القاهرة ـ دمشق.. علاقة مرهونة بسلامة سوريا
منذ أن أدلى وزير الخارجية، التابع لسلطة الأمر الواقع فى سوريا، أسعد حسن الشيبانى، السبت 28 ديسمبر الماضى، بأول تصريحات علنية منذ توليه منصبه، بشأن علاقة بلاده مع مصر، بعد سقوط نظام الرئيس السابق، بشار الأسد، وقال فى منشور عبر حسابه الرسمى على منصة X، «نتطلع إلى بناء علاقات هامة واستراتيجية مع جمهورية مصر العربية، تحت احترام سيادة البلدين، وعدم التدخل فى شئونهما»، إلا وثارت موجة من التعليقات، بعضها مؤيد للتواصل المنشود مع سوريا، والآخر رافض للتعاون مع من ينتمون إلى جماعة إرهابية، قادتها ظروف المنطقة إلى تولى سلطة الحكم فى بلد مهم كسوريا.. وتساءل كثيرون: هل يعنى هذا أن مصر تراجعت عن موقفها، وقررت وضع يدها فى يد من ينتمون إلى الإرهاب، وهى الدولة التى ترفضه، بل وحاربته بشدة على أراضيها، وساعدت على مقاومته فى مناطق أخرى؟.. مع أن مصر لم تُرسل، حتى الآن، أى وفود رسمية لها للتواصل مع الإدارة السورية الجديدة، كما هرول غيرها من الدول الغربية والعربية!!.. بل إنها، وخلال الأسابيع الماضية، أجرى وزير الخارجية، بدر عبدالعاطى، اتصالات مكثفة لمناقشة الأوضاع فى سوريا، مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية.. وخلال هذه الاتصالات، دائمًا ما تؤكد مصر على دعم استقرار سوريا ووحدة وسلامة أراضيها، ورفض المساس بسيادتها أو تقسيمها.. دون أن يكون للقاهرة مكاسب تنظر إليها فى البلد الشقيق، ولا أطماع ـ كغيرها ـ فى الدولة التى ما أغلقت سفارتها بها، ولا أنزلت العلم المصرى من فوق صاريها، على مدى السنوات الحرب الداخلية بها.
تقف القاهرة مترقبة للتطورات، وهى التى تُعلن دعمها لوحدة سوريا ومطالبتها بإدارة مُنتخبة للبلاد، «تنتظر حتى ترى ما سيتمخض عنه المشهد فى سوريا، وما إذا كانت الإدارة الجديدة هناك ستلتزم بتصريحاتها الإيجابية نحو الالتزام بدولة القانون والدستور، وستقود البلاد لحكومة تُمثل الجميع؟، أم أنها فقط تكسب الوقت حتى تسيطر على المشهد وتبدأ فى ممارسة الإقصاء».. وبرغم ما قدمه دبلوماسيون وساسة من أسباب للموقف المصرى، إلا أن مراقبين يرون أنه ليس سهلًا على القاهرة، أن تتجاوز دعوة الشرع التحريضية للإخوان، لاستخدام القوة والعمل المُسلح فى وجه النظام المصرى، قبل أكثر من تسع سنوات.. ففى عام 2015، تناول الشرع الأوضاع فى مصر، حينما كان لقبه «أبومحمد الجولانى»، فى حوار مُطول على «قناة الجزيرة» القطرية، بصفته أميرًا لجبهة النصرة، التى كانت تتبع تنظيم القاعدة آنذاك، وقال «كنا نأمل من الإخوان المسلمين أن يأتى اليوم ويكتشفوا أن البرنامج الذى يسيرون عليه هو برنامج خاطئ، ويجب أن يعودوا إلى أصولهم الأولى ويحملوا سلاحهم، ويقاتلوا، مجاهدين فى سبيل الله، ويطردوا هؤلاء الحكام».. وربما يبرر هذا، رفض العديد من الوجوه الإعلامية المصرية الإدارة السورية الجديدة، وقائدها أحمد الشرع، الذى يتزعم هيئة تحرير الشام، المصُنفة كتنظيم إرهابى فى عدة دول غربية وكذا فى الولايات المتحدة الأمريكية.
إن مصر التى تدرك الأطماع فى الشرق الأوسط، ونبَّهت إليها مرارًا، والتى تعرف النهايات والمآلات لما يحدث الآن فى سوريا، لم تشأ أن تختبر نوايا سلطة الأمر الواقع فى سوريا، بل ـ من وجهة نظر خاصة ـ أن تفضح النوايا، وتجعلها علانية.. فقد أعلنت وزارة الخارجية المصرية، أن الوزير، بدر عبدالعاطى، اتصل هاتفيًا بنظيره السورى، أسعد الشيبانى، بعد أيام من تقديم الشيبانى إشادة بالقاهرة، والتطلع لاستعادة العلاقات معها، لكن وفق خبراء، فإن هذا «التقارب الحذر» سيكون مرهونًا بما ستقدمه الإدارة الجديدة، إزاء مخاوف مصرية عديدة أبرزها «الوضع الداخلى السورى وتداعياته على استقرار المنطقة».
ووفقا لبيان الخارجية المصرية، عبر منصة X، أكد عبدالعاطى على وقوف مصر بشكل كامل مع الشعب السورى الشقيق ودعم تطلعاته المشروعة، ودعا كافة الأطراف السورية فى هذه المرحلة الفاصلة، إلى إعلاء المصلحة الوطنية، ودعم الاستقرار فى سوريا والحفاظ على مؤسساتها الوطنية ومقدراتها ووحدة وسلامة أراضيها.. وأن مصر تأمل أن تتسم عملية الانتقال السياسى فى سوريا بالشمولية، وان تتم عبر ملكية وطنية سورية خالصة، دون إملاءات أو تدخلات خارجية، وبما يدعم وحدة واستقرار سوريا وشعبها بكل مكوناته وأطيافه، ويحافظ على هويتها العربية الأصيلة.. وشدد على أهمية أن تتبنى العملية السياسية مُقاربة شاملة وجامعة لكافة القوى الوطنية السورية، تعكس التنوع المجتمعى والدينى والطائفى والعرقى داخل البلاد، وأن تكون سوريا مصدر استقرار بالمنطقة، مع إفساح المجال للقوى السياسية الوطنية المختلفة، لأن يكون لها دور فى إدارة المرحلة الانتقالية، وإعادة بناء سوريا ومؤسساتها الوطنية، لكى تستعيد مكانتها الإقليمية والدولية التى تستحقها.. وتم الاتفاق فى نهاية الاتصال على استمرار التواصل خلال الفترة القادمة.. وهو ما عقب عليه الشيبانى، عبر X أيضًا بقوله، «سعدت باتصال وزير الخارجية المصرى، بدر عبدالعاطى، الذى أكد فيه على أهمية دور البلدين فى تحقيق الاستقرار والازدهار للمنطقة، وأن مصر وسوريا يجمعهما تاريخ واحد ومستقبل واعد بإذن الله».
وكما يُلاحظ، فإن بيان الاتصال الهاتفى تحدث عن عموميات خاصة باستقرار المنطقة، والماضى المشترك، والنظر لمستقبل مشترك، دون حديث عن تعاون فى الوقت الحاضر، وفق تقدير محمد العرابى، وزير الخارجية الأسبق، «لكن هذا يتوقف على معرفة ماذا ستكون عليه سوريا فى الفترة المقبلة».. هذا الموقف المصرى الجديد، وسط تلك المخاوف، لا يحتاج لأن «نعتبره اعترافًا، خصوصًا أن هذه حكومة أمر واقع موجودة فى دمشق، ولدى مصر سفارة هناك.. وبالتالى، الأمر طبيعى فى ظل اتصالات العالم بالقيادة السورية الجديدة.. الأمر حسب القانون الدولى مرتبط بوجود نظام يتم التعامل معه ولا يحتاج لأى تضخيم.. فمصر لها محددات فى التعامل مع هذا النظام، وكل دولة فى المنطقة تتعامل بمحدداتها، وسوريا دولة مهمة لمصر، ولا ترغب مصر فى أن يُترك الشعب السورى فريسة لعزلة أو سيطرة طرف.. التحرك المصرى طبيعى وقائم على فهم حقيقة الوضع هناك، ولا يحمل بالضرورة دلائل على انسجام كامل بين الطرفين».
وإذا كان الشيبانى قد أبدى قبل أيام، عبر منشور على X، تعبيرًا عن موقف قيادته، «التطلع إلى بناء علاقات مهمة واستراتيجية مع مصر، تحت احترام سيادة البلدين وعدم التدخل فى شئونهما»، فيجب أن تُترجم الأقوال لأفعال،.. فالخطوة المقبلة من الجانب السورى، إما تبنى أو تهدم ما أقدمت عليه القاهرة من خطوة إيجابية.. وليس بالضرورة أن نرى وفدًا مصريًا يزور دمشق.. فالقاهرة يهمها أن تسير أمور سوريا فى اتجاه مساعدة الشعب السورى، وتوفير سبل الحياة له ومعالجة مخاوفها.. ففى كل ما طرحه بيان الخارجية المصرية، على لسان الوزير بدر عبد العاطى، لم يتناول شأنًا مصريا، بل كان همه هو الشعب السورى ومستقبل الدولة السورية بكل أطيافها، ليبقى مستقبل التقارب المصرى السورى، «رهن سلوك الإدارة الجديدة، التى من الحكمة أن تُبدد مخاوف مصر، وتُشجع عملية الانتقال السياسى، وأن يُمثَّل جميع السوريين فