«سلطان المداحين».. زيارة جديدة إلى عالم الشيخ أحمد التوني
«رنّيت يا كاس، قل لى على سبب رنّك».. جاءته السيدة زينب رضى الله عنها فى المنام، حينما كان طفلًا، روت عطشه بماء موضوع فى كأس، فاستبشر مداح النبى، المنشد الراحل أحمد التونى، وسخر حياته لآل بيت النبى محمد، خاصة السيدة زينب، التى أحبها وجاورها ومدح فضائلها، حتى لقبه المحبون بـ«مجذوب السيدة»، قبل أن يلقب بعد ذلك بـ«ساقى الأرواح» و«سلطان المداحين».
الشيخ أحمد التوني
ورغم أنه كان ينشد أشعارًا معروفة لكبار أئمة التصوف، مثل «ابن الفارض والحلاج وأبوالعزايم»، بصحبة فرقة موسيقية بسيطة، استطاع بـ«صدق ورقة» أن ينقل فن الإنشاد من المحلية إلى العالمية.. كان يقف وسط الأجانب واثقًا، ويضرب كأسه بمسبحته، ويلقى سحره.
«الدستور» التقت أسرة الشيخ الراحل، بقرية «الحواتكة» بمركز منفلوط بمحافظة أسيوط، وعرفت منها الكثير عن نشأة المداح الذى وصلت شهرته إلى دول كثيرة.
والدته توفيت بعد 40 يومًا من ولادته.. الأب عطوف محب للقرآن.. و«بيت الجد» صاحب التأثير الكبير فى حياته
ولد الشيخ أحمد التونى يوم الأحد ٢١ يناير ١٩٣٤، فى قرية «المشايعة» التابعة لمركز الغنايم بمحافظة أسيوط، وتوفيت والدته بعد ٤٠ يومًا من الولادة، وعاش مع والده الشيخ «تونى سليمان»، الذى كان مشهورًا بتلاوة القرآن، وتولت خالته رعايته، وكان الطفل يحب الاستماع إلى والده وتعلم منه قراءة القرآن وأحكام التجويد.
حرص الأب على أن يستمع ابنه للشيخين العظيمين محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، عبر الراديو الوحيد فى القرية الذى يمتلكه العمدة «عبدالهادى»، فقد كان أهالى القرية يسهرون فى دوار العمدة للاستماع للقرآن والذكر.
عشق الطفل صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، ولم يكتف بالاستماع له وتقليده، بل طلب من والده أن يرى الشيخ.
كان طلب الطفل صعبًا، لأن الشيخ مصطفى إسماعيل كان يقدم حفلات فى شمال مصر، لكن الأب حرص على أن يحقق أمنية الابن اليتيم، الذى لم يكمل الـ٩ سنوات حينها.
سافر الأب بصحبة ابنه، فى قطار انطلق من مركز أبوتيج للقاهرة، وظل الأب يبحث عن الشيخ مصطفى إسماعيل لمدة ٤٠ يومًا، حتى علم أن الشيخ سيحيى حفلًا بجوار مسجد السيدة زينب.
ذهب الأب إلى الحفل، وغاص بصحبة ابنه فى الزحام حتى وصل عند الشيخ، كان الطفل ينظر بانبهار، ويقلد الشيخ، ويحاول أن يجعل صوته عاليًا، حتى لاحظ الشيخ وجوده، وابتسم له، وهنا أحس «التونى الصغير» بأنه وجد طريقه فى الدنيا.
عاد الطفل إلى قريته، وأصبح بعد فترة قصيرة قادرًا على تقليد الشيخ مصطفى إسماعيل بشكل مدهش، كان يقلد الصوت والحركات، ولاحظ أهالى القرية موهبة الطفل، ووصل الأمر إلى العمدة، وطلب من الأب أن يحضر ابنه لقراءة القرآن فى الدوار بشكل دورى، وكان أهل القرية يجتمعون حول الطفل، وكان عددهم يزداد فى كل يوم.
بعدما كان الطفل ينتهى من قراءة القرآن، كان يستمع إلى الراديو مع بقية أهالى القرية، وفى يوم ما استمع، لأول مرة فى حياته، لصوت السيدة أم كلثوم، فأحبها جدًا، واعتبرها أيقونة مثل الشيخ مصطفى إسماعيل.
لاحظ العمدة أن الطفل قادر على حفظ أى أغنية أو قصيدة بمجرد الاستماع لها، ولا يتوقف الأمر عند حفظ الكلمات، بل كان يحفظ الألحان كذلك، لذا طلب العمدة من الطفل أن يغنى لأم كلثوم، فغنى «التونى الصغير»، وأدهش الجميع.
كان العمدة يشعر بأنه يحقق استفادة كبيرة، فسوف يستمع إلى أم كلثوم مرة فى الراديو، ثم سيسمع أغنياتها كل يوم بصوت الطفل.
لم يخبر الطفل والده بأنه يغنى فى دوار العمدة، لأنه كان يدرك أن الأب سيغضب بشدة، لأنه يريد أن يصير ابنه قارئًا للقرآن.. لا مطربًا.
