بعد فوزها بجائزة «حلمى سالم» الشاعرة رضا أحمد تفكك آليات الاغتراب والوحدة بالشعر (حوار)
للشاعرة رضا أحمد حالات مغايرة في قصيدة النثر كونها تنهل في الغالب من وعاء ذاتى وإنساني يناطح مفاهيم الشعر في بماهيتها النفاذ لمساحات من التهشيم والمراوغة الفنية.
رضا أحمد حصلت منذ شهور قليلة على جائزة “حلمى سالم” لتؤكد جدارة استحقاق يتوائم مع عوالمها التي تنفذ الروح والدم وما تحت المحجوب في السياسي والاجتماعي والمعيشي طارحة إياها في لغة طازجة دوما ومفعمة بالجنوح نحو الحرية والخلاص وليس نشوة التمتع بالشعر رضا أحمد كتب عنها الكثير من المقالات النقدية كصوت يغرد خارج السرب، فكان دكتور شاكر عبد الحميد يعتبر قصائدها صوت صارخ في البرية. للشاعرة دواوين ثلاثة هم: ما ليس آذار، الاعتراف خطأ شائع وقبلات مستعارة.
الدستور التقت الشاعرة فكان الحوار التالي:
في قصيدة النثر لماذا كل هذه الوحشة والاغتراب والصوت الفردي رغم تعدد الأصوات من قبل طارح الشعر؟
ليست صدفة أن تهيمن الوحشة والاغتراب والعزلة على قصيدة النثر ربما نعزي هذا إلى الاختلاف ومغايرة السائد فيما تتناوله شكلا وموضوعا، فهي قصيدة ثورية على الواقع بكل ما يحوزه من مآسي ومنجزات ومتمردة على شكلانية القصيدة التقليدية واطروحاتها برؤى جديدة في سياقات جمالية تؤثر التفاصيل اليومية المهمشة، وتعطي للمكان والزمان رؤى متعددة، بالإضافة إلى ذلك المأزق الوجودي الذي يعيشه الإنسان المعاصر بما صاحبه من إشكاليات ثقافية ومعرفية وتحولات اجتماعية واقتصادية ومراجعات فكرية تلقي ظلالها على الشاعر الذي يواجه غربة التلقي في بيئة تجرد قصيدة النثر من شاعريتها وصفتها الأدبية والموروث الذي يعاديها بقولبة جامدة من ناحية وخطاب شعري زاعق يهمش الذاكرة الفردية وتجلياتها لصالح الوعي الجماعي المهزوم بالقضايا الكبرى في القصيدة التقليدية، الأمر هنا يشبه أن تبحر بلا ألوانك الزاهية خلال موجة مختطفة في دورق، وتدع خوفك يخبرها عن زرقة البيت الذي لفظك وقسوته، لن يجلب لك هذا مواساة، لكن سيخنق الموجة بتلك الذاكرة وما أقسى صوت البحر في البعيد.
عن الذات القلقة والعارية إلا من الخوف والتي تشكل عالمك ومتون شعرك/ ما هو مدى دور الآخر الواقعي في منتجك الشعري؟
أعرف أن الخوف لن يفارقني فهذا حال من يملك حواسا تحيل كافة مدخراتها إلى نمط متغير، منكسر وقلق لا ترضيه الأجوبة السهلة ويتطلع إلى ندف السراب كأنها جوهرة تاجه المفقودة، غير إنه يخشى أن يمضي بأسئلته في صحراء حياته بلا رفقة يستأنس بظلها أو آخر يعيره وجهه الشاحب وحجة غيابه المضطربة، الآخر غير معني بمخاوفي لأنه يراكم احباطات في نسخ كربونية عن الماضي لأن الواقع أسوأ من يقتني التجارب ويهشمها كأنها ألعاب رخيصة وليس حيوات يائسة ومباركة وأنا اقرأ المستقبل من جهاته كلها بلا أحداث منطقية تفسر وجوده لأشارك مهامه في صنع ملهاة تخلده، لست اتنبأ بحدوث شيء لكني أفترض أن الواقع هادئ بما يكفي لتدليله ورسم مجموعة من الغيبيات على وجهه في نزهة مرهقة إلى داخل كوابيس الآخرين.
