رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جاهلية قُطب ما زالت تعشعش فى تنظيمات الإخوان!

 

لم يكتفِ سيد قُطب، مُنظِّر جماعة الإخوان، بالحكم على المجتمع المصرى بالجاهلية، إنما عمّم فكرته وحكمه على البشرية كلّها، قائلًا: «ارتدَّت البشرية إلى عبادة العباد وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظلّ فريق منها يردد على المآذن، لا إله إلا الله»، كما جاء فى الجزء الرابع من كتابه «فى ظلال القرآن».. وهذا هو بالضبط، حُكم التنظيمات المتطرفة اليوم على المجتمعات كلها.. وإذا كان هناك من يتعاطف مع قُطب، فالأولى أن يكون التعاطف مع الحقّ أكثر، وأن يعلم هؤلاء المتعاطفون، أن سُنة سيد قُطب التى سنَّها، نتيجة قراءة راديكالية للإسلام، جعلتنا ندفع ثمنها آلاف أرواح الشباب، فضلًا عن انعدام الأمن والأمان، وتعطُل التنمية.. لقد أساء إسلام الدولة- الذى أرساه قُطب- كثيرًا إلى إسلام الدعوة، ونسخ إسلام العنف إسلامَ التسامح، وأفسدت تلك النظريات حياتنا.. وإن زَجَّ الدين فى المعارك السياسية السُلطوية، هو إساءة كبرى إلى الدين، وتلويث لطهارته.

ربما يستغرب كثيرون أننا نتحدث اليوم عن سيّد قُطب، الذى فارق الدنيا عام 1966، بعد أن دبَّر انقلابًا ضدّ قيادة ثورة يوليو، التى كانت تحكم مصر آنذاك، حيث تزعّم قُطب تنظيمًا داخل جماعة الإخوان، وعمل على تغيير نظام الحكم بالقوة فى مصر.. لكن الحديث عن سيّد قُطب اليوم ليس ترفًا فكريًا، يلوكه التيار التنويرى بلا أى معنى!.. ومن يفكّر بتلك الطريقة هو جزء من المشكلة، لكونه لا يعلم مدى تأثير سيّد قُطب، حتى يومنا هذا، فى التنظيمات الإسلاموية المتطرفة، وإنّ أىّ مشكلة لا تُعالج من جذورها ستنبعث مرة أخرى، بدليل، أن مثل هذه التنظيمات المُتطرفة تتوالد، بكلّ يسر وسهولة، لأن سيّد قُطب لا يزال يحكم فكر وسلوك هؤلاء، من قبره!! كما يقول أحمد الرُمح، فى بحثه بمركز «حرمون» للدراسات المعاصرة.. وما زالت أفكاره، هى ما تؤمن به التنظيمات الإسلاموية المتطرفة كلّها، بدءًا من تنظيم التكفير والهجرة مرورًا بتنظيم القاعدة، ووصولًا إلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وحتى جبهة النصرة، أو هيئة تحرير الشام، بقيادة أبومحمد الجولانى فى سوريا الآن.

وبالعودة إلى البدايات، كما يقول حلمى النمنم، فى كتابه «سيد قُطب وثورة يوليو»، فإنه بعد نجاح ثورة يوليو 1952؛ انتسب سيّد قُطب إلى جماعة الإخوان، إثر خلافه مع قيادة الثورة فى فبراير 1954، حيث كان داعمًا لها، وفى مقام مستشار للضباط الأحرار، وهو ما أكده فى كتابه «لماذا أعدمونى»، قائلًا: كنتُ أعمل مع مجلس قيادة الثورة أكثر من اثنتى عشرة ساعة يوميًا.. وبذلك، بدأت الخصومة معهم.. وعندما شكَّل عبدالناصر، أول حكومة للثورة، لم يختر قُطب فى منصب وزير التعليم؛ وهو ما كان يرغب فيه قُطب؛ فحدث خلاف معهم انتهى بقطيعة بينهم.. وعندما أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بترخيص جديد لكلّ المجلات والصحف المصرية، وكان قُطب قد كُلّف برئاسة تحرير صحيفة «الإخوان المسلمون»، وعبدالناصر يشغلـ آنذاك منصب وزير الداخلية، فجاءه قُطب ليحصل على ترخيص للصحيفة، وكانت بينهما معرفة جيدة، كونهما من حيث الأصل من مدينة واحدة، هى أسيوط، فسأله عبدالناصر: «هل أنت من الإخوان يا أخ سيّد؟»، فأجابه: «لم أكن فكنتُ».

شكّلت مجموعة من الإخوان تنظيمًا داخل الجماعة، ترأسه قُطب، اشتهر إعلاميًا باسم «تنظيم 65»، وإخوانيًا بتنظيم «العَشَرات»، لقضائهم عشر سنوات بالمُعتقل، خمسة منها أيام عبدالناصر، والأخرى أيام أنور السادات، حتى تم العفو عنهم بصفقة إخوانية- ساداتية، لتوسيع عمل ما أسموه بـ«الصحوة الإسلامية» من جهة، ولمواجهة التيارين الناصرى والشيوعى فى الجامعات، من جهة أخرى.. وكان من مخططات التنظيم، تفجير القناطر الخيرية ومحطات الكهرباء ومراكز الهاتف وشركة المياه، لإحداث فوضى، يتم خلالها اغتيال قيادات ثورة يوليو، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر، ويتولى قُطب بعدها قيادة الدولة المصرية.. فصدر الحكم عليه مع ثلاثة من رفاقه بالإعدام، وعلى بقية أفراد التنظيم بالمؤبّد، وتم تنفيذ الحكم، بالرغم من مناشدات رسمية وإسلامية لعبدالناصر، وقد أصدر مرشد الإخوان آنذاك، حسن الهضيبى، كتابًا، بعنوان «دعاة لا قضاة»، برَّأ من خلاله الجماعة من «تنظيم 65» وأفكار سيّد قُطب.

فى مقر الإخوان سنة 1977، يأتى الخبر إلى المرشد، بأن أحكامًا بالإعدام صدرت على أعضاء من التكفير والهجرة، بعد اغتيالهم الشيخ حسين الذهبى، وزير الأوقاف آنذاك؛ فكتب المرشد عمر التلمسانى رسالةً بعنوان «احذروا تنظيم العَشَرات، فهم ليسوا إخوانًا»!!.. وأُرسلت إلى الشيخ مناع القطان، مسئول الإخوان فى السعودية، وإلى الشيخ يوسف القرضاوى فى قطر، وإلى بقية مسئولى الإخوان فى الخليج، قال فيها: هؤلاء هم تنظيم سيد قُطب «تنظيم 65»، من أصحاب الفكر التكفيرى الذين قضوا فى السجن عشر سنوات، وعندما خرجوا- بعد أن أطلق السادات سراحهم- أطلقنا عليهم تنظيم العًشًرات، هؤلاء ينتمون إلى أفكار غير أفكارنا، كما يقول ثروت الخرباوى، فى كتابه «سر المعبد؛ الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين».

زعيم التكفير والهجرة، شكرى مصطفى، كان تلميذًا لقُطب، ورفيقه فى المعتقل، وهو معجب جدًا بأفكاره، ومن تنظيم «العَشَرات» سابقًا، وكان التلمسانى بعد تفاهمه مع السادات، لا يريد أن تُوصَم الجماعة بأى عمل عُنفى.. ففى رسالة التلمسانى التى ذكرنا بعضًا منها آنفًا، أورد أسماء بعض أعضاء تنظيم «العَشَرات»، ومنهم محمود عزت ومحمد بديع!!.. حاول مصطفى مشهور أن يُبرر رسالة التلمسانى، حتى لا يُغْضِب تنظيم «العَشَرات»!!، ولكن كان الأمر قد انتشر.. فالتلمسانى يعرف أفكار قُطب جيدًا، وكذلك تنظيم «العَشَرات»، لأنه كان معهم فى المعتقل، وتم انتدابه من الجماعة لمناقشة أفكار قُطب الراديكالية فى المعتقل، وهو مُدرك خطورتهم، حتى قيل بأن هذا التنظيم خطف قطار الإخوان، باتجاه آخر غير اتجاه المؤسِس حسن البنّا.

