حوار بين جيلين| عبد الرحيم جيران: علينا أن نتفهم ما يريده الغرب منا وكيف يتعامل مع منجزنا الثقافي
في الحلقة السابقة تحدث الناقد والمبدع عبد الرحيم جيران عن ضرورة وأهمية المعرفة المسبقة لإقامة محاورات فكرية ونقدية مع النقد الغربي، وأشار إلى ضرورة دورة استعادة الذاكرة وربطها بالحاضر الآني دون افتعال قطيعه معها، ولفت إلى أن أية معرفة لا يمكن فصلها عن واقعنا السياسي.
تواصل “الدستور” نشر سلسلة حلقات حوار بين جيلين، وتستضيف الناقد والروائي المغربي عبد الرحيم جيران وتحاوره الكاتبة العمانية منى حبراس السليمية، وإلى نص الحوار:
• لك دراسات موسَّعة في النموذج الواحد: كتابك "في النظرية السرديّة في رواية الحي اللاتيني"، وكتابك "علبة السرد" الذي هو المقدِّمة النظريَّة فقط لدراستك الموسَّعة عن رواية "شرق المتوسط". فضلًا عن كتابك الأخير "الذاكرة في الحكي الروائيّ" الذي تناول نموذج علوية صبح في أعمالها الروائيَّة المختلفة. وهذا يُعيدني إلى مقولتك بأنَّ النظرية يُنتجها الأدب. فإلى أيِّ مدى استطاعت الأعمال الذي درستها مساعدتك في تأسيس رؤيتك النقديَّة؟
- تُبهرني فكرة لمَّاعة عبَّر عنها طه حسين في صدد تاريخ الأدب، إذ رأى بأنَّ هذا الأخير لا ينبغي أن يكتب إلَّا بعد دراسة النصوص. ويُثير رولان بارث سؤالًا هامًّا: أينبغي لنا دراسة كلِّ النصوص لبناء النظرية وفق منهج استقرائيّ أم ينبغي بناء نموذج نظريّ نختبر نجاعته في النصوص وفق منهج استنباطيّ، بما يعينه هذا من تعديل في النظرية كلَّما تبيَّن انَّها لا تستوعب بعض النصوص. كان عليَّ أن أجد طريقًا ثالثًا لتجاوز المعضلة. ولهذا فكَّرت في كتاب "علبة السرد" الحاضن للتصوُّر التضافريّ التجديليّ في مفهوم الاستراتجية النظرية بدلًا من النموذج النظريّ القارّ؛ ومعنى هذا تأسيس تصوُّر نظريّ متحرِّك حول النصِّيَّة قوامه التفاعل بين البنية والفاعل، وبين الثابت والمتغيِّر، بل النظر إلى الواحد منهما من خلال ممكن الآخر. بيد أنَّ الأساس في كلِّ هذا هو استنباط النظرية من الأدب، لا من غيره من المجالات الأخرى. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ النصَّ يُعَدُّ حجر الزاوية في توجُّهي النقديّ؛ فهو الأرض التي يحدث فوقها التفاعل بين الأشكال التي تتِّجه نحو الثبات والكتابة التي من سماتها المغايرة، وإحداث المسافة الجماليَّة حُيال التقاليد الفنِّيَّة السائدة.
وينبغي لنا أن نفهم أنَّ قدر الأدب قول النقص الذي يكتنف العالم، بما في ذلك نقصه هو، ونقص الكتابة. وظنِّي أنّه ولد من رحم هذا المسعى، لكنَّه كان يُعاني على الدوام من الافتقار إلى مرجعية معياريَّة ثابتة. ولهذا ينبغي للنقد أن يرقى بتأويل الأدب إلى مستوى تفكُّر أسئلته الكبرى التي لا تتَّصل بتدبير الموضوع، وإنَّما بتلك الي تتعلَّق بوسائل التعبير عنه؛ ففيها تكمن حقيقته وسياسته.
• لماذا لم تترجم أعمالك النقدية إلى لغات أخرى بعد، رغم أنّها تحاور المنجز النقدي الغربي؟
-لا أحد يُنكر أهمِّية الترجمة في خلق الحوار بين الثقافات المختلفة، لكن ينبغي فهم ما يُريده الغربيُّون منَّا، وكيف يتعاملون مع منتَجنا الثقافيّ. إنَّهم لم يتخلَّصوا بعد من رؤيتهم الاستعماريَّة إلى الشرق، وما زال ظلُّ شليغل الذي كان يُحقِّر الخيال العربيّ حاضرًا بكلِّ ثقله. لقد انفتحوا نسبيًّا على جنس الرواية العربيَّة، وإن كان هذا الانفتاح من زاوية البحث عن الاثنوجرافي بالدرجة الأولى، لا ممكنات التخييل. أمّا النقد فهو داخل في مجال المعرفة التي يعدون أنفسهم أسيادها ومعلِّميها والعالم مجرَّد مستهلك لما يُنتجونه؛ ومن ثمَّة فهم يُعِدُّون النقد- شأنه شأن كلِّ تفكير نظريّ- علميّ حكرًا عليهم، لا يستطيع العربيّ أو غيرهم ن يكُون مبرَّزًا. قد يترجمون أعمالا فكريَّة عربية، لكن من منظور أنها أعمال تقدم لهم نظرة حول طبيعة التكفير العربي والإسلامي، نظرة تساعدهم على مزيد من ترويض الضفَّة الجنوبيَّة- الشرقيَّة.
• عرفنا أنَّ الكتابة فعل من أفعال المقاومة على مرِّ العصور، ولكن إلى أيِّ مدى يُمكِن التعويل على ممارسة النقد الأدبيّ كفعل مقاومة بمعناها الأشمل؟
لا تنفصل الإجابة عن هذا السؤال عن الإجابة السابقة، ويُمْكِن لي ربطها بالفكر بعامَّة. إنَّنا لم نتحرر بعد من الغطرسة الغربيَّة، وما زلنا نُعاني من حشر أنفهم في كلِّ مناحي حياتنا، ومن مخطَّطاتهم لاستنزاف خيراتنا. ولكي يضمنوا استمرار تبعيتنا لهم اقتصاديًّا ينبغي أن يضمنوا استمرار تبعيتنا لهم سياسيًّا، ولا يتحقَّق هذا إلَّا بالتبعية الفكريَّة المطلقة لهم. ولهذا كنت أنادي- وما زلت- بالقضاء على التبعية الفكريَّة لأنّها فعلًا من هذا القبيل هو الكفيل بالقضاء على كلِّ أنواع التبعية الأخرى، فما يُزعج الغرب يخشى تمرُّده هم المفكرُّون، لا السياسيُّون. ويمكن للنقد أن يُساهم في مقاومة الغطرسة الغربيَّة إذا ما استقرَّ العزم النقَّاد على إنتاج أسئلتهم الخاصَّة المتَّصلة بواقعهم الأدبيّ، وإنتاج تصوُّرات نظريَّة مرتبطة بسياقاتهم الثقافيَّة والفكريَّة الخاصَّة، وحاوروا الفكر الغربيّ ندًّا للندِّ. لكن كما تعلمين إنَّ المعرفة لا تنفصل عن المصلحة المادِّيَّة، فالعديد من نقَّادنا هم عالة على ما يُنتجه الغرب، فإذا ما حرموا السلعة المستوردة، فإنَّهم يفقدون سلطتهم العلميِّة.
• لديك مجموعة شعرية وحيدة تأخرت كثيرا في نشرها، ولكن لديك في المقابل ثلاث روايات. ألا يعكس هذا مساحة الشعر وحظوظه مقابل الرواية بشكل عام في عالم الكتابة والقراءة معا في عصرنا الحالي؟
لقد كان الشعر نخبويًّا دائمًا، وينبغي أن نفهم- هنا- الشعر بمفهومه الحديث الذي ارتبط فيه بالكتابة والقراءة، لا بمفهوم الشعر الغنائيِّ- الذي هيمن عندنا لمدَّة من الزمان- والذي ارتبط بالجمهور والإلقاء. ولهذا فقراء الشعر قليلون، ولم يُسجَّل في تاريخ الشعر- في حدود ما أعلم- أنَّ ديوانًا ما حقَّق "الأحسن مبيعًا"، بحيث وصل إلى الميون نسخة كما هو الشأن بالنسبة إلى الرواية. لم يتراجع إنتاج الشعر عندنا، بل يُعاني من التخمة، لكنَّ الذي تراجع هو الإقبال على القاعات التي كان يُلقى فيها، وأظنُّ أنَّ هذا التراجع لا يمسُّ الشعر وحده فحسب، بل يكاد يمسُّ اللقاءات الفكريَّة وغيرها أيضًا لأسباب متعدِّدة، لا يُمْكِن حصرها في تبدُّل الذائقة وحدها.
• ألَا تظنُّ أنّ جيران الناقد قد ظلم جيران الروائيّ والشاعر، لأنَّ صورته التي تحضر في ذهن المتلقِّي للوهلة الأولى هي صورة الناقد قبل الروائيّ أو الشاعر؟
ليس لي ذنب في هذا، وللقرَّاء حقُّ التصنيف، أمّا بالنسبة إليَّ فلا أرى أنّ هناك فصلًا في ما أزعم أنَّه كتابة، ولا يوجد لديَّ ميل إلى هذا الصنف أو ذاك، بل أجدني واحدا في كلِّ ما أكتب، وهذا الواحد هو المبدع؛ فحتّى في النقد أمارس الإبداع، أليس ابتكار المفاهيم والتصوَّرات داخلًا في مجال الخلق الذي هو سمة كلِّ كتابة إبداعيَّة لا تنسج على منوال جاهز نمطيّ؟ ولربَّما كان تعدُّد مداخل الواقع هو ما يفرض عليَّ التوسُّل بأصناف من الكتابة المتعددة، حتَّى يُتاح لي فهمه على نحو جيِّد، ما لا تعجز الكتابة النقديَّة على أن تُوفِّره لي لكي ألج مدخلًا ما من مداخل الواقع توفِّره لي الرواية أو الشعر أو القصّة القصيرة.
• قلتَ في مقابلة لك في إذاعة سلطنة عمان مع الزميل الكاتب سليمان المعمريّ: "إنَّ على الناقد أن ينسى النقد عندما يُبدع". فهل تظنُّ أنَّ الناقد الذي فشل في كتابة الإبداع هو الذي لم يستطع أن يحكم هذه المعادلة، أم أنَّ هناك عوامل أخرى تُكرِّس مقولة "الناقد مبدع فاشل"؟
لقد كنت أرمي من خلال ما قلت إلى ضرورة أن يكُون هناك وعي بالحدود المميزة لكل من الحقلين: الإبداع والنقد، وينبغي أن تُدرك حين يحدث الانتقال من حقل إلى آخر، وإلَّا نتج عن الخلط بينهما نتاج مشوَّه يبعث على السخرية. الإبداع ممارسة كتابيَّة تتوسَّل بالمشخَّص والملموس لكي تُعبِّر عن موضوعاتها، بينما توسَّل النقد بالمجرًّد المفهوميّ كي يبني أحكامه القيميَّة حيال النصوص. ولا سبيل إلى إثبات ما إذا كان هناك ما يدعو من العلل التي تسمح بتسويغ المقولة الشهيرة "الناقد مبدع فاشل"، أو غيرها من قبيل الحكم الذي أجمله تودوروف في عبارته "النقاد أقزام يعتلون أكتاف المبدعين"؛ فلا توجد دراسة علميَّة تُؤكِّد مثل هذين الزعميْن. كلُّ ما يوجد هو تجارب يشهد بها التاريخ- تدلُّ بما لا يدع مجالًا للشكِّ- على زيف مقولة عدِّ الناقد مبدعًا فاشلًا؛ أفكر هنا في تجربة الناقد الأمريكي- البريطاني الشهير ت. س. إليوت الذي كان يتميز ببصيرة نقدية حادة، إلى جانب أنَّه كان مسرحيَّا لامعًا، وشاعرا كبيرًا، ولعلّ قصيدته الشهيرة "أرض الخراب" دالّة بقوّة على ما نذهب إليه. وهناك عديد من الأمثلة الأخرى، وبخاصَّة في القرن التاسع عشر.