عن الإيروتيك المغلف بعري الروح وقيمة الجسد كيف كان الدور لركامك الثقافي والمعرفي في بلورة تلك الرؤية الغريبة نسبيا ونوعيا وسط مجايليه؟
القصيدة كما في الحياة، لا تستطيع أن تخترع جسدامن ملصقات الدعاية أو أحلامك عن الأمان والرغبات أو تستدعيه ليكون لعبتك في عرض، أنت تختار الأنسجة والمشاعر اللازمة لبنائه من خبراتك وتراثه الثقافي كما تبدي معرفتك بالتفاصيل الصغيرة التي تخدم الأمراض والمخاوف في هدمه، هذا الجسد له كينونته وهويته وملغز بالغواية، أحاول في قصائد أنسنة المشاعر المضطربة وإحالتها إلى سياقات جمالية لتخرج مثيرة للدهشة أو الأسئلة وطرح مواضيع وإشكاليات تفتح نوافذ مضيئة في وعي المتلقي، الايروتيك ليس مجرد جرأة في التعبير ومجانية في العرض؛ على القصيدة أن تحتفي باللذة في استشراف لغة الجسد وفلسفته، وتكون ماكرة تكشف عن مهارة البناء الشعري والتوظيف الرمزي والدلالي وتجسيد الفكرة يحتاج مستوى متقدم من الوعي الفني والرؤوي قد يتحول هذا عند البعض إلى ميوعة وخفة لمجرد حب الظهور ولفت الانتباه الذي نتج عن الكبت والتكتم المجتمعي، ولا أحد يستطيع أن ينكر دور الوصاية القيمية والسلطة الدينية في تقيد هذه الكتابات بل في بعض الأحيان تأثيم أصحابها، أنا هنا لا ألوم الآخرين كلنا حر في رؤيته وذائقته واحترم مساحة الجميع في التعبير بالشكل الذي يحبه ويرضيه.
الشاعرة رضا أحمد وأربعة دواوين وحفر في أنفاق معتمة تخص الوجود والعدم مع الاحتفاء بالحياة وقداسة العشق - كيف ترى تجارب مجايليها شعريا؟
أعتقد أن جميع الشعراء استفادوا من منجزات سابقيهم بالإضافة إلى التغيير الجذري في البنية العقلية والفكرية نتيجة ثورة الاتصالات التي قضت على نخبوية الشعر ومركزية الكتابة والتلقي وصاحبها زيادة في عدد الشاعرات قياسا على الماضي وهذا له أثره البالغ على نوعية الكتابة وأطروحاته، لدينا تجارب معاصرة مميزة مختلفة ومتنوعة تكتب نصا إنسانيا يخصها بقاموسه اللغوي وهمومهم الحياتية حيث تخلى الشاعر عن فكرة النبوة والتحدث باسم الجماعة ونظر إلى تفاصيل ذاته ويومه والتركيز على الهوية الفردية والشخصية وتجاوز فكرة الشاعر النجم وألف الجيل أو شاعر الغرض الواحد والرومانسية اللزجة أو الخطاب السياسي المجاني، رغم أنني لا أحبذ فكرة المجايلة في المتغيرات الفكرية والاجتماعية والتحديات العالمية التي تطرأ على المجتمع واحدة وتفكك انتهازية قيد الشعراء في مغلفات زمنية أو أيديولوجية، التفرقة هنا تكون حسب المستوى الثقافي والخلفيات المعرفية ومستوى الموهبة والأدوات التي يملكها الشاعر، تتصدر قصيدة النثر المشهد الشعري الحالي وهناك عناوين لمشاريع بارزة تعيد ترتيب خريطة الشعر باستمرار وهذا يعطي بعض الأمل رغم انها تفتقد اهتماما نقديا كما هو الحال دائما.