بعد أحداث يناير2011، جاء القرضاوى إلى مصر، ووجد هؤلاء يقودون الإخوان، محمد بديع، ومحمود عزت، وخيرت الشاطر، ومحمد مرسى، ويدافعون بشدة عن أفكار قُطب؛ فسأل الدكتور سليم العوّا: «مَن هؤلاء؟»، متسائلًا عن فكرهم.. فأجابه العوا: «إنهم تنظيم العَشَرات يا مولانا».. فردّ القرضاوى فاغرًا فاه: «أهُم هُم؟.. أهؤلاء الذين حَذَّرنا منهم التلمسانى فى رسالته الشهيرة؟.. أأصبحوا الآن قادة للإخوان!!.. إنا لله وإنا إليه راجعون».. وأدرك القرضاوى أن الفكر القُطبى انتصر على الفكر البناوى نسبة إلى حسن البنا، وأن الجماعة ذاهبة إلى مآلات خطيرة، كما روى ثروت الخرباوى.

●●●

مَنْ درَس فكر سيد قُطب، سيتبين له أن فكره يقوم على أربع مصطلحات فقط.. هذا الفكر المنبثق عن تلك المصطلحات، يوجب سلوكًا مُحددًا، يجب أن يلتزم به من يؤمن به، وهو ما تؤمن به التنظيمات الإسلاموية المتطرفة كلّها.. هذه المصطلحات الأربعة هى، «العزلة الشعورية»، و«العزلة الجغرافية»، وهى ناتجة عن المصطلحين الاثنين الأساسيين اللذين نظَّر لهما قُطب، وهما «جاهلية المجتمع» و«الحاكمية»، وقد استعار قُطب المصطلحات الأربعة من آخرين؛ وقام بأدلجتها؛ والتعبير عنها بأسلوبه الأدبى؛ ولكنها فى الحقيقة هى ليست من بنات أفكاره؛ ولكن كان لها دورها فى ثقافة وسلوك التنظيمات المتطرفة.

■ أولًا: جاهلية المجتمع.. إذ حَكَمَ سيد قُطب فى أفكاره المتأخرة التى كتبها فى المعتقل، بعد خلافه مع مجلس قيادة ثورة يوليو، بأن المجتمع المصرى مجتمع جاهلى، وبما أنه لا يرفض الحُكم الناصرى الذى يعُده قُطب حُكمًا مخالفًا لحاكمية الله، ولا يعمل بشرع الله، فبالتالى كلّ من رضِيَ بحكم عبدالناصر، وانصاع له، فهو جاهلى، ولو أدّى شعائر الإسلام، ونطق الشهادتين!!.. وحول تلك المسألة قال قُطب: يدخل فى إطار المجتمع الجاهلى تلك المجتمعات التى تزُعم لنفسها أنها مسلمة.. لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبُدية لغير الله، ولكنها تدخل فى هذا الإطار، لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده فى نظام حياتها.. فهى  وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، تُعطى أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها، وتقاليدها.. موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلّها يتحدد فى عبارة واحدة، أوردها قُطب فى كتابه «معالم فى الطريق»: أن يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها.. وشبّه قُطب المجتمعات الإسلامية بالمجتمعات الجاهلية قبل نزول رسالة الإسلام، من خلال مقارنة غريبة، إذ قال فى «فى ظلال القرآن»: إنما كان شركهم الحقيقى يتمثل ابتداءً، فى تلقّى منهج حياتهم وشرائعهم من غير الله، «لا عبادة الأصنام تقربًا واستشفاعًا إلى الله»، الأمر الذى يشاركهم فيه اليوم أقوامٌ يظنون أنهم مسلمون على دين محمد، كما كان المشركون يظنون أنهم مهتدون على دين إبراهيم.

