رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوريا.. بين طموح أردوغان وجنوح نتنياهو!

لا يوجد بلد لديه الكثير ليكسبه من استقرار سوريا مثل تركيا، وقليل من البلدان لديها الكثير لتخسره إذا انهارت.. تركيا هى موطن لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سورى، وتريد أن تكون سوريا آمنة بما يكفى لعودة العديد منهم.. ولا يوجد لدى أى قوة خارجية أخرى أجندة بعيدة المدى لسوريا، على عكس تركيا التى تريد خنق الحكم الذاتى الكردى فى شمال سوريا، والمساعدة فى بناء جيش سورى جديد، واستعادة النفوذ فى بلد سيطرت عليه ذات يوم لمدة أربعمائة عام.
لقد تجاهل المسئولون الأتراك مزاعم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بأن بلادهم كانت وراء الهجوم الذى شنه المتمردون والذى أطاح ببشار الأسد، الرئيس السورى السابق.. ولكن من الصعب تجاهل علامات الدور الضخم الذى تتوقع تركيا أن تلعبه فى سوريا الجديدة.. فقد عرض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مساعدة سوريا فى التوصل إلى دستور جديد.. وكان وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، ورئيس جهاز المخابرات التركى، أول كبار الشخصيات الأجنبية رفيعة المستوى الذين يزوران دمشق، بعد استيلاء هيئة تحرير الشام على السلطة.. وسارع رجال الأعمال الأتراك إلى اللحاق بهم.. وبعد يوم من دخول المتمردين إلى دمشق، شهدت شركات البناء والأسمنت الكبرى فى تركيا ارتفاعًا فى أسهمها.. واستأنفت شركة الطيران الوطنية التركية، الخطوط الجوية التركية، رحلاتها إلى سوريا بدءًا من الخميس الماضى.
نتيجة للهجمات التى شنها أردوغان ضد وحدات حماية الشعب الكردية، أو ما يعرف قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، وهى ميليشيا كردية فى شمال سوريا، تحتل القوات التركية بالفعل أجزاء من البلاد.. وتتولى مجموعة متنوعة من الجماعات المتمردة السورية التى تمولها حكومة أردوغان، والمعروفة باسم الجيش الوطنى السورى، مراقبة الجيوب الكردية.. وتوفر تركيا الخدمات الأساسية، بما فى ذلك التعليم والرعاية الصحية للسكان هناك.. كما دعمت تركيا هيئة تحرير الشام شبه الحكومية، التى تشكلت فى محافظة إدلب، فى شمال غرب سوريا.. ولولا الدمار الذى خلفته أكثر من ثلاثة عشر عامًا من الحرب، لكان من الممكن أن نخطئ فى التفريق بين أجزاء من محافظة إدلب فى شمال شرق البلاد وتركيا.. فالمحلات التجارية تعرض المنتجات التركية.. والعديد من الشركات تقبل الليرة التركية فقط.. وتوفر خطوط الكهرباء من تركيا الكهرباء على مدار الساعة للسكان؛ بينما فى دمشق لا يحصل الناس على أكثر من أربع ساعات فقط يوميًا من التيار الكهربائى.. وتخطط تركيا لتزويد حلب بالطاقة على مدار العام المقبل.. وعلى الطريق إلى إدلب، يتوقف سائقو سيارات الأجرة للتحول من بطاقات SIM السورية، التى لا تعمل هناك، إلى البطاقات التركية.. ولكن مع التزام الحكومة السورية الجديدة بتوحيد البلاد، قد يكون من الصعب دعم احتلال تركيا لشمال سوريا.. أو تبريره.
فمن غير المرجح أن تسحب تركيا قواتها فى أى وقت قريب، ولم تطلب منها الحكومة السورية الجديدة ذلك.. وبدلًا من ذلك، تهدد تركيا بشن هجوم جديد ضد وحدات حماية الشعب الكردية، التى تدعمها الولايات المتحدة.. وتريد تركيا من مقاتلى وحدات حماية الشعب الأجانب مغادرة سوريا، ونزع سلاح المجموعة.. ومع ذلك، تتحدث هيئة تحرير الشام مع وحدات حماية الشعب بشأن ضمها إلى جيش سوريا الجديد، إذ إنها لا تريد حربًا مع الأكراد، إلا أن هذه الوحدات تشترط الانضمام إلى الجيش السورى المزمع تشكيله ككتلة واحدة.. وقد طلب أحمد الشرع، رئيس هيئة تحرير الشام، وزعيم الأمر الواقع لسوريا، من تركيا إعطاء المفاوضات فرصة.. وفى الوقت الحالى، تتمسك تركيا بإطلاق النار، أيضًا بسبب الضغوط من أمريكا.. لكن صبرها لن يدوم إلى أجل غير مسمى.. إذ يقول وزير الخارجية التركى، هاكان فيدان، «إما أن يتخذ شخص آخر إجراءً، أو سنتخذه نحن».
ويشعر المحيطون بالشرع بالقلق أكثر إزاء الجيش الوطنى السورى، الذى يضم ما يصل إلى تسعين ألف مقاتل، وهو عدد أكبر من هيئة تحرير الشام.. وقد اتُهم الجيش الوطنى السورى بالابتزاز والخطف، وغير ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان، وخصوصًا ضد المدنيين الأكراد، فى المناطق التى يحتلها الأتراك.. وفى الآونة الأخيرة، شارك بعض أعضائه فى هجمات على العلويين بالقرب من اللاذقية وحمص.. وقد وعدت حكومة أردوغان بتقديم المساعدة فى هذا الشأن. وهذا يعنى الضغط على الجيش الوطنى السورى ليحل نفسه ويخضع لسيطرة دمشق، كما تقول دارين خليفة، من مجموعة الأزمات الدولية، وهى مؤسسة بحثية.. ويمكن لتركيا أن تتوقف عن تمويل الجيش الوطنى السورى، وتسهم بدلًا من ذلك بشكل مباشر فى الميزانية المركزية السورية، وبالتالى جيشها الجديد.. إلا أن جميع الجماعات المسلحة السورية تحت مظلة واحدة، سيكون مستحيلًا تقريبًا بدون الدعم التركى.