عن الجوائز وفوزك بجائزة عفيفي مطر.. حدثينا عن ثمة جوامع أو هموم وجودية أو فنية كانت سببا في وجود ظلال لشبحية القصائد تواجد في بعض أعمال مطر؟
يعد الشاعر عفيفي صوتا مميزا في مسيرة الشاعرية العربية فقد استمدت تجربته من الأرض رؤى سحرية لعوالم القرية وأساطيرها وقيمها وضميرها الجمعي فضلا عن معرفته بالأديان والحضارات القديمة ودراسته للفلسفة، وتعمقه في التصوف والتراث العربي والفنون التشكيلية بمدارسها المختلفة وجماليات الموسيقى ومقاماتها كل هذه المرجعيات المتعددة وكذلك خبرته في الحياة أضفت على تجربته خصوصية وذخيرة معرفية عميقة استطاع أن يطوع هذه العناصر لخدمة مشروعه الشعري وتدفقت خلال لغته المكثفة وصوره المركبة التي أضافت المخيلة الشعرية العربية قصيدة متنبئة وموحية تضج بالحزن والألم والكوابيس، غموضها شفيف يبعث على التفكير والتدبر في عصف ذهني متعدد التأويلات، تتشابك في الواقع وتفكك عناصر الكون لتنتصر للإنسان،لقد كانأبهى احتفالية للهامش الذي يتمرد على المعتاد والمتوارث ويطرح الأسئلة في تجريب مستمر.
حدثينا إذن عن بداياتك مع الشعر.. كيف كانت وما هي أهم المؤثرات الحسية والمعرفية التي شكلت وطورت رؤيتك؟
ربما لأنني تأنيت طويلا في الاعتراف بأنني أكتب الشعر أثره الأكبر في تجربتي، الزمن أفضل معلم حين تناوره وتهادنه مهما قدم لك العطايا بأنك تحتاج المزيد من الوقت لتقبلها، هذا ما حدث معي وربما ساهم في اعطائي فرصة لأقرأ كثيرا قبل أن أتجرأ وأذيل قصيدة باسمي، بداية كتاباتي كانت في الثانوية العامة وللغرابة لم تتأثر بالشعر العمودي رغم أننا لا ندرس غيره وقراءاتي في الأدب كانت بعيدة عن الشعر ولم أكن أعرف أحدا يهتم بالأدب أو أحضر أي ملتقيات ولم تكن شبكة المعلومات متاحةكما الآن، وأول قناعاتي بقصائدي كانت بعد15 عام، كل هذا الوقت كنت أسمع في الخلفية موسيقىوأكتب ببساطة حتى ديواني الأول انتقيت قصائده من بين مئات المحاولات، ربما لأنني نشأت في القاهرة كانت أسئلتي مختلفة ولم أحمل رؤية غريب في المدينة أو أثقل القصيدة بحنين إلى طبيعية بعيدة، فأنا أعيش مدينتي وأعرف براءتها القاسية وبؤسها الهش، أعتقد أنني تأثرت بجمال الشعر ودفء الموسيقى ودقة ورهافة الرسم بالطبع لأنني اعتقدت أنه موهبتي الوحيدة لوقت طويل، أحببت قصيدة النثر وشاعريتها التي تناسب شخصيتي وبيئتي لأنني لم أكن أستسيغ القصائد التقليدية لأسباب كثيرة منها غربتها عن مدينتي بإيقاعها السريع والشارع الذي أسكنه والزمن الذي أعيشه.
ما هو الخلاص الذي يحلم به الشاعر وقد تحققت بعض من أحلامه في قصائده، فهل يمثل هذا نشوة للشاعر أو الشاعرة وما هو مفهومك للخلاص؟
من أنا إلا خطاي، من أنا إلا طريقي ووجهتي ومراياي؟ يقول الشعر إن للأشياء حكايتها تحت الندوب ويبدأ الشاعر في الحفر والتنظيف وتلطيف الوجع بمرطبات ويغسل يده حين ينتهي ولا يهتم للجرح المفتوح، يخبر الجميع إنه وجد خلاصه في معرفة أصل الألم واقتلع المرض ونزع فكرة الدموع من أساسها، هذا جيد لكنه ليس خلاصي، الخطر مازال موجودا والجسد عرضة لكل أنواع الأذى.