رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

77 عامًا على اغتيال «غاندى»

غاندى: لا تيأس فالبحر لا تلوثه قطرة

 

الكتابة عنه تحملنى إلى آفاق تدهشنى، تحيرنى، وأتشكك هل مثل هذا الرجل الغريب، العجيب، حقًا مشى على هذه الأرض، وتنفس هواءها مثلنا؟

ولماذا لا يكون غريبًا وعجيبًا، وقد جاء من أرض الغرائب والعجائب والسِحر والمتناقضات، والحكمة وعبق التاريخ؟

هو المهاتما غاندى «2 أكتوبر 1869- 30 يناير 1948»، الأب الروحى للهند، وزعيم الساتياجراها، فلسفة الوصول إلى الحق دون عنف.

الرجل الذى عاش ضد القتل باسم الآلهة، يقتله هندوسى متعصب، من أنصار القومية الهندوسية، اسمه «ناتهورام غودسى»، فى حديقة «بيت بيرلا»، ظهر يوم 30 يناير 1948 وهو يصلى مع الحشود.

لم يعش غاندى ليرى ثمرة كفاحه، المؤسس على المقاومة السلمية والعصيان المدنى، ويكون شاهد عيان على وطنه «الهند»، الذى أصر على النهضة والتقدم ودستور علمانى يوحد 500 مليون شخص، ينتمون لعدد كبير من الديانات والأعراق والجنسيات والطوائف والمذاهب.

ألهمنى غاندى الحكمة والقدرة على تحويل العدو إلى صديق، وكيف تكون روح المرح والسخرية سلاحًا ضد الهزيمة أو اليأس، علمنى بساطة العيش، وكراهية المظاهر المزخرفة الفاسدة.

آمنت بما آمن به غاندى، أن الحقيقة تبقى حقيقة، حتى ولو لم يرها أحد، والخطأ خطأ حتى لو اعتنقه الجميع، يعاودنى الأمل حين أتذكر مقولته: «فى البداية يتجاهلونك ثم يسخرون منك ثم يحاربونك ثم تنتصر».

كان يرتدى ما يعرى جسده أكثر مما يخفيه، وحين سئل لماذا وهو من أسرة ميسورة، قال: «أنا أمثل أمة من العراة والجائعين، ولا أجرؤ على إلقاء خطبة عن الفقر وأنا أعيش حياة الأثرياء، واذا أراد الله أن يؤمن به الناس فى الهند، فعليه أن يظهر كرغيف من الخبز».

أدرك غاندى أن بداية تحرير الهند، هى تحرير الهنود أنفسهم من التفرقة الدينية والطائفية المتعصبة، إن الهندوكية، تقسم المجتمع الهندى إلى نظام من الطوائف، على القمة طائفة «البراهما» هى الطبقة العليا، لأنها تمثل إله الخلق والكون، ويكوّنها القائمون على الدين والفكر، وفى القاع طائفة «التشودرا»، حيث أصحاب المهن اليدوية المختلفة، وأصحاب الحرف العديدة، من طائفة القاع نشأت فئة «المنبوذين»، التى تقوم بأحط الأعمال، ولا تزاوج بين طائفتين مختلفتين، ولا يحق لإنسان تغيير طائفته إلى أن يموت.

قام غاندى بتزويج اثنين من طائفتين مختلفتين، بل من أبعد الطوائف، طائفة البراهما، وطائفة التشودرا، فى أول سابقة تاريخية، وأطلق على «المنبوذين» اسم «هاريجان»، أى أطفال الله.

فى 12 مارس 1930، بدأت مسيرة الملح الشهيرة، خرج غاندى من مدينته أحمد أباد، فى ولاية غوجارت سائرًا على القدمين إلى قرية داندى، فى مقاطعة سوارت، بدأ السير مع 99 من أتباعه، وحين وصل محيط العرب فى سوارت، كان قد مشى يومًا كاملًا قاطعًا 500 كيلومتر، وعلى طول الطريق، تحول الجمع الصغير المؤمن بالعصيان المدنى إلى الآلاف من الهنود فى المدن وفى القرى، احتجاجًا ضد احتكار الإنجليز الملح، وفرض ضرائب باهظة على تداوله.

أدرك غاندى أن الاستقلال السياسى لن يتحقق، طالما أن الهند تصدر إنتاجها الزراعى كمادة خام، ثم تشترى المنتجات الإنجليزية الجاهزة، ولهذا دعا الهنود إلى إحياء الصناعات القديمة، والحرف اليدوية التقليدية، والعودة الى النول اليدوى، والامتناع عن شراء الأقمشة الإنجليزية.

وقعت الإمبراطورية العريقة العتيدة، ماذا تفعل مع ملايين الهنود، الذين يحتشدون دون عنف، يسلمون أنفسهم للسجن والتعذيب دون مقاومة، ولا يشترون البضاعة الإنجليزية؟

وفى 15 أغسطس 1947، نالت الهند استقلالها، بفضل رجل آمن باللا عنف، والتف حول وطنه، لا حول السُلطة، وكل عام يحتفل الهنود بيوم اغتيال «الأب والروح العظيمة»، ويعلنون عن التمسك بمبادئه النبيلة، وفى العام الماضى، أقيمت جدارية له فى مدينة أحمد أباد.

يرتفع تمثال غاندى شامخًا، مترفعًا، فى ميدان البرلمان، فى لندن، عقر دار الإمبراطورية التى اعتقلت غاندى أكثر من مرة، وكانت جيوشها يقتلون الهنود العُزل المسالمين بالرصاص والعصا والكرابيج وهم متفاخرون بخيولهم وسطوتهم؟

هنيئًا لأم غاندى السيدة «بتليباى»، التى أنجبت للبشرية رجلًا استثنائيًا، أصبح يوم ميلاده عطلة وطنية فى بلده، واليوم العالمى لنبذ العنف.

تُرى هل أدركت بقلب الأم أنها تحمل فى أحشائها جنينًا هو خطر النبوءة والثورة، اللتان ستغيران شكل الوطن والعالم؟

إنهن الأمهات المنسيات دائمًا، بفضلهن يستمر عطاء نهر الحياة، متدفقًا إلى الأبد.

غاندى له مقولات كثيرة فى كل قضايا الحياة، أكثرها تأثيرًا فى نفسى هى: «يمكنهم أن يعتقلونى ويعذبونى ويدقون عظامى حتى الموت، لكن حينئذ سيحصلون على جسدى الميت، لا طاعتى وخنوعى».

شاهدت فيلم غاندى التحفة السينمائية المبهرة، أكثر من مرة، بطولة «بن كينجسلى»، وأخرجه «ريتشارد أتنبره» واستحق عن جدارة 8 جوائز أوسكار، منها أفضل ممثل وأفضل مخرج وأفضل فيلم، وهو مستوحى من قصة وتجارب غاندى هو شخصيًا منْ قام بكتابتها وتأريخها.

غابت الشمس عن الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس، لتشرق على أرض أنجبت واحدًا من عظماء التاريخ، مثل غاندى، الملهم ضد الإحباط واليأس، أليس هو القائل: «لا تيأس.. فالبحر لا تلوثه قطرة».

 

من بستان قصائدى

قبل ارتدائى الكفن ليس مقاسى

قبل رحيلى المفاجئ غير المبرر

عدينى يا حبيبة عمرى الضائع

أن تخرجى من وطأة المآسى

أن تبقى حُرة

عصية المنال

على رجال السُلطة وسُلطة الرجال

اهجرى المهرجانات والمعارض

ينظمها كهنة الِشِعر

حلفاء ثقافة الدولار والريال

حبيبة العمر المخطوف عنوة

وتاه فى ظلام الأزمنة

تذكرى دائمًا أن الألم

يحررنا من خداع الأشياء

وأن العيون الجميلة ليست عيون المها

ليست هى العيون السوداء أو الزرقاء

لكنها العيون التى يسكنها وجع القصائد

والعيون التى لا تغادر محطات البكاء