واشنطن وأنقرة.. صراع فوق صفيح سوريا الساخن!
تحت ذريعة الاستعداد لمواجهة تنظيم داعش على الأراضى السورية، بدأ التحالف الدولى، الذى نشأ قبل سنوات لمواجهة هذا التنظيم، والذى تقوده الولايات المتحدة، بإنشاء قاعدة عسكرية داخل مدينة «عين العرب» كوبانى، بريف حلب الشرقى، شرق نهر الفرات.. إذ تدفقت عشرات الشاحنات والتعزيزات الأمريكية، من إقليم كردستان فى العراق إلى الأراضى السورية قبل أيام، بالتزامن مع استمرار المواجهات منذ أسابيع، بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المدعومة أمريكيًا، وفصائل مسلحة موالية لتركيا شمال شرق سوريا.. وكان سبقها بأيام، دخول رتل جديد من التعزيزات الأمريكية، ضم نحو خمسين شاحنة إلى نفس عين العرب.. بعدها، استقدمت قوات التحالف رتلًا من التعزيزات اللوجستية، تضمنت غُرفًا مُسبقة الصنع وكاميرات مراقبة وآلات لحفر الخنادق، وكتل أسمنتية وصهاريج وقود، بعد أن وصلت دورية عسكرية من عدة عربات تابعة لقوات التحالف إلى عين العرب، فى الرابع والعشرين من ديسمبر الماضى، حيث أنشأ عناصرها مبنى مؤقتًا للإشراف على المفاوضات بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية، بهدف الحد من التصعيد فى المنطقة، وتجنيبها المزيد من الدمار، خصوصًا أن الإدارة الأمريكية، التى التقى ممثلون عنها، قبل أكثر من أسبوع، قائد الإدارة الجديدة فى دمشق، أحمد الشرع، حذرت من احتمال استغلال داعش للتغييرات التى شهدتها سوريا، لمحاولة تنفيذ عمليات إرهابية.. كما وجهت واشنطن رسائل ناعمة إلى تركيا، بعدم مهاجمة «قسد»، التى دعمتها على مدى السنوات الماضية، إلا أن أنقرة أكدت أنه لا خيار أمام القوات الكردية إلا إلقاء السلاح!!.
ومع أن متحدثة البنتاجون، سابرينا سينج، أكدت عدم وجود أى خطط أمريكية لبناء هذه القاعدة العسكرية، قائلة، «لست متأكدة من مصدر هذه المعلومات»، وأوضحت أن قوات «قسد» شركاء للأمريكيين فى المنطقة هناك، إلا أن المرصد السورى لحقوق الإنسان، أكد أن «قوات التحالف الدولى تواصل استقدام تعزيزات عسكرية، برًا وجوًا، إلى مناطق شمال وشرق سوريا».. وقد هبطت طائرة أمريكية مُحملة بمعدات عسكرية ولوجستية، انطلقت من العراق، فى إطار استمرار تعزيز القواعد العسكرية فى المنطقة، بعد ساعات من وصول معدات عسكرية وأسلحة متطورة على متن طائرة شحن، برفقة مروحية عسكرية، قادمة من العراق أيضًا، إلى قاعدة «خراب الجير» بريف رميلان شمال الحسكة، التى تقع ضمن تسع قواعد أمريكية، تنتشر فى سوريا، الأولى فى منطقة التنف بريف حمص الشرقى، واثنتان فى ريف دير الزور، وستة فى محافظة الحسكة.
وهنا، نسأل: هل تتواجه تركيا والولايات المتحدة على الأراضى السورية؟.
