محو فلسطين
فى ١٩ يناير الحالى، بعد خمسة أيام فقط من توقيع اتفاقية الهدنة بين غزة وإسرائيل، قامت زوارق الاحتلال بفتح النيران على ساحل غزة منتهكة كل بنود الهدنة. أما كيف استقبلت الدوائر السياسية فى تل أبيب الاتفاقية، فيكفى للتعرف إلى ذلك النظر إلى خطاب وجهته «دانييلا فايس»، زعيمة منظمة «ناتشالا»، إلى نتنياهو تقول فيه: «إننا لا نريد السلام، إننا نريد إسرائيل الكبرى، والأمر متروك لكم، يمكنكم وقف هذه الاتفاقية اليوم.. نحن نقول لا لهذا المسار المشوه، نحن نريد دولة إسرائيل فى الأرض الموعودة، نريد استيطان غزة ونريد استيطان لبنان، وسوف نستوطن كل الأرض الموعودة».
إن الأحلام الصهيونية لا تفارق الكيان، ويلقى الضوء على تلك الحقيقة كتاب صدر مؤخرًا بعنوان «محو فلسطين»، عن دار البحر الأحمر، للكاتبة الإنجليزية «ريبيكا روت جولد»، الأستاذة فى كلية الدراسات الشرقية بجامعة لندن، التى عانت هى نفسها من اتهامها بالعداء للسامية بعد أن نشرت عدة مقالات عن المجازر فى رام الله. تجدد «ريبيكا روت جولد» النظر إلى الصهيونية وتعيدنا إلى الجذور حين تتحدث عن أن عملية «محو فلسطين» تجرى عبر ثلاثة مسارات، الأول: إعادة تسمية المسميات التاريخية المتعارف عليها، ونقل صورة الشرق عبر أخيلة لا تمت للواقع بصلة مثلما يصفون الفلسطينى بالإرهابى لدفاعه عن قضيته، فتضع الدول الإمبريالية بذلك قناعًا على الحقيقة لتبرير تدخلاتها. والمسار الثانى: إعادة ترسيم الخرائط والجغرافيا بما يخدم مصالح المستعمر الاستيطانية بتفريع الفضاء الفلسطينى من سكانه ومعالمه لكى تصبح الأرض فارغة للامتلاء الصهيونى. المسار الثالث الذى تتحدث عنه الكاتبة: حظر ومنع أى انتقاد موجّه لممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، وملاحقة كل من ينتقدها.
وتشير الأكاديمية الإنجليزية بوضوح إلى أن الصهيونية ليست سوى استمرار للمشروع الاستعمارى الغربى للشرق، وفى تلك الإشارة تكمن الحقيقة كلها، حقيقة «دولة» لم تعلن عن حدودها قط حتى الآن، بل وتعلن عن «استيطان كل الأرض الموعودة»، وهى تمتد حسب تعريف العهد القديم من التوراة: من جدول مصر إلى نهر الفرات، أى الأراضى الفلسطينية ولبنان وسوريا والأردن والعراق والكويت والسعودية والإمارات وسلطنة عمان واليمن! إلا أن ذلك مجرد قناع دينى يغطون به وجه الطبيعة العدوانية لقاعدة استعمارية، امتلأت بالمرتزقة من كل صوب بهدف واحد هو تطويع المنطقة العربية وإخضاعها للاستعمار، إما بالاحتلال المباشر لأجزاء منها أو بإرهاب البلدان الأخرى بالقوة العسكرية.
ولا يتخيل أحد أن إسرائيل ستبدل من طبيعة وجوهر وجودها بهدنة مؤقتة، أو بسلام مؤقت، لأن فى السلام نهاية ذلك الكيان ومقتله، لأن السلام يقضى على الدور الحقيقى لتلك القاعدة الاستعمارية التى تغطى الاستعمار بالدين والأساطير، وما زال شعارها واضحًا مدونًا على مدخل الكنيست، ويتم تلقينه فى المدارس.
يجدد كتاب «محو فلسطين» النظرة إلى حقيقة الكيان ومراميه، ويوضح أيضًا دور القوى المستنيرة فى الخارج التى تقف مع الحق الفلسطينى. جدير بالذكر أن الكتاب ترجمة ناهد راحيل ونهلة راحيل، والاثنتان مدرستان بكلية الألسن عين شمس.
يبقى أن نقول إن الهدنة مهما قيل عنها تمثل انتصارًا للمقاومة الفلسطينية التى وهى عزلاء أجبرت إسرائيل على توقيع اتفاقية أطلقت الدموع والصرخات فى المجتمع الاستعمارى الصغير.