توفى الأب حينما كانت سن «التونى الصغير» ١٠ سنوات، وأوصى بأن يعيش الطفل مع أقاربه فى قرية «الحواتكة»، القريبة من «المشايعة»، ورفض ذهاب الطفل إلى الأقارب فى قنا، خوفًا عليه من السفر، رغم أن عدد أفراد الأسرة فى قنا كبير جدًا، فنسب الطفل يصل لعائلة «آل الشيخ»، وجده الأكبر هو الشيخ «عبدالحق»، من أولياء الله الصالحين، ويقام له مولد بمركز نقادة كل عام.
وبالفعل وصل الطفل إلى قرية الحواتكة، ليبدأ فصل جديد من حياته، فى بيت جدة الشيخ «عبدالسلام».
«دكة الشبيتى» تخطف الطفل والبداية من «مولد الفرغل»
أوصى الوالد ابنه قبل أن يموت بأن يذهب إلى صديقه «الحاج مرسال»، حينما ينتقل إلى «الحواتكة»، وكان صديق الأب يحب الإنشاد ويذهب بشكل دورى إلى الموالد، وهذا من حسن حظ الطفل، الذى وجد فرصة ليعيش كما يريد.
كان أول مولد يحضره الطفل بجوار الحاج مرسال هو مولد الإمام الفرغل، وكانت سن «التونى» آنذاك ١١ عامًا.
وكانت الرحلة الثانية هى المفاجأة، فقد علم الطفل أنه سيزور السيدة زينب، محبوبته، مرة أخرى، وبمجرد وصوله إلى المولد، طلب الصغير من صديق والده أن يرى المداحين، فخاف عليه الصديق من أن يتوه، فأصر الطفل، فوعده الشيخ مرسال بأن يصطحبه فى نهاية اليوم ليرى الشيخ «الشبيتى»، وكان من أشهر المنشدين فى ذلك الوقت.
كان الشيخ «الشبيتى» يغنى أنشودة «حليمة السعدية»، وهى الأنشودة التى اشتهر بها «التونى» فيما بعد، وكان لـ«الشبيتى» صوت رنان وقوى وله طريقته، خاصة فى المديح، تسمى «الدكة»، إذ كان يجلس ويلتف حوله أعضاء الفرقة، ويرددون ما يقول، دون إيقاع، وكان ذلك فى عام ١٩٤٥.
وكان الشيخ «الشبيتى» هو من يؤلف كلمات أناشيده، ومن أشهر قصائده: «الثعبان والغزالة» و«حليمة السعدية» و«الغنامى».
بعدها أراد الصغير أن يكون فى مثل شهرة «الشبيتى»، فاتخذه مثلًا أعلى، وحفظ كل كلماته وألحانه وحركاته، وفى العام التالى ذهب إلى مولد الفرغل، وجلس تحت أقدام «الشبيتى»، وأخذ يردد مع فرقته.
كان الشيخ «الشبيتى» كفيفًا، فسأل عن مصدر الصوت، وعرف أنه طفل سنه ١٢ عامًا، فطلب من الطفل أن يرافقه فى جميع حفلاته.. لذلك يعتبر الشيخ «محمد الشبيتى» الأستاذ الأول للشيخ «أحمد التونى»، وعملا معًا حتى عام ١٩٥٢.
صدفة أمام باب الحسين تقوده للشهرة.. والفضل لـ«السيدة زينب»
حينما أكمل ١٨ عامًا، كان يزور مسجد السيدة زينب، ونام بجانب السور، فرآها تعطيه كأسًا من الماء، مكتوبًا عليها «الكريمة»، واقتربت منه وسقته.. استيقظ وشعر براحة ويقين.
منذ تلك اللحظة، أصبح يمسك بالكأس فى كل حفل له، وكان يردد «أدركينا يا سيدة زينب يا كريمة»، واعتبر أن رؤيته للسيدة زينب إشارة على أنه سينجح وسيحقق حلمه، وحينما كان يشعر بالقلق أو اليأس كان يتذكر الكأس، ويقول «أدركينا يا سيدة زينب».
أقام الشيخ التونى بجوار السيدة زينب لسنوات، وكان يجلس على الرصيف ويمدح بصوت خافت، حتى أطلق عليه الناس «مجذوب السيدة زينب».
وحين بلغ ٢٦ عامًا، توفى الشيخ «الشبيتى»، وفى مولد الفرغل جاءت الدعوة لـ«سلطان المداحين»، وهو اللقب الذى ورثه عن شيخه، وتميز «التونى» فى هذه الفترة بالتلقائية فى الأداء، فقد كان يؤدى القصيدة على حسب الموقف ونوع الجمهور والحالة التى يقام فيها الذكر.
تمر الأيام ويأتى مولد الحسين، فيذهب الشيخ الشاب ليجرب حظه فى المديح بجوار مسجد الحسين، فلم يجد مكانًا له، فقد كانت كل الأماكن مشغولة، وفجأة التقى شخصًا يعرفه، فنصحه بأن يذهب إلى خدمة «الشيخ حسين»، وحينما ذهب عرف بأن الشيخ لن يحيى الحفل بسبب ظرف طارئ، فحل محله، وأنشد للناس حتى الصباح، وانبهر الناس، وكانت القصيدة من تأليف الإمام «أبو العزايم»، وكانت من القصائد الصعبة جدًا.