لكن، قبل الإجابة عن هذا السؤال.. تجدر الإشارة إلى أن 60% من النفط السورى يوجد داخل وحول كوبانى.. وتسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز سيطرة قوات سوريا الديمقراطية «قسد» على شمال سوريا، مما يضع حقول النفط هناك تحت التصرف الأمريكى.. وقبل سقوط نظام الأسد، ركزت قوات «قسد» تموضعها حول حقول النفط بمحافظتى دير الزور والحسكة، ومنطقة تدمُر التابعة لمحافظة حمص.. وكنتيجة لمهاجمة الفصائل الموالية لتركيا لذلك الفصيل الكردى المسلح، تستعين «قسد» بدعم الولايات المتحدة، للحفاظ على المناطق المسيطرة عليها شمال سوريا.. وحسب تقرير أعدته شبكة CNBC News، الأمريكية، فإن أهم الحقول التى تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، هى السويدية، رملان، العمر، بينما أبرز الحقول التى تسيطر عليها الحكومة الجديدة، التيم، الورد، الشولا، الشميطية.. وبشكل عام، تراجع إنتاج النفط السورى، من ثلاثمائة وثمانين ألف برميل قبل 2011، إلى أربعين ألف برميل يوميًا، بواقع خسائر فى القطاع بلغت ثلاثة وتسعين مليار دولار.. وقد سيطر تنظيم داعش، فى ذروته عام 2014، على معظم حقول النفط التى كانت تُدر ملايين الدولارات على التنظيم كل أسبوع، قبل أن تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
●●●
وبالعودة إلى السؤال، فإن أغلب المُعلقين الأمريكيين يتفقون على أن الإطاحة الدراماتيكية بالنظام السورى على أيدى قوات المعارضة، ستكون لها تداعيات عميقة، ليس فقط على سوريا، بل الخريطة الاستراتيجية للشرق الأوسط، وعلى مصالح أمريكا وحلفائها فى المنطقة.. وفى الوقت الذى أشار فيه المعلقون إلى تركيا، كونها أهم فائز جيو استراتيجى مباشر مما تشهده سوريا ـ حيث تتناولها الآراء فى دهاليز واشنطن، على أنها اللاعب الخارجى الأكثر نفوذًا داخل سوريا ـ بشّر بعض كبار أعضاء الكونجرس بأن سقوط نظام الأسد، ربما يدفع إلى مزيد من التوترات فى العلاقة المتوترة بالفعل بين واشنطن وأنقرة ـ وكم من مرة، وجدت الدولتان نفسيهما على خلاف فى سوريا ـ وأعرب بعض المُشرعين الأمريكيين عن مخاوفهم، بشأن احتمال توسيع نطاق الهجمات التركية على القوات الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة.. وتدرك واشنطن، أن دعم تركيا هيئة تحرير الشام ـ وهى الجماعة المصنفة من قبل الولايات المتحدة «إرهابية»، وأطاحت بنظام الأسد ـ يمكن أن يمنح أنقرة فرصة كبيرة لتوسيع نفوذها داخل سوريا.
وهذا ما يؤكده الخبير العسكرى فى المجلس الأطلسى، ريتش أوتزن، بقوله، إن «تركيا هى الدولة الوحيدة التى يبدو أن لديها استراتيجية رابحة لسوريا: معارضة الأسد أثناء التفاوض مع داعميه، واستضافة اللاجئين، ودعم المعارضة سياسيًا وعسكريًا، ومحاربة وحدات حماية الشعب التركية ـ فرع من جماعة حزب العمال الكردستانى المناهضة لتركيا ـ فى شمال سوريا».. وتتمتع أنقرة الآن بنفوذ اقتصادى ودبلوماسى وعسكرى لا مثيل له، باعتبارها الداعم الرئيسى لهيئة تحرير الشام، الجماعة التى قادت عملية الإطاحة بالأسد، وتركت التأثير الأكبر على المتمردين المنتصرين وجماعات المعارضة، وسيكون الانخراط مع أنقرة مفتاحًا فى الجهود الإقليمية والدولية لمساعدة السوريين على هندسة الانتقال، وفى عملية إعادة الإعمار.
ونظرًا إلى دعمها الطويل الأمد لقوى المعارضة، ترى تركيا نفسها فى وضع متميز فى سوريا الجديدة، لكن الوضع سيظل يُشكل تحديات لأنقرة.. فمع وجود حدود مشتركة طويلة مع سوريا، تبلغ تسعمائة كيلو مترًا،، وعدد كبير من اللاجئين السوريين، والانتشار العسكرى التركى فى أجزاء من شمال سوريا، ووجود وحدات حماية الشعب الكردية، لا تزال سوريا، بلا شك، واحدة من أهم القضايا بالنسبة لأنقرة.. وعلى عكس العديد من الجهات الإقليمية الأخرى الفاعلة، توجد تركيا على الأرض فى سوريا، بالآلاف من قواتها فى مناطق شمالية قريبة من المناطق التى سيطر عليها المتمردون لسنوات، وذلك يمنح أنقرة ميزة كبيرة فى فهم ما يحدث، حتى لو بدا أنها لم تتوقع أن يمضى استيلاء المتمردين على البلاد بهذه السرعة.. ومع أن رد الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان ـ الوحيد حتى الآن ـ على التطورات فى سوريا، إن «تركيا على الجانب الصحيح من التاريخ، كما كانت بالأمس»، لكن الوضع فى سوريا سيستمر فى تشكيل تحديات لتركيا، ولن يكون من السهل إدارة انتقال ناجح ومُنظم، فى بلد عانى لسنوات طويلة من الحرب، ولا تزال تركيا قلقة أيضًا بشأن كيفية استجابة وحدات حماية الشعب الكردية لهذه التطورات.
وقد اعتبر خبير شئون العلاقات الأمريكية ـ التركية فى مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن، ستيفن كوك، أن تركيا هى «الجارة الوحيدة التى يحتمل أن تستفيد من سقوط الأسد»، موضحًا أن أردوغان قطع طريقًا طويلًا فى سوريا، و«لدى أنقرة الآن فرصة لتشكيل النظام الذى سيخلُف نظام الأسد فى دمشق، وهو هدف قديم للحكومة التركية، منذ ابتعادها عن بشار الأسد عام 2011»، لكنه اعتبر أن «مشكلة تركيا فى سوريا، قد تكمُن فى عدم تعاون هيئة تحرير الشام معها»!!.. قد يكون هناك قدر معين من الرضا عن الذات فى أنقرة، من مسار التطورات فى سوريا ما بعد الأسد، لكن ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان أردوغان ومستشاروه مستعدين تمامًا للواقع الجديد فى سوريا.. وفى الوقت الذى تدرك فيه واشنطن احتمال تكرار الاشتباكات بين تركيا وفصائل سورية ـ من بينها المقاتلون الأكراد الذين تصفهم الحكومة التركية بـ «الإرهابيين» ـ طالب عدد من المُشرعين الأمريكيين بالعمل على تحجيم النفوذ التركى داخل سوريا فى مرحلة ما بعد الأسد.. إذ قال السيناتور الجمهورى، ماركواين مولين، إنه «لا يعتقد أن الولايات المتحدة لديها دور تلعبه، فى تقرير ما إذا كانت قوات المعارضة التى أطاحت بالأسد ستبقى فى السلطة»!!.. ومع ذلك، أقر مولين، بأنه من مصلحة الأمن القومى للولايات المتحدة، منع تركيا من القضاء على القوات الكردية، التى تحتجز أكثر من عشرة آلاف من مقاتلى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، فى مخيمات اللاجئين بجميع أنحاء البلاد، «هناك بعض المخاوف.. فالأكراد يحتجزون سجناء داعش، ونحن ندرك ذلك جيدًا، ونريدهم أن يستمروا فى الاحتفاظ بهم.. وأعتقد أنه يجب أن نكون قلقين بشأن ما ستفعله تركيا مع الأكراد، أكثر مما ستفعله بشأن النظام الجديد فى سوريا».
نفس المنطق يقول به السيناتور جيمس لانكفورد، «يجب أن ندافع عن الأكراد بصفتنا حلفاء لهم، ونحن بحاجة إلى إرسال بيان واضح جدًا إلى الأتراك، بأننا نقف مع الأكراد، ونؤمِن بفرصتهم فى الحصول على الحرية»، بل إن السيناتور الجمهورى، كيفن كرامر، ذهب إلى أبعد من هذا، فقال، إن «تورط تركيا فى سوريا غريب، وعلينا ألا نصمت إذا شنت تركيا حملة متصاعدة ضد الأكراد».. لكن يبدو أن تلك الحملة يمكن أن تكون بفهوم المتحدث الرسمى باسم مجلس الأمن القومى الأمريكى، جون كيربى، الذى قال «إن الأتراك لديهم حق مشروع لمكافحة الإرهاب، ولديهم أيضًا الحق فى التعامل معه، ولهم أيضًا الحق فى الدفاع عن مواطنيهم وأراضيهم ضد الهجمات الإرهابية».. لكن، «لدى الإدارة الأمريكية اهتمامًا بملاحقة تنظيم الدولة، وهذا يعنى الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية، وسيستمر ذلك.. وحيثما يتداخل هذان الهدفان أو يتعارضان، سنُجرى كما فعلنا ـ المحادثات المناسبة مع الأتراك، بشأن كيفية تحقيق هاتين النتيجتين معًا».
●●●
■■ وبعد..
ففى حين شدد وزير الخارجية التركى، هاكان فيدان، على أن هدف تركيا الاستراتيجى، هو إنهاء وجود وحدات حماية الشعب الكردية، قائلًا إنها أمام خيارين، إما أن تحل نفسها أو تواجه القضاء عليها بالقوة، «فالموقف التركى من التنظيمات الكردية فى سوريا قضية وجودية، تتعلق بالأمن القومى التركى».. فإن وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، أكد فى المقابل، أهمية الدور الذى تلعبه قوات سوريا الديمقراطية فى منع عودة تنظيم داعش، ووصف هذا الدور بأنه «حيوى» لاستقرار سوريا، بعد سنوات من الصراع مع التنظيم.. لذا، فإن تركيا لا تراهن على المحادثات الجارية مع الإدارة الأمريكية الحالية، كما يرى الباحث السياسى التركى، أحمد أوزجور، بل تنتظر تولى الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، مهام منصبه، إذ إن تصريحات ترامب السابقة، التى قال فيها إن «هذه ليست معركتنا فى سوريا»، فيها إشارة واضحة إلى أن واشنطن قد تتجه إلى تقليص دعمها للقوات الكردية.
وأوضح أوزجور، أن قوات سوريا الديمقراطية «قسد» باتت فى موقف ضعيف، مستدلًا على ذلك، بالاتفاق الذى أُبرم بين تركيا والولايات المتحدة، والذى ضمن انسحابًا آمنا لعناصر «قسد» من مدينة مِنبج شمال شرقى حلب، مؤكدًا أن «تركيا لن تضحى بأمنها القومى على حساب علاقاتها مع الولايات المتحدة، ولن تقبل ببقاء حزب العمال الكردستانى فى شمال سوريا كقوة دائمة».. وفى رأيه، فإن تركيا تمتلك أوراق ضغط قوية فى هذه المرحلة، لا سيما بعد سقوط النظام السورى، مما جعلها فى موقع أكبر الرابحين إقليميًا.. وقد تتمكن من التفاهم مع القيادة السورية الجديدة، لفرض كلمتها فى مواجهة القوى الأخرى.. ورجّح أن تتمكن تركيا من إقناع الولايات المتحدة بقدرتها على السيطرة على المنطقة، وعدم السماح بعودة تنظيم الدولة، مما يتيح لها تأمين حدودها والقضاء على «القوات الإرهابية» هناك.. وقد تلجأ تركيا إلى الخيار العسكرى، فى حال أصرت قوات «قسد» على البقاء فى المنطقة، ولم يستبعد أن تستعين تركيا بقوات هيئة تحرير الشام، لتنفيذ عملية عسكرية لتأمين مصالحها.. لذا ـ فى رأينا ـ فإن سوريا ستستمر لفترة طويلة، «كيان» يقبع فوق صفيح ساخن!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.