هذا بعض ما قاله قُطب عن جاهلية المجتمع.. ولو تدبّرنا ثقافة وسلوك التنظيمات الإسلاموية المتطرفة فى هذا الباب، فسنجد أنها لم تخرج قيد أنملة عن أفكار سيّد قُطب، التى تُدَرَّس فى كهوف تلك التنظيمات حتى يومنا هذا، وهى قاموسهم المُقدس «فكريًا»، كما أن فتاوى ابن تيمية قاموسهم المُقدس «فقهيًا».. وكنا نعرف ذلك نظريًا، ولكن عندما تمت أسلمة الثورة السورية، وجاء المهاجرون القُطبيون المنتمون إلى السلفية الجهادية، رأيناهم كيف يُطبقون ذلك.. فكان حُكمهم على المجتمع السورى بأنه مجتمع جاهلى، سواء أكان مع النظام أم مع الثورة.. فمن لا يقبل بالحاكمية الإلهية، ولا يُكفِّر من لا يقبل بها، فهو من هذا المجتمع الجاهلى، مهما فعل فى الثورة.. ولذلك، اعتبروا كل من لا يقبل بأفكارهم هم «صحوات»، وقد أعدموهم فى معتقلاتهم، واغتالوا عددًا كبيرًا من الناشطين الثوريين الإعلاميين وغيرهم، بتلك الذريعة.. بل أكثر من هذا، حتى التنظيمات الجهادية الإسلاموية كـ«أحرار الشام» و«أحفاد الرسول» وغيرهما، حُكم عليهم بالجاهلية، ولاقوا إعدامات بالجملة من تنظيم «داعش»، بذريعة جاهليتهم، ولم يسلم بعض من المدنيين من تلك الفتوى.. فكثيرون قضوا نحبهم بسبب هذه الرؤية القُطبية، ولذلك نقول: ما زال سيّد قُطب يقودهم من قبره!

■ ثانيًا: العزلة الشعورية.. وهى نظرية أسسها سيد قُطب، عندما أدلجها فى كتابه «فى ظلال القرآن»، كنتيجة حتمية لقناعته بجاهلية المجتمع قائلًا: «هنا يرشدنا الله إلى اعتزال معابد الجاهلية، التى هى المساجد التى نعبد الله فيها، واتخاذ بيوت العُصبة المسلمة مساجد نحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلى».. وشدَّد على وجوب الإيمان بتلك العزلة، ليصِحَّ إيمان عضو الجماعة، فقال، فى كتابه «فى ظلال القرآن»: «لا نجاة للعُصبة المسلمة فى كل أرض من أن يقع عليها العذاب، إلا بأن تنفصل عقيديًّا وشعوريًّا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها، حتى يأذن الله لها بقيام دار إسلام تعتصم بها، وإلا أن تشعر شعورًا كاملًا بأنها هى الأمة المسلمة، وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية، وأهل جاهلية».. هنا، ألزم قُطب كل منتسب إلى تلك التنظيمات المتطرفة فى الإيمان بجاهلية المجتمع!!، لذا يجب أن يعتزله.. ولكون العزلة الجغرافية غير ممكنة التحقق، أيام سيد قُطب، فلا بد من أن يعيش العزلة الشعورية أولًا.. لذلك، حتى أعضاء جماعة الإخوان آنذاك، أطلقوا على المؤمنين بأفكار قُطب، قبل انكشاف تنظيمهم ومحاكمتهم، اسم «الغُرباء»، لكونهم غريبين عن الجميع فى كلّ شىء.

