رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ورجعنا من المولد بـ«الحمص».. نفحة يا ستنا

ارتبطنا من الصغر بأوبريت «الليلة الكبيرة» للمبدع الشاعر صلاح جاهين والملحن العبقرى سيد مكاوى، نحفظه عن ظهر قلب، نردده بحب، نعلم أنه أوبريت تجسيدى لحالة عشق المصريين الموالد المنتشرة على مدار العام فى كل محافظات مصر، ووفقًا لعديد الدراسات فإنه لا يوجد عدد محدد للموالد فى مصر، فيما تشير «الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية» إن عدد الموالد الإسلامية والمسيحية يبلغ نحو 2850 مولدًا، يشهدها 40 مليون شخص سنويًا.. ويعود ارتباط هذا الموروث الشعبى إلى آلاف السنين، بما يؤكده المتخصصون فى هذا المجال أن ارتباط المصريين بهذه الاحتفالات منذ عصور الفراعنة، فهو موروث يسكن جينات المصريين منذ القدم، والدليل أنها موالد يحييها المسلمون والمسيحيون من كل أطياف الشعب. 
مساء أمس كانت ليلة الختام «الليلة الكبيرة» لمولد «السيدة زينب» المعروفة بـ«رئيسة الديوان» و«أم العواجز» السيدة الشريفة «زينب ابنة الإمام على بن أبى طالب» حفيدة سيدنا محمد رسول الله، «صلى الله عليه وسلم».. ارتبط المصريون بآل البيت ارتبطًا وثيقًا، فكما أحبونا آل البيت وقصدوا بلادنا للعيش فيها حتى الممات نرد لهم الحب بالحب والعشق، وإحياءً لذكراهم احتفلنا بيوم مولدهم تكريمًا وحبًا وإجلالًا لآل البيت الكرام.
فى أيام طفولتى التى قضيتها فى «الواحة» أتذكر جدتى، رحمة الله عليها، كانت تصطحبنى إلى مولد «الشيخ بدوى» فى قرية القصر بالواحات البحرية، ولـ«الشيخ بدوى» مقام أو قبر فى أرض صحراوية تبعد عن القرية بضع كيلومترات، يحاط مدفنه بسور مرتفع مشيد من الطوب اللبن أشبه بالقبة، وإلى جواره بيت صغير من حجرتين يقيم فيه الزائرون على مدار ثلاثة أيام المولد، حيث يشد الرحال. 
لا يختلف كثيرًا مولد «الشيخ بدوى» عن سائر الموالد المنتشرة فى مصر، كانت الناس تشد الرحال إلى مقام الشيخ محملة بالذبائح والأطعمة تكفيها مدة الاحتفال، وفى أيام المولد تقام الصلوات وحلقات الذكر، وعقب صلاة العشاء تبدأ الأمسية الدينية بالصلاة على رسول الله وآل البيت الكرام وتتوج الليلة بالمديح والإنشاد الدينى.. وكما فهمت فيما بعد أن هذه الأناشيد مستمدة من المذهب الصوفى كما توارثوه.. كان ينطق اسم «الشيخ بدوى» بكسر «الباء» دون تعريف بالألف واللام.. للشيخ كرامات- كما يعتقد أهل الواحة- فالكل يذهب ويحمل فى قلبه مطلبًا من الله طالبًا شفاعة أولياء الله الصالحين، يحملون الشموع فى المساء، كل يشعل شمعته وفى قلبه دعاء بما يتمنى من الله، منهم من تطلب الزواج ومنهم من يطلب الذرية الصالحة، وآخر يطلب أن تلد بقرته أنثى حتى يزداد نسلها، ومنهم من يطلب زيارة بيت الله، إلى آخره من مطالب البسطاء، وفى الأغلب تكون الزيارة وفاءً لنذر عقد الزائر النية سابقًا إذا تحقق الرجاء من الله يقدم نذرًا لله فى يوم مولد «الشيخ بدوى»، قد يكون النذر إضاءة شمعة أو ذبيحة بما يجود بها الزمان.. وتنتهى الأيام ويعود الجميع فرحين بما آتاهم الله من فضله.. فحياتهم فى الواحة بسيطة يبحثون عن الفرحة والبهجة والتضرع إلى الله.
يومًا ما فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، أقبل رجلٌ من أبناء الواحة كان عائدًا من الخروج فى سبيل الله إلى دولة أفغانستان، يحمل فكرًا دينيًا مختلفًا عن هؤلاء البسطاء، فقام بتحطيم «مقام الشيخ بدوى» دون أن يعترضه أحد، وبدأ يخطب بين الناس أن هذه الاحتفالات هى بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار، وقام بفتوى تحرم كل الاحتفالات الدينية ومنع استخدام آلات الإيقاع على أن يكون الإنشاد الدينى بأصوات المنشدين دون موسيقى.. وبدأت سلسلة متتالية من الممنوعات والمحرمات إلى أن اعتقد الجميع أن الحياة السابقة كانت حرامًا فى حرام.
بالأمس فى الليلة الكبيرة لمولد السيدة زينب رضى الله عنها همس فى أذنى الأستاذ مصطفى أحد أهم زوار المولد، قائلًا: «فى الليلة الكبيرة نرتدى ثيابًا جديدة، إنها ليلة عيد.. وعلى مدار أسبوع كامل نستقبل الضيوف من كل أنحاء مصر»، وأشار إلى سيدة تجلس فى المواجهة «أم مهدى»، جاءت من الكويت والتى جوارها سيدة أخرى جاءت من ألمانيا حبًا لآل البيت «أم العواجز». قال الأستاذ مصطفى: الصوفية تقدم منهجها فى الشارع، وفى جلسات الذكر أيام المولد نحارب التطرف الذى ينتشر فى الغرف المغلقة، أما الصوفية فهى حالة عشق تنقى القلوب وتزهد العقول وطريق البسطاء إلى الله.. الجميع هنا فى المولد قطعوا أعمالهم وتركوا خلفهم كل مشاغلهم.. فى المولد تصدقوا ولو بالدعاء.. أطعموا الجميع بما أتاهم الله من رزق..الجميع فى بهجة وفرح، ابتاعوا الهدايا وعادوا بالحمص وقلوب فرحة.. فى أيام المولد جاءوا إلى بيوت الله وأحباب الله أكثروا من الصلاة والدعاء.. مدد يا رسول الله.