى الحقيقة، ولكن المشكلة فى كيفية العثور عليها، فإذا عثرت على الحقيقة، فستفهمها على الفور فهى بسيطة ومنطقية.
قلت: وما بداية البحث لكى نعثر عليها؟
قال: أولًا يجب أن تعرف أنه لا توجد عائلة اسمها عائلة «البنا» فى قرية شمشيرة التى قال حسن البنا إنها بلدهم الأصلية ثم منها ذهبوا إلى المحمودية.
خطر على بالى أن هذا الأمر لا يدخل حتى فى باب القرائن، فمن الممكن أن يكون لعائلتهم لقب آخر، فقلت له: لعله من عائلة اسمها الساعاتى؟
قال: يا أستاذ لقب الساعاتى ارتبط بوالد حسن البنا «أحمد عبدالرحمن الساعاتى»، حسب أنه قال، وهو يروى سيرته إنه تعلم صنعة الساعات بسبب عمله فى الإسكندرية وهو فى مقتبل الشباب فى محل أحد الساعاتية اسمه الحاج محمد سلطان، ولذلك وفقًا لقوله فإنه لم يكن لقبًا للعائلة، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا توجد عائلة فى شمشيرة اسمها عائلة الساعاتى، ثم قل لى لماذا يترك أحمد عبدالرحمن لقب عائلته ويصنع لقبًا يتفرد به وحده؟ ألا يثير هذا الأمر ريبة فى صدرك؟.
قلت: لعل عائلته هى «البنا» وليس بالضرورة أن تكون من شمشيرة، ولكن يُحتمل أن تكون من مدينة فوَّه نفسها.
قال: لم يقل حسن البنا ولا والده ذلك أبدًا، ومع ذلك يا سيدنا الأستاذ لك أن تبحث بنفسك، فإذا بحثت وبذلت كل إمكانياتك فى البحث، ستعرف أنه لا توجد فى فوّه عائلة تُسمى «البنا»، وإذا أعياك البحث ستصل إلى قرية اسمها قرية «الطايفة» تابعة لمركز كفر الشيخ وليس مركز فوَّه بها عائلة اسمها عائلة البنا.. ثم أردف قائلًا: وكنت فى شبابى أحيك الجلابيب لبعض كبار هذه العائلة من جيل أحمد عبدالرحمن والد حسن البنا، وعندما سألتهم: هل توجد صلة بينهم وبين عائلة حسن البنا؟ قالوا لى إنهم لا يعرفون هذا البنَّاوى ولم يكن بينهم نسب أو مصاهرة أو حتى معرفة.
قاطعته: ولكن أين جد حسن البنا، أليس اسم جده عبدالرحمن؟!
قال: لا توجد أوراق رسمية فى أى جهة حكومية تدل على شجرة تلك العائلة، وهذه من الأمور التى يجب أن تفكر فيها بجدية، فمعظم الناس فى بلادنا يعرفون سلسلة الآباء والأجداد إلى سابع جد، ولا تنقطع تلك السلسلة إلا إذا كان الجد قد جاء من بلد بعيد هاربًا من الثأر، لذلك يخفى نسبه ليلوذ بالفرار من أصحاب الثأر، أو أن يكون قد غيَّر دينه وأصبح مسلمًا، فهرب من عائلته ليجنبها فضيحة تغيير دينه، أو أن تكون هناك مشكلة كبيرة دفعته إلى إخفاء نسبه، أو دفعه لذلك أمر يريده أن يظل مخفيًا عن الدنيا.
قلت: ولكن والد حسن البنا يقول إن والده كان يعمل بالزراعة فى قرية شمشيرة، وإنه كان يمتلك بضعة أفدنة.
قال: يا بُنَى لا شك أن أصلك ينتهى إلى قرية من قرى مصر أليس كذلك؟
قلت: نعم.
قال: ألست تعرف شجرة عائلتك إلى سابع جد؟
قلت: بل إلى تاسع أو عاشر جد.