والعزلة الشعورية، هى صناعة رابطة نفسية روحية عَقَدية بين أعضاء التنظيم، ليعيش العضو تلك العزلة مع وجوده فى الجغرافيا الجاهلية.. وهذه العزلة تمنعه من الذوبان فى المجتمع الجاهلى، والاندماج فيه، فلا تغدو ثقافة المجتمع الجاهلى ذات تأثير فيه، وهى علميًا مسألة نفسية، ولو أننا حللناها، فسنجد أنها خادمة لفكرة طاعة الأمير دون أى مخالفة، وخادمة كذلك لتماسك التنظيم.. وإن تحليل العزلة الشعورية، يُظهر أنها نوع من إعادة صياغة الدين، وفق مفاهيم سياسية خادمة لمشروعية التنظيم بطريقة دينية، فهى تصنع عقيدة سياسية دينية مُغلقة، لا تقبل مجرد النقاش فيها مع الآخرين، وتستهزئ بأى فكر آخر يخالفها!!.. ومن سلوكياتها، خلوة العضو المنضم لتلك الجماعات مع نفسه، مرتين يوميًا على الأقل، ومرة أو أكثر أسبوعيًا مع أعضاء جماعته، ليتخيلوا أنفسهم أنهم يعيشون وحدهم فى مجتمع مثالى إسلامويًا، لا يشاركهم فيه أحد من المجتمع الجاهلى!!.. فبالعزلة الشعورية الفردية، يتلو الفرد أذكارًا دينية، ويقرأ القرآن وتفسيراته من خلال شيوخ تلك التنظيمات شرطًا!!.. وتُمنع عليه القراءة لأى عالم إسلامى آخر، مهما علا كعبه.. أما فى العزلة الشعورية الجماعية، فيتحلقون حول بعضهم، ويشبّكون أيديهم، ويقرأون وِرْدًا دينيًا مملوءًا بالدعاء من أجل نُصرة الجماعة، وينتهى الوِرْد بالدعاء من أجل تحقيق حاكمية الله عزّ وجل التى بايعوا أميرهم عليها، أو الموت دونها!.

ويترتب على العزلة الشعورية سلوكيات أخرى، تتمثل بأن عضو التنظيم لا يحقّ له أن يخالط الآخرين المختلفين مع أيديولوجيته، ولا يشترى من محلّ طعام أو لباس، إلا من عضو معه فى التنظيم، وهذا موجود فعلًا لدى الكثيرين منهم داخل المجتمع المصرى.. والأكثر خطورة، أن العزلة الشعورية يجب أن تولِّد اعتقادًا عند العضو بأن الأخ «الأيديولوجى» أقرب وأهمّ من الأخ «البيولوجى»!!.. كذلك فإن صاحب العزلة الشعورية لا يُصلّى الجمعة، اقتداءً بسيّد قُطب، الذى كان يُعدّ كل مساجد العالم مساجدَ ضرارٍ لا تجوز الصلاة فيها!!، لكونها مُقدمة للانخراط بالمجتمع الجاهلى.. هذه البدعة القُطبية تناولتها التنظيمات المتطرفة إسلامويًا، وعملت بها، وطبقتها تمامًا، كمرحلة انتظار تحقيق الحلم، بتحقيق النصر وإقامة مجتمع إسلاموى، وزادت عليها، من أفكار أبى الأعلى المودودى، ما أُطلق عليه المودودى «التميز عن المجتمع» حتى فى الهيئات، فجاء كتابه «الحِجاب» سنة 1964، ومعه دخلت ظاهرة الحجاب العالم الإسلامى عصر الصحوة، وذكوريًا، كان التميز بـ«لحية القيامة»، حيث تترك اللّحية دون تهذيب مهما طالت، وهذا اعتقاد يهودى لا علاقة للإسلام به، وكذلك أُدخل الثوب الباكستانى، أو ما يُعرف خطأً بالثوب الأفغانى، حيث يكون ثوب الرجل قصيرًا جدًا، وتحته بنطال من جنسه، الذى بات يتميز به أعضاء تنظيم القاعدة سابقًا وطالبان، وكذلك فيما بعد عناصر «داعش» و«النصرة».

