رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شكرًا سيادة الرئيس.. نحن شعب لا يشارك فى ظُلم

حين أتصدى لكتابة مقال فهو دائمًا يأتى ترجمة لصوتى الشخصى، وبوازع من التزامى المهنى وضميرى الإنسانى. أما اليوم، فأنا أكتب بلسان كل مصرى وطنى غيور على وطنه، وبضمير كل عروبى لديه نخوة، بل بصوت كل مناضل على سطح هذا الكوكب يعرف قيمة الأرض ويعى معنى تشريد إنسان أو إجباره على ترك تراب الوطن. فى عقيدتنا الدينية الإسلامية تم تعزيز قيمة الانتماء للوطن، وفى الأثر ما ورد على لسان الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم حين خاطب موطنه مكة قائلًا وهو واقف فى سوق مكة: «والله إنك لخير أرض الله إلى الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أنى أُخرجت منك ما خرجت». وفيما رُوى عن ابن عباس قول الرسول لمكة: «ما أطيبك من بلد وأحبك إلىّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك».
أُذكر بهذا إلحاقًا بمقالى السابق المنشور يوم الإثنين الماضى فى الدستور الغراء، والذى حمل عنوان «فلسطين لأهلها ومصر للمصريين»، وكنت أؤكد فيه موقفى كمواطن مصرى، وكعربى يحمل فكرة القومية وينادى بها، فسجلت موقفى كفرد ضمن ملايين لا تحصى، تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وتدرك أنها قضية العرب الأولى، كما أن هذه الملايين توقن - بما لا يدع مجالًا للشك - أن حل القضية لا يمكن أن يأتى على حساب شعب آخر، وأن أى تفكير فى وطن بديل هو ترسيخ للقضية، بل إنه يمثل فصلًا جديدًا فى مأساة قد يتسع مداها وتتفاقم تبعاتها.
وجاءت كلمات السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى يُحسن قراءة ضمير أمته، بل إنه يترجم أفكار شعبه إلى قرارات ومواقف والتاريخ يشهد بذلك، فقد فعلها فى 30 يونيو 2013، ثم ها هو اليوم يعيد الطمأنينة لشعبه، حين يقول بالأمس- فى كلمات ثابتة وواضحة - إن تهجير أو ترحيل الشعب الفلسطينى ظلم لا يمكن أن نشارك فيه. ثم يعود سيادته ليثلج صدورنا بكلمات واضحة جلية يؤكد بها أنه لا يمكن التنازل بأى شكل من الأشكال عن الثوابت والأسس الجوهرية التى يقوم عليها الموقف المصرى تجاه القضية الفلسطينية. تلك إذن هى ثوابت الموقف المصرى التى لا يمكن الحياد أو التنازل أو حتى التغاضى عنها.
 نحن كمصريين ندرك أن الرئيس ترامب يسعى جادًا لحلحلة القضية، ويرى أنه وبدافع إنسانى ينبغى أن يلتفت الجميع لمأساة الشعب الفلسطينى. نعم، قد تكون نوايا الرئيس ترامب ودوافعه الإنسانية هى المحفز له بالبحث عن حلول لما يعانيه المواطن الفلسطينى خاصة بعد أحداث غزة الدامية، والتى امتدت لأكثر من سنة كبيسة مضت. ولكننا هنا فى الشرق نردد مثلًا عربيًا يقول: «أهل مكة أدرى بشعابها». فنحن العرب والمصريين بالأخص ندرك تمام الإدراك أن هذا المقترح سيزيد من الأزمة ويعمّقها ولن يؤدى إلا إلى مزيد من الظلم الواقع على الفلسطينيين، والاحتقان لدى عامة الشعوب العربية.
 لقد تابعنا مشهد عودة آلاف الفلسطينيين لمنازلهم - أو بالأحرى إلى أطلال منازلهم - وكان هذا هو الرد الفلسطينى على النوايا الأمريكية لتهجيرهم. إنهم يقولون بجلاء إن موقفهم هو البقاء على أراضيهم حتى وهى فى حالة خراب ودمار كاملين، وإنهم لن يخرجوا منها. قرار الفلسطينيين إذن هو العيش فوق ترابهم الوطنى أحرارًا، أو الدفن فى ثراه شهداء. لقد عاش الفلسطينيون خلال أشهر العدوان مأساة إنسانية حقيقية، فكان لديهم من الجَلَد والصبر ما يمكّنهم من الاستمرار فى الصمود. ورغم صعوبة الحياة على الوضع الحالى، فإنهم على استعداد لمزيد من التحمل إلى أن تتم عمليات إعادة الإعمار، حتى وإن طالت أشهرًا أو سنوات.
ومع إخلاص النوايا يمكن للعالم - وخاصة رءوس الأموال العربية - أن يعجل بعمليات إعادة الإعمار، وإذا طلبتم العون من مصر فى هذا المجال فإن كل مؤسساتها وشركاتها وعمالها المهرة لن يتوانوا فى تلبية النداء بدافع إنسانى، وسيتم الإنجاز فى زمن قياسى تطمئننا إليه سوابق تاريخية وإنشائية مصرية جرت فى ظروف مماثلة. فنحن شعب يجيد البناء ولا يعرف الهدم.  وفى عقيدتنا الوطنية أن هدم القيم - وفى مقدمتها قيمة الولاء والانتماء -  هو الخراب الحقيقى الذى يصيب الضمير الإنسانى.
    شكرًا من جديد للسيد رئيس الجمهورية على إحساسه بمواطنيه، ونؤكد لسيادته أننا كمصريين رهن إشارة الوطن للتعبير عن مواقفنا الثابتة بكل الطرق فى إطار الشرعية والديمقراطية. كما ينبغى أن نشكر السيد ترامب حسه الإنسانى بمأساة الشعب الفلسطينى، ولكننا ندعوه للتفكير فى حلول عملية أخرى تحل الأزمة ولا تفاقمها، وليدرك سيادته أننا لسنا فى حالة عداء معه ولكننا نشاركه البحث عن الحلول الناجعة والمُرضية لنا كمصريين وللشعب الفلسطينى صاحب المأساة، والذى عبّر عن موقفه عمليًا بالزحف المقدس إلى أطلال منازله بعد أن هدأت آلة الحرب المجنونة.