قال: وأين مقابركم؟
قلت: فى البلد.
قال: ومتى شُيدت هذه المقابر؟
قلت: منذ مئات السنين، وفيها جثامين الأجداد وأجداد الأجداد.
قال: يرتبط الإنسان المصرى يا بُنَى بالمقابر التى دفن فيها والده وأجداده، ولا ينفك عنها أبدًا، ويظل فى كل الأحوال زائرًا لها داعيًا لهم، بل إنه يجعلهم يشاركونه فى الأعياد.
لاذ الشيخ بالصمت قليلًا فقلت له: ثم ماذا يا مولانا؟.
قال: ليس لحسن البنا ولا لوالده أى مقابر فى شمشيرة وهى القرية التى جاءوا منها! كما أنهم لم تكن لهم مقابر فى المحمودية التى رحلوا إليها، بما يعنى أنهم لم يخططوا للبقاء فيها، وإلا لشيدوا لهم فيها مقابر، ولذلك عندما قُتِل حسن البنا دُفن فى مقبرة اشتروها على عجالة فى مدافن الإمام الشافعى، ثم دُفن والد حسن البنا فى ذات المقبرة بجوار ابنه، وكل من مات من أشقاء حسن البنا تم دفنه فى مقبرتهم بالإمام الشافعى أو بالمقبرة الأخرى التى اشتروها فى السيدة عائشة، ولم تذهب جثامينهم أبدًا للمحمودية أو لشمشيرة، ألا يثير هذا عندك بعض التساؤلات؟!
***
هل كنت أبحث عن أصل حسن البنا أم كنت أبحث عن الله سبحانه وتعالى، وفى كل مرة كنت أتقدم فيها خطوة فى البحث عن «غوامض» حسن البنا، كنت أتقدم خطوات فى معرفة الله، وقد جهلنا أصل حسن البنا لآفة فى أبصارنا وبصائرنا، وجهلنا اللهَ لآفة فى قلوبنا وأفئدتنا، فإن عالجنا أبصارنا وبصائرنا عرفنا حقيقة البنا، وإن عالجنا قلوبنا وأفئدتنا رأينا الله الذى لا يغيب عنا أبدًا، وحينما نراه سنعرفه، وإذا عرفناه أحببناه، فهو لم يغب عنا لنجهله، ويده لم تُرفع عنا فنبحث عنه، ولكننا نحن الذين وضعنا الحجب فأصبحنا لا نراه، ورؤية الله لا تكون أبدًا بخاصية البصر، فهو القائل «لا تدركه الأبصار» ولكن البشر يدركون بالبصر باقى البشر، ويدركون خبايا البشر وخفاياهم بالعقل عندما يرون آثارهم وأفعالهم، والعقل هو مركز الاستدلال، وبالاستدلال نستطيع معرفة شىء خفى من خلال علامة ظاهرة تدل عليه، وقد يكون هذا الخفى قد غاب عنا بسبب طبيعته الغيبية، ولكن علاماته ظاهرة تدركها العقول، وقد يكون خفيًا لأن صاحبه أخفاه عنا، ولكن مقدماته ترشدنا إلى خبيئته، فندركه عندما نفتح تلك الخبيئة، والشاعر أحمد رامى يقول: «الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شئونه». فنظرة العين تفضح ما كان مستورًا فى القلب.
عندما بدأت أبحث عن أصل حسن البنا كنت أعرف كل ما قاله المؤرخون عنه، سواء كانوا من الإخوان أو من غيرهم، ولكننى لم أكن أعرف الذى لم يقولوه، لذلك كانت مهمتى شاقة وطريقى محفوفًا بالمخاطر، ولكن ما الذى حرَّكنى وأثار هواجسى وقتها؟ قد يكون ما سمعته من الأستاذ أحمد أبوغالى فى بداية التقائى به، هو الذى دفعنى إلى إعمال التفكير النقدى بعد أن كنت أُعمِل التفكير المشاعرى، ومع التفكير المنطقى وجدت أشياءً ظاهرة، إلا أن أسبابها كانت مخفية، ولم أكن قد انتبهت لها، فإنك إذا أحببت عَمِيت، وكان من هذه الأشياء حقيقة أن حسن البنا «لم يستكمل تعليمه فى كلية دار العلوم»، ولكنه توقف عند شهادة «تجهيزية دار العلوم»، وهى شهادة فوق متوسطة تتيح لصاحبها أن يقوم بتدريس الخط العربى أو الدين لصفوف المدارس الأولية، دون أن يحق له تدريس علوم اللغة العربية للمدارس العليا، فكان السؤال: لماذا اكتفى حسن البنا بشهادة التجهيزية، ولم يستكمل كليته مع أنه كان من المتفوقين دراسيًا؟!، كما أنه لم يكن فقيرًا بحيث يضطر إلى قطع تعليمه للإنفاق على نفسه أو على أسرته مثلًا؟!
وكان السؤال الثانى هو: لماذا ذهب حسن البنا بعد تخرجه فى التجهيزية للتدريس فى مدينة الإسماعيلية دون غيرها من المدن رغم أنه كان صاحب الحق فى اختيار المدينة التى سيعمل بها لأنه كان من أوائل دفعة التجهيزية؟! وكان من الأَوْلى أن يقوم بالتدريس فى القاهرة، حيث استقر سكن أهله، أو البحيرة حيث الإقليم الذى جاء منه، أو كفر الشيخ حيث منبت عائلته قبل توجهها للمحمودية، أو طنطا أو الإسكندرية، حيث علماء الدين والمعاهد الدينية وقُرَّاء القرآن، والطرق الصوفية التى كانت السلم الذى صعد منه إلى العمل الحركى التنظيمى.
ثم لماذا أقام فى بداية نزوله بالإسماعيلية فى بنسيون تمتلكه امرأة إنجليزية يهودية؟ ولماذا وافق على أن يأخذ مبلغ تأسيس جماعته من شركة قناة السويس وإدارتها الاستعمارية؟ ولماذا أنشأ تنظيمًا سريًا يحترف القتل والتفجير؟ ولماذا لم يقم من أعمال التنظيم السرى قتل ولو جندى إنجليزى واحد؟ ولماذا تزلف للملك فؤاد ثم للملك فاروق؟ ولماذا ولماذا ولماذا؟ وعلى الرغم من أن هذه الأسئلة كانت لها إجاباتها «جاهزة التعليب» عند الإخوان، فإن إجاباتهم لم تكن منطقية، ويا أسفاه عندما أخذ بها معظم المؤرخين والمحللين من غير الإخوان دون أن يقسطوها حقها فى البحث إيرادًا لها أو ردًا عليها! وحينما دخلت إلى سرداب من سراديب المعبد، إذا به يقودنى إلى دنيا أخرى لم يدخلها إلا كهنة هذا المعبد وخزنته، دخلوها بعد أن شيَّد آباؤهم أعمدتها وأركانها، ووضعوا فى أقبيتها وخزائنها علومهم وأسرارهم، فأصبح هؤلاء الكهنة هم المستحفظين على هذه العلوم والأسرار والمستأمنين عليها، لا يسمحون لأحد بمعرفتها والاطلاع على دخائلها وبواطنها، إلا إذا كانت رتبته تسمح له بذلك، وقد دخلت إلى هذا العالم السرى الرهيب، محمولًا على أكتاف رجلين شاء الله العلى العليم أن يقع بين أيديهما بعض هذه الخفايا والبواطن، ولكن هذا البعض من الخبايا كان كنور القنديل الخافت الذى بدد الظلام عن جزء من ذلك المعبد السرى، ولكنه أيضًا أبان عن بُعد، ملامح أسرار لم يكن قد رآها أحد من خارج المعبد، ولا أخالنى مغاليًا إذا قلت إن المعبد نفسه لم يكن مرئيًا لأحد.