■ ثالثًا: العزلة الجغرافية.. ولها مرحلتان: مرحلة قبل التمكين، وأخرى بعد التمكين.. فقبل التمكين تكون من خلال معسكرات صغيرة، يخرج إليها أعضاء التنظيم، للتدريب على الرياضة واستخدام السلاح، بحجة أنهم ذاهبون إلى الترفيه فى الإجازات، ولها بُعدٌ فقهى كذلك، لإسقاط فرض صلاة الجُمعة عن الجماعة ومفارقة الجماعات المسلمة.. فكما هو معلوم فقهيًا، أن صلاة الجمعة فى المسجد وحضور خطبتها فريضة، قال تعالى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(الآيتان 9 و10: الجمعة).. لذلك بخروجهم يوم الجمعة إلى الريف، تسقط عنهم فريضة الجمعة!!.. أما بعد التمكين، فهى الحيّز الجغرافى الذى يعيش فيه التنظيم بعد أن يستغلّ فوضى ما، فى بلدٍ ما، فيتخذ لنفسه معسكرات منعزلة جغرافيًا عن المجتمع الجاهلى، يعيش فيها عناصر التنظيم مع أسرهم، بحيث تتربى المرأة والأطفال بالعزلة الجغرافية، وتعيش أفكارها، وتمارس حياتها على نظم وقوانين الجماعة، ولا تقبل قوانين غيرها، حتى لو كانت إسلامية!!.. وغالبًا ما تؤدى العزلة الجغرافية إلى ما يشبه الانفصال عن الوطن.. وهذا ما مارسته العائلات الداعشية، حتى بعد أسرها واعتقالها فى مخيم «الهول» بمحافظة الحسكة السورية، إذ ما زالت تعيش العزلة الشعورية والجغرافية حتى داخل المعتقل.

وقد أطَّر سيد قُطب العزلة الجغرافية لأنصار تنظيمه، ولمن آمن بأفكاره من بعده، كخطوة تلى العزلة الشعورية عند التمكين، فى تفسير الآية الكريمة: ﴿وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾(يونس:87)، بعد أن قرر فيما سبق، دخول مسلمى العصر فى إطار المجتمع الجاهلى، حيث قال: «هنا يرشدهم الله إلى اعتزال معابد الجاهلية- أى مساجدها- واتخاذ بيوت العُصبة المسلمة مساجد تحسُّ فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلى».. وقد علل قُطب نظريته تلك بتكفير المجتمعات كلها، فشرعنها قائلًا: إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم، قاعدة التعامل فيه هى شريعة الله والفقه الإسلامى، كما يقول فى «فى ظلال القرآن».. وهذا الأمر تحقق لتلك الجماعات الإسلاموية المتطرفة، عندما تسللوا إلى سوريا، بحجة نُصرة السوريين المظلومين ضد نظام الأسد، ولكنهم بنوا معسكراتهم وعاشوا فى مناطق منعزلة جغرافيًا عن المجتمع الجاهلى، فى مجمعات سكنية لا يساكنهم فيها أحدٌ ممن لا يؤمنون بأفكارهم، كما فعلت النصرة فى إدلب.. وعندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» على مناطق شاسعة من سوريا، بقى أعضاؤه يعيشون فى مناطق سكنية خاصة بهم، لتطبيق العزلة الجغرافية، وكذا فعل تنظيم جبهة النصرة، قبل تغيير اسمه، إلى «هيئة تحرير الشام».. ومن أكثر المؤمنين بالعزلة الجغرافية، الحزب التركستانى، وكذلك تنظيم «حُرّاس العقيدة»، الموجودان فى سوريا اليوم، وهؤلاء مؤدلجون بدرجة متطرفة جدًا.

■ رابعًا: الحاكمية.. ويُعدُّ سيّد قُطب أهمّ مُنظرى الحاكمية عربيًا، وتبنت التنظيمات المتشددة أفكاره، وعملت بها.. لقد طرحها من خلال كتابيه «فى ظلال القرآن»، و«معالم فى الطريق».. يبدأ بالتنظير لها بقوله، «والذين لا يفرِّدون الله بالحاكمية، فى أى زمان وفى أى مكان، هم مشركون، لا يُخرجهم من هذا الشرك أن يكون اعتقادهم، أن لا إله إلا الله مجرد اعتقاد، ولا أن يقدموا الشعائر لله وحده».. وينتج عن هذا الاعتقاد القُطبى تكفير المجتمعات المسلمة كلّها، مهما فعلت، وهذا ما انتهى إليه قُطب نفسه بقوله، «ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة ولا مجتمع مسلم».. هذا الاعتقاد القُطبى مخالف لهَدى النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، الذى عدَّ النجاشى مؤمنًا، لمجرد اعتقاده بالله، فصلّى عليه حين موته، على الرغم من أن النجاشى لم يُطبّق شيئًا من الحاكمية التى ابتدعها قُطب.. لكن عدم تطبيق حاكمية الله، عند قُطب، يُلغى وجود الإسلام، وبذلك يكون كل مسلم، وإن أدى الشعائر ونطق الشهادتين، من أهل الجاهلية، دون أدنى شك عنده، إذ قال، «إن وجود الإسلام قد توقّف.. هذا طريق، والطريق الآخر أن تظن هذه الحركات لحظة واحدة أن الإسلام قائم، وإن هؤلاء الذين يدّعون الإسلام ويتسمَّون بأسماء المسلمين، هم فعلًا مسلمون.. فإن سارت الحركات فى الطريق الأول سارت على صراط الله وهداه.. وإن سارت فى الطريق الثاني، فستسير وراء سراب كاذب»، كما جاء فى كتابه «العدالة الاجتماعية».

ثم يكشف قُطب فى «معالم فى الطريق»، عن البعد السُلطوى والسياسى لمفهوم الحاكمية، بقوله: «إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان، إفراده بها اعتقادًا فى الضمير وعبادة فى الشعائر وشريعة فى واقع الحياة».. ويبدو البعد السياسى لمفهوم الحاكمية واضحًا عنده، إذ يقول فى نفس الكتاب: «وليس الطريق أن نُخلِّص الأرض من يد طاغوت رومانى أو طاغوت فارسى إلى يد طاغوت عربى، فالطاغوت كله طاغوت، إن الأرض لله.. وليس الطريق أن يتحرر الناس فى هذه الأرض من طاغوت إلى طاغوت، إن الناس عبيد الله وحده لا حاكمية إلا لله، لا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، وهذا هو الطريق».. إنه ينطلق من الحاكمية، ويريد السياسة والسُلطة، وهذا واضح فى قوله، «إفراد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان إفراده بها، اعتقادًا فى الضمير وعبادة فى الشعائر وشريعة فى واقع الحياة».

●●●

وأخيرًا.. فإن هذه النظرية القُطبية للحاكمية تحكم التنظيمات الإسلاموية المتطرفة كلها، وتعتبر عدم الإيمان بالحاكمية خروجًا عن الإسلام، وإيمانًا بالحكم البشرى التى وضعته مقابلًا لحكم الله عزّ وجل.. وكان تنظيم «داعش» يدرّسها فى معسكرات التوبة التى شيدها للسوريين المعتقلين.. المشكلة عند قُطب، أنه قدَّم مفهومًا ثيوقراطيًا لإدارة المجتمع والدولة، وعلى نهجه سارت التنظيمات الجهادية.. نتج عن ذلك، أن التنظيمات المتطرفة كلها آمنت بأفكاره، فحكمت بأن العلمانية والديمقراطية والقومية شِركٌ، لكونها خروجًا عن حاكمية الله سبحانه، واستلهموا من حاكمية سيد قُطب، تكفيرَ من يؤمن أو يدعو إلى هذه الأشياء، واعتبار المجتمع يعيش جاهلية!!.. فلا يخدعنك أحد اليوم من تنظيمات الإخوان، أنه يريد حرية الشعوب، وإشاعة الديمقراطية التى تكفل لها الحياة الكريمة، فما بعد تكفير المجتمعات من خطيئة، يمكن أن يرتكبها أحد فى حق هذه الشعوب!!.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.