من جانبها، لا ترى هيئة تحرير الشام نفسها تابعة لتركيا.. ويحرص الشرع على الحصول على الدعم من جميع الأطراف.. وقد أرسلت المملكة العربية السعودية بالفعل مساعدات إنسانية، وعرضت استبدال إيران بالرياض، كمورد رئيسى للنفط لسوريا.. كما يمكنها أن تنفق أكثر بكثير من تركيا فى إعادة بناء سوريا، وتأمل فى استخدام ذلك لصالحها.. وتريد تركيا تدريب وتجهيز الجيش السورى الجديد، لكن دولة أخرى فى الشرق الأوسط قدمت عرضًا أكثر جاذبية، وفقًا لأحد أعضاء هيئة تحرير الشام، الذى يقول، فى إشارة إلى تركيا، «نحن ممتنون، لكننا لسنا بحاجة إلى وضع أنفسنا فى أى معسكر واحد».
فى الوقت الحالى، على الأقل علنًا، يحرص المسئولون الأتراك على إظهار الاحترام لسيادة سوريا وحكومتها.. وتقول السيدة خليفة، «إنهم لا يحاولون الضغط عليها لاتخاذ إجراءات محددة».. ولكن حجم التدخل التركى فى سوريا، يجعل بعض الحكومات العربية تشعر بعدم الارتياح.. فالسعوديون ينظرون إلى تركيا باعتبارها منافسًا على الزعامة فى العالم السُنى.. وتشعر الإمارات العربية المتحدة بالاستياء من دعم أردوغان للجماعات الإسلامية.. ولأن هذا الدعم تسبب فى مواجهة مؤلمة مع العالم العربى قبل عقد من الزمان، فسوف يكون الرئيس التركى حذرًا من تأجيج نيران الإسلام السياسى مرة أخرى.. فقد تبنى نظام الأسد القومية العربية علنًا، ولكنه فى نهاية المطاف كان بمثابة موطئ قدم لإيران فى العالم العربى.. ولا تريد الدول المجاورة لسوريا أن تتحرر من النفوذ الإيرانى فقط، لكى تقع تحت النفوذ التركى.
وترى تركيا أن إسرائيل تشكل العقبة الرئيسية أمام تحقيق طموحاتها فى سوريا.. وقد انتقدت بالفعل إسرائيل، بسبب الضربات التى دمرت الكثير من البنية التحتية العسكرية السورية، وبسبب موافقتها على بناء مستوطنات جديدة فى مرتفعات الجولان المحتلة.. وقد أدت دعوات وزير الخارجية الإسرائيلى، جدعون ساعر، إلى المزيد من التعاون مع الأكراد السوريين، إلى تفاقم المخاوف فى أنقرة من أن تدعم إسرائيل وحدات حماية الشعب الكردية ضد تركيا.. وفى الوقت نفسه، حذَّر تقرير حكومى إسرائيلى حديث، من أن النفوذ التركى المتزايد فى سوريا، قد يضع البلدين على مسار تصادمى.. لكن، من غير المرجح أن تندلع حرب بين إحدى أكبر قوى حلف شمال الأطلسى وإسرائيل.. ولكن التوتر يذكرنا بما هو على المحك بالنسبة لتركيا.. فإذا ازدهرت سوريا الجديدة، فإن المكافآت التى ستعود على تركيا ستكون أعظم من أى دولة أخرى.. وإذا عادت الفوضى، فسوف تعانى تركيا من رد الفعل العنيف.
لقد سُئِل الكاتب الأمريكى، توماس فريدمان، عن اعتقاده بأنه يجب على الولايات المتحدة أن تخفف العقوبات على سوريا لمنحها فرصة لبدء إعادة الإعمار؟.. أو كيف ينبغى أن يحدث ذلك؟.. هل ينبغى أن يستند ذلك إلى الالتزام بضمان المساواة فى الحقوق للأقليات والنساء، والانفتاح على التجارة الخارجية؟ وما رأيك فى العقوبات؟.. فأجاب فريدمان بقوله، إن ترامب رشح بالفعل ثلاثة مبعوثين إلى الشرق الأوسط، بالإضافة إلى وزير خارجيته.. وأنا أفكر فى إرسال رسالة مفتوحة إليه، فى عمود أقول فيه: بما أن لديك ثلاثة مبعوثين، أود أن أتطوع لأكون الرابع.. والآن، أريد أن أفعل شيئًا واحدًا.. ليس غزة، وليس إسرائيل وفلسطين.. وأترك ​​هذا للأمور الأخرى.. أود أن أكون المبعوث الخاص إلى سوريا، لأنها تشكل حجر الزاوية فى الشرق الأوسط.. وأعتقد أن الولايات المتحدة لا بد أن تتدخل الآن بكل قوة، فتحتضن القيادة السورية الجديدة بكل قوة، وترفع العقوبات، وتفعل كل ما فى وسعها لخلق إمكانية نشوء نوع مختلف تمامًا من سوريا، وهو نوع من التوازن التوافقى بين القوى الإسلامية هناك والقوى العلمانية الحديثة، المسيحية والإسلامية. والواقع أن الاحتمالات ضئيلة للغاية، ولكنها الجائزة الأكبر فى الشرق الأوسط.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.