فقد أخفاه الإخوان خلف ألواح زجاجية عملاقة إذا نظرنا إليها رأينا أنفسنا فظننا أنهم نحن، ونحن هُم، وحين بدد نورُ القنديل الشاحب الظلامَ عن الجزء استطعت أن أرى بعين قلبى الكل.
وفى هذا اليوم الرهيب البعيد الذى يعيش فى قلبى، أو قل إننى ما زلت أعيش فى قلبه، كان الأستاذ أحمد أبوغالى يحدثنى فيه عن عبدالرحمن السندى وصلته بعبدالحكيم عامر، ودور الوزيرة حكمت أبوزيد، والوزير فيما بعد عبدالعزيز كامل فى توصيل السندى بعبدالناصر، ليكشف له مؤامرة الإخوان التى حبكوها وأعدُّوها لاغتياله، وما حدث بعد ذلك من إفساد تلك المؤامرة، وهلم جرّا إلى أن بدأنا الحديث عن مقتل عبدالرحمن السندى، نعم مقتل السندى، فالشائع أنه مات مريضًا، ولكن الحقيقة كانت على غير ذلك، وقبل أن يتكلم الأستاذ إذا بجرس الباب يدق، فقام الأستاذ ليفتح الباب للطارق، ثم عاد بعد هنيهة وهو يصطحب «عم شعبان» تابع الشيخ أحمد دعيدر، وبعد التحية والسلام جلس عم شعبان على الأرض، ويبدو أن هذه عادته عندما كان يأتى زائرًا للأستاذ، وبعد أن أخذ تحيته سلَّم الأستاذ خطابًا تفوح منه رائحة العنبر أرسله له الشيخ دعيدر فوضعه الأستاذ جانبًا، وهو يشكر عم شعبان الذى قام مستأذنًا فأذن له الأستاذ وودعه.
تعجبت من أن الأستاذ لم يفتح الخطاب ليقرأه، إذ قد يكون الشيخ دعيدر يحتاج ردًا يحمله له تابعه، فقلت للأستاذ: ألا ينتظر الشيخ دعيدر ردًا من حضرتك؟
قال: لا، لو احتاج الرد لقال لى شعبان ذلك، ولكنه عندما يسلمنى الخطاب ويسكت أعرف أنه يحمل لى تكليفًا، عمومًا كنا قد توقفنا عند رغبتك فى معرفة كيف قُتِلَ عبدالرحمن السندى ومن الذى قتله؟.
قلت وأنا أومئ برأسى: نعم يا سيدى.
قال: رياض محمود الخرَّاط.
لم أكن قد سمعت هذا الاسم من قبل، ولكننى كنت أعرف أن عائلة الخراط أصلها من لبنان، وأن نصفها مسيحيون ونصفها الآخر مسلمون، كما أنَّ للخراط عائلة فى مصر منهم الروائى الكبير إدوارد الخراط، ولكن من هو رياض هذا؟: هكذا سألت الأستاذ، فقال: رياض محمود الخرَّاط جاء إلى مصر من دمشق، وهو فى بطن أمه عام 1925، وكانت أمه قد هربت بحملها المستكن فى بطنها من دمشق إلى القاهرة وقت الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر الفرنسى عام 1925، وكان قائد هذه الثورة هو سلطان باشا الأطرش، ويبدو أن ثورة 1919 المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى حركت كوامن الثورة فى سوريا والتى اندلعت عام 1925 وفى هذه الثورة قُتل محمود الخراط وهو أحد الذين شاركوا فى الثورة، فهربت زوجته وجاءت إلى مصر تبحث عن الأمان لنفسها ولوليدها الذى لم يكن قد جاء إلى الدنيا بعد.
قلت متشوقًا: وماذا فعلت فى مصر؟ هل كانت على صلة بأحد؟
قال: تواصلت مع يهودى يعيش فى مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر، وكان يسكن فى حارة اليهود.
جزء من كتاب سر المعبد «الجزء الثاني» الذي يصدر في معرض الكتاب 2019