كانت الطريقة التى يمدح بها فريدة، لا تشبه أى شخص آخر، إذ مزج بين الفصحى والعامية، واستخدم آلة العود، واشتهرت له قصيدة «شربنا على ذكر الحبيب مدامة».
وفى تلك الليلة بالتحديد، أمام الباب الأخضر لمولانا الحسين، بدأ أول تعاقد مع «التونى» على إكمال المولد، إذ كان المولد يستمر ٦٠ يومًا.
الحاجة تحية عن «حبيب العمر»: يكبرنى بـ18 عامًا.. وكان محبًا لأبنائه
قالت الحاجة تحية عبدالشافى، أرملة الشيخ التونى، إنها تزوجت من «حبيب العمر»، كما تصفه، وعمرها ١٦ عامًا، وكانت الزيجة الثانية له عقب وفاة زوجته الأولى التى أنجبت له ثلاثة أبناء.
وأضافت: «كنا نعيش فى منزل واحد، يظلل علينا الشيخ بطيبته ومحبته، كان رجلًا صالحًا وعلى خلق، وكان كريمًا، فى كل مرة يعود فيها إلى المنزل بعد انتهاء سهرة الإنشاد أجده متلهفًا لرؤية أبنائنا، يوقظهم من نومهم، رغم تعبه، ليتحدث معهم ويطمئن على أحوالهم».
وواصلت: «لا تخلو جلساته معهم من الضحك بسبب حسه الفكاهى، وفى كل مرة يعود إلينا من خارج البيت محملًا بطلباتنا، خاصة طلبات الأبناء، وإذا تعذر حضوره للمنزل بسبب كثرة السفر، كان يرسل من يلبى طلباتنا، كما كان يحرص على أن يترك لى فائضًا من المال للطوارئ، وكان يوصينى، وهو يستعد لأى سفر طويل، بأبنائنا ويقول لى: (أنا سايب راجل فى البيت)».
وعن علاقة «التونى» بخالقه، قالت: «كان يقرأ لى القرآن وأردد خلفه، كما كان يحكى لى عن سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتعلمت منه المحافظة على الصلاة والصوم، وكان يصطحبنى معه إلى الموالد فى سوهاج وأسيوط وقنا والقاهرة والإسكندرية، وأثناء تسجيل شريط الخمار كان يجلسنى فى غرفة خاصة بى ويمنع دخول أى شخص للغرفة، ويحضر لى الطعام والشراب حتى ينتهى من ليلته ويسألنى فى طريق عودتنا للمنزل عن رأيى».
وتابعت: «كان يجلس بجانبى فى لحظات ما قبل الولادة ويبلل مسبحته التى لا تفارقه بالماء ويسقينى منها ظنًا منه أن ذلك يخفف من آلام الولادة، وللأسف اختفت مسبحته وخاتمه وعصاه بعد وفاته وهذا أمر يؤلمنى.. كان يتعامل مع الأمور ببساطة وحين أُخطئ كان يكتفى بالضحك وينظر لى بعطف».
وعن أبنائه قالت: «زين ومحمد يعملان بالتجارة، ومحمود ورث عن والده الإنشاد، وله ابنتان متزوجتان ولديهما أبناء».
ابنة الشيخ: أحبّ خلفة البنات وكان يعتبر طلباتنا أمرًا مطاعًا
قالت «أم أحمد»، ابنة الشيخ التونى، إن والدها كان يفرح بإنجاب البنات أكثر من الأولاد، وحين يأتيه نبأ ميلاد البنت يقول «الله.. الخير جانا»، كما كان يميز فى المعاملة البنات على الأولاد، وكان يعتبر أن طلب البنت واجب يلبى وأمر مطاع، وكان حريصًا على أن تكمل الفتاة تعليمها.
وأضافت: «أنا حاصلة على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية. لم نكن نرى والدى كثيرًا بحكم عمله، وكنا نعتبره ضيفًا، ونشعر بعودته بمجرد وصوله لأول الشارع الذى نسكن فيه، كنا نستطيع تمييز صوت سيارته، ونركض إليه للترحيب به، وإذا عاد للبيت ونحن نيام يوقظنا ويعطينا ما جاء به من خيرات، ويجلب لكل منا ما يحب مهما تعددت الطلبات، ويترك لنا مصروفًا خاصًا».
وتابعت: «إذا مرض أحدنا يلازمه والدى حتى ينهض معافى، وكان يحسن معاملتنا ويهتم بنا، ويسأل عن أحوالنا ويحكى لنا عن الموالد والحفلات، وأتذكر أن والدى لم يرفع صوته يومًا على أحد فى بيته ولم يوبخنا».
واختتمت: «لم يحضر فرحى وحضر لزيارتى بعد عدة أيام واحتضننى وهو يبكى قائلًا: (البيت وحش من غيرك)، واستمر فى البكاء رغم أن دموعه عزيزة».
قد يهمك أيضا: