رفعت سلام: النمطية في قصيدة النثر قاتلة للإبداع.. ولا أريد دخول التاريخ من هذا الباب (حوار)
الشاعر المصري رفعت سلام أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات، صاحب تجربة شعرية عميقة، استطاع أن ينفرد خلالها بخصوصية في أعماله وحضوره الفكري والإبداعي الأمر الذي منحه مساحة واسعة وغنية بالرؤى والتجارب.
وفي حواره مع "الدستور" تحدث رفعت سلام عن قصيدة النثر التي تحولت إلى أسلوب نمطي قتل فيه الإبداع، ومشروعه الشعري، وهل حفر اسمه في فن الشعر، وكيف أنجز رباعية "الأعمال الشعرية الكاملة". وإلى نص الحوار..
* البعض يرى أن قصيدة النثر ستدمر نفسها لتحولها إلى نمط.. فما رأيك؟
- ذلك ما قلته ما قبل، لقد عانى شعراء السبعينيات كثيرًا في غرس قصيدة النثر في الشعرية المصرية المحافظة، وعانت بعض الأصوات التالية في تأكيد حضور القصيدة الإبداعي، لكنها سرعان ما تحولت إلى "نمط" شعري، تكراري، يعيد الإنتاج ولا يقدم إبداعًا.
فالنمطية مضادة للإبداع، بالرغم من حضورها بكل حركة إبداعية (على نحو ما رأينا في القصيدة العمودية، وحركة التفعيلة، من قبل)، لكن حركية الزمن وفاعليته تقوم بتصفية الأصوات الإبداعية، ونفي الأصوات النمطية، إلى النسيان.
فالقصيدة النمطية هي قصيدة الشاعر "المديوكر" (وما أكثرهم!)، قصير التيلة. بائس الخيال والقدرات الشعرية. قصيدة سهلة المنال (بالنسبة للشاعر والقارئ)، قصيرة العمر، بلا إضافة أو إبداع، لكن انتشارها على سطح الحياة الثقافية يوهم برسوخها، فيغوي أصواتًا جديدة كسولة، لتنضم إلى القطيع.
* يرى نقاد أن مشروعك الشعري ينقض النص (التراثي المركزي).. فما تعليقك؟
- هو سؤال ينبغي أن يُطرح على ناقد خبير بتجربتي الشعرية، من قبيل الدكتور محمد عبدالمطلب، مثلا. فهنا، لا أملك سوى الانطباعات العابرة. فالتراثي كامن يتخلل طبقات النص عندي، أحيانًا بصورة لا شعورية، خاطفة. فهو مؤسس للنص، لا كما هو بحالته الخارجية المعروفة، بل بعد تحوله، وتعريته من القداسة؛ فيفقد ذاته المتضخمة، المفتعلة، ويصبح أداة، لبِنَة من لبنات النص الصغرى.
أما العمود الفقري للنص فهو "تعدد الأصوات"، فيما أظن؛ كيف يمكن للنص الشعري أن يصبح غابة أصوات تمثل العالم، وأصواته المتضاربة، المتشابكة. فذلك الخطاب الأحادي، الذي ينفرد به الشاعر في قصيدته، لم يعد لائقًا إلا بالرومانتيكيين الذي يظنون أنهم قادرون على اختزال العالم في ذواتهم الصغيرة.
وخلال "تعدد الأصوات"، انفتح النص على آفاق "تشكيلية"- لم تحدث من قبل في الشعرية العربية- يندمج فيها الأدبي مع التشكيلي، والهامش في المتن، والماضي في الراهن، وخاصةً في "حجر يطفو على الماء"، و"أرعى الشياه على المياه".
* رباعية "الأعمال الشعرية الكاملة" مشروع في الترجمة غير مسبوق، وخاصةً أنه يتعلق بمؤسسي الحداثة الشعرية في العالم (كفافيس، بودلير، رامبو، ويتمان).. فكيف خططت له وأنجزته على مدى عشرين عامًا؟
- في الحقيقة، لم أخطط له، وربما لو خططت له لكان الأمر محبطًا، فهل يمكن التخطيط- في حياتنا المصرية- لمنجز فردي يستغرق نحو عشرين عامًا؟! بالطبع، كنت أعرف بافتقار المكتبة العربية لترجمة الأعمال الكاملة لهؤلاء الشعراء، فيما كنت مدركًا لقيمتهم الفادحة في الشعرية الحداثية، وأن لا حداثة شعرية في العالم بدونهم.
وقد تم الإنجاز بالطريقة التي أنجز بها عملًا شعريًّا: خطوةً خطوة؛ وكل خطوة توحي لي بالخطوة التالية، الجزئية، فالخطوة التالية الجزئية، ضمن سياق متسق، بلا تضارب ولا عشوائية، محكومًا بحدس ولا وعي بصير.. إلى أن انتهيت من أعمال رامبو (العمل الثالث في السلسلة).
وقتها، اتخذت قرار الشروع في "أوراق العشب" لوالت ويتمان لاستكمال الرباعية. فهو المقابل- في اللغة الإنجليزية- لحداثة بودلير ونزعته التأسيسية. فعكفت عليه لسنوات، بمعدل 12 ساعة عمل في اليوم، شأن جميع الأعمال السابقة، لاختصار الزمن، وسرعة الإنجاز.
ولكني عندما انتهيت، وصدر الكتاب منذ ثلاثة أعوام (في 990 صفحة من القطع الكبير)، قررت التوقف عن الترجمة، والاكتفاء بما جرى.. وخاصةً مع وجود عملين غير منشورين، عندي، ينتظران الفرَج!
* لماذا- بعد توقف تجربة إضاءة أوائل الثمانينيات- لم تفكر في تأسيس مجلة شعرية جديدة تستوعب الأصوات والأفكار الجديدة؟
- بعد أن انسحبت من "إضاءة"- مع صدور العدد الثالث- قمت بتأسيس وإصدار "كتابات"، كمجلة أدبية (لا تقتصر على الشعر)، مع الصديقين شعبان يوسف ومحمود نسيم. وتواصلت- حتى عام 1985- بالتعاون مع أصدقاء آخرين لثمانية أعداد، من بينهم عددان خاصان عن "شعراء السبعينيات"، أحدهما للقصائد، والآخر للدراسات والمقالات؛ وكانت أول مرة يُطرح فيها المصطلح، مع محاولة منهجية للتأسيس، وضبط الرؤية النقدية للحركة.
وحين أوقفت "كتابات" في منتصف الثمانينيات، أحسست بأني منحت الفعل الثقافي الشعري العام ما يكفي من الجهد والمبادرة، وأنه آن أوان التركيز على أعمالي، لتشهد الثمانينيات والتسعينيات طفرة في هذه الأعمال (في الشعر والترجمة والمشاركة في المؤتمرات الدولية والعربية).
وفي التسعينيات، ظهرت أصوات أخرى كثيرة، متفاوتة، كان لها أن تقدم قصيدتها ومبادرتها الخاصة في الساحة الثقافية. وحين حاولت بعض تلك الأصوات البازغة في قصيدة النثر تأسيس مهرجان أو إصدار مجلة، لم أتقاعس عن التعاون والمساعدة بقدر المستطاع والمطلوب.
* ما زال المنظرون يصرخون أن الرواية ديوان العرب.. فماذا عن ذلك؟
- هي مجرد أقوال مرسلة، "شائعات" ثقافية، تغري بترديدها من قِبل فقراء الوعي والفكر، كأنها حقائق أو بديهيات، وهو ما لا نجد له مرادفًا في الثقافات الأخري.
فنحن مغرمون بافتعال "ثنائيات" قطعية، متناقضة (أبيض وأسود جسد وروح شعر ورواية، إلخ، وصولًا إلى أهلي وزمالك)، بلا تماس أو تفاعل متبادل.
فإن شئنا الزج بمصطلح "ديوان العرب" العزيز علينا، فهو مجمل الإبداع العربي، السينما والمسرح والغناء والموسيقى والقصة والشعر والرواية.. إلخ. فأي "سي دي" لعمرو دياب أو محمد منير يقتنيه مئات الآلاف من المعجبين.. وأي فيلم لمحمد رمضان - مهما كان تافها- يشاهده الآلاف. فهل يحدث ذلك مع أي روائي؟
لكننا مغرمون- للأسف- بالكليشيهات الصدئة، البالية.
* هل ترى أن رفعت سلام حفر نصه الشعري الخاص في فن الشعر؟
- لا أدري. فلا يمكن لشاعر أن يصدر أحكامًا عن تجربته الشعرية، لكن ما أدريه وأعيه جيدًا أنه نص شعري لا يشبه سواه، من المعاصر له، أو الغابر.. ذلك أنني كنت حريصًا- طوال الوقت- على ألا أُكرر ما سبق أن كُتب: لدى الآخرين، أو في أعمالي السابقة، مهما كانت الإغراءات.
بل وصل الأمر ذاتيًّا إلى ما يشبه الغريزة اللاشعورية؛ حيث تتوقف الكتابة من تلقاء ذاتها في حالة سقوطي في التكرار، وشيءٌ ما بداخلي يوقظني: "لا.. لا.. لا تليق بك النمطية؛ لا يليق بك التكرار!" وألغي النص، لأبدأ من جديد، مرةً وأخرى.. إلى أن يبدو النص مفارقًا للمكتوب.
لهذا، فقد لا نجد عملًا شعريًّا يشبه الآخر في أعمالي، أو يشبه السائد، وقد تبدو معظم الأعمال صعبةً في التلقي، وتفرض أكثر من قراءة.. لكني أظن أن "العائد" الشعري يستحق المغامرة من القارئ.
* هل تتوقع أن تبدأ كتابة جديدة بعد كورونا؟
- لا أتوقع ذلك؛ فهي- رغم قسوتها- لحظة عابرة في التاريخ الإنساني، ليست فريدة ولا نادرة، لقد سبق أن مرت أوبئة وطواعين أكثر قسوة بكثير على الحضور الإنساني في التاريخ، ولم تترك مثل هذا الأثر الذي يتوقعه البعض، وبدأوا في التطبيل له.
* ما الشعر.. وقد كتبت كتابا تحت هذا العنوان؟
ستة شهور كاملة 12 ساعة عمل كل يوم (2160 ساعة عمل) استغرقها كتاب "ما الشعر"، ليخرج- في النهاية- في 120 صفحة من القطع الصغير. فكيف يمكن تلخيصه في بضعة سطور، في بضع دقائق؟ فلو كان ذلك بمقدوري لفعلتها آنذاك واختصرت الطريق، بلا معاناة.
فلا تعريف للشعر. وكل مَن حاول فعل ذلك من قدامى النقاد، العرب والأجانب، فشل في النهاية فشلًا ذريعًا، سجله له التاريخ. ولا أريد دخول التاريخ من هذا الباب!
أما كيف كانت إجابة الكتاب، فتستحق التعرف عليها بالكتاب، لا خارجه.
* أنت صاحب النهار وقد ضم كتاب "النهار الآتي" دراسات متفرقة عن مشروعك الشعري، فماذا عنه؟
- ها أنذا أنتظر.. "كسرةً من قمر، قطرةً من مطر".