زكى نجيب محمود أول ناقد للتراث
أيام قليلة وتحل ذكرى ميلاد المفكر الكبير زكى نجيب محمود الذى ولد فى ١ فبراير ١٩٠٥، وتوفاه الله فى ٨ سبتمبر ١٩٩٣. ولقد عرفت هذا المفكر العملاق من خلال محاضراته فى كلية الآداب جامعة القاهرة فى أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضى، وازدادت معرفتى به لأنه من قرية ميت الخولى عبدالله التى تلتصق ببلدتى الزرقا بمحافظة دمياط. وكنا كطلاب نحرص على حضور محاضراته وندواته لننهل من فيض علمه، وفكره الذى يعمل العقل فى نقد التراث.
زكى نجيب محمود هو عملاق الفكر العربى والفيلسوف والأديب، الذى يعد من أبرز المفكرين فى القرن العشرين، تميز بأسلوبه السلس الرصين الذى جعله يصل إلى شرائح واسعة من القراء، رغم تناوله العميق القضايا الفلسفية والمعرفية، وترك إرثًا فكريًا غنيًا تجاوز أربعين كتابًا، تناول فيها قضايا متنوعة كالفلسفة الوضعية، ونقد الميتافيزيقا، وتجديد الفكر العربى. وكان يؤمن بأن الفلسفة يجب أن تكون مرتبطة بالحياة اليومية، وأنه على المفكر أن يسهم فى حل مشكلات مجتمعه، ومن أهم مؤلفاته «المنطق الوضعى»، و«خرافة الميتافيزيقا»، و«نحو فلسفة علمية». كما أسهم فى تطوير الفكر الفلسفى العربى، ودعا إلى التفكير النقدى والعلمى، وبرز دوره فى نقد التراث الفكرى العربى بشكل بناء، وترك بصمة واضحة فى الحقل الثقافى والفكرى العربى، وظلّ تأثيره مستمرًا حتى يومنا هذا، حيث يعتبر مرجعًا مهمًا للباحثين والدارسين للفلسفة والأدب. إن زكى نجيب محمود ليس أستاذًا فى الفلسفة فحسب، ولكنه أديب وناقد له دراسات ونظريات مشهود بها فى مجال النقد الأدبى، فهو واحد من الرواد الذين انصبت معظم آرائهم النقدية على التعامل مع الشكل على أنه أساس التعامل مع العمل الأدبى، كما أنه ربط النقد بالعلوم الأخرى خاصة الفلسفة وعلم الاجتماع، حيث تعددت ميوله الفلسفية والأدبية معًا، ودعا إلى أن يكون النقد علمًا قائمًا على أسس ونظريات علمية. وتتجلى الجوانب النقدية عند زكى نجيب محمود فى كتاباته النقدية المتعددة فى دراساته لشعر محمود عباس العقاد وتحليله النقدى لكثير من قصائده التى منها «حانوت القيود»، و«معبد أنيس الوجود»، و«ملحمة الشيطان»، و«العقاب الهرم»، وغيرها، ولم يتوقف الجانب النقدى عنده على الشعر فقط، إنما تناول آراءه النقدية، خاصة ما كان منها مع المازنى فى كتابهما النقدى «الديوان»، وموقفهما النقدى من شعراء تلك الفترة. كما كانت لزكى نجيب محمود آراء نقدية ورؤى ثاقبة فى الشعر الحديث تجلت فى دراسته النقدية للبارودى وشعره، ومطران وآرائه النقدية، وأمين الريحانى وفلسفته الإنسانية، وكذلك دراسته عن بعض الشعراء أمثال أبى القاسم الشابى، وصالح الهمشرى، وبشير التيجانى، بالإضافة إلى آرائه النقدية فى دراساته فى الشعر المعاصر مثل دراسته حول صلاح عبدالصبور وديوانه الشهير «الناس فى بلادى»، ودراسته لشعر أحمد عبدالمعطى حجازى من خلال ديوانه «مدينة بلا قلب»، ودراسته لأدونيس فى «أغانى مهيار الدمشقى»، ودراسته لبدر شاكر السياب فى ديوانه «أنشودة المطر». ولم تتوقف دراساته النقدية عند تحليل بعض دواوين الشعر المعاصر، بل ظهرت فى عرضه ودراساته لأبرز الاتجاهات النقدية قديمًا وحديثًا، ورواد هذه الاتجاهات من أمثال عبدالقاهر الجرجانى والآمدى قديمًًا، وأمثال ورد زورث وإليوت وبلاكمير فى الغرب حديثًا، والعقاد وطه حسين فى الشرق. كما ظهرت قراءاته النقدية فى تحليله لكتابى «على هامش الأدب» و«النقد» لعلى أدهم، وكتاب «نماذج فنية من الأدب والنقد» لأنور المعداوى، ومعارضته بعض ما جاء فى الكتابين من آراء ونظريات نقدية أوصلته لاختيار منهج نقدى تفرد به. زكى نجيب محمود لم يكن مجرد باحث فى الفلسفة، بل كان ناقدًا صريحًا للتراث. ربط بين حبه العميق للتراثين العربى والإسلامى وبين إيمانه الراسخ بأهمية العقل والنقد فى فهمه وتقييمه. لم يكن يرى فى التراث كتابًا مقدسًا لا يُمس، بل كان يعتبره أرضًا خصبة للحوار والتفكير النقدى. ورأى أن التراث ليس كتلة متجانسة من الأفكار والقيم، بل هو خليط من الجيد والسيئ، من العقلانى والخرافى، ومن العلمى والأسطورى، لذلك، دعا إلى ضرورة الفصل، والتمسك بالقيم والمعارف التى تتوافق مع العقل والعلم، والتخلى عن كل ما هو متناقض معهما. ولم يكن هدفه نبذ التراث بالكامل، بل تجديده وتطويره، وجعله يتماشى مع متطلبات العصر. ويعتقد أن التراث يجب أن يكون مصدرًا للإلهام والتوجيه، وليس قيودًا تحول دون التقدم والتطور، لذلك، كان يرى أن العودة إلى التراث يجب أن تكون عودة نقدية، تهدف إلى استخلاص الدروس والعبر، وليس إلى تقليد الأجداد. ومن أهم إسهامات زكى نجيب محمود فى نقد التراث هو كشفه عن بعض الخرافات والأساطير التى انتشرت فى الثقافتين العربية والإسلامية، وبيان تناقضهما مع العقل والسلم. كما انتقد بعض التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية، ودعا إلى قراءتها بطريقة نقدية وعقلانية. باختصار كان ناقدًا شجاعًا للتراث، سعى إلى تطوير الفكر العربى وتحريره من القيود التقليدية. ورغم تعرضه للكثير من الانتقادات، فإن أفكاره لا تزال محل اهتمام الباحثين والمفكرين حتى يومنا هذا. رحم الله المفكر الكبير والجليل زكى نجيب محمود أول من استخدم التفكير النقدى فى فهم التراث، وأول من قال عنه إنه ليس كتابًا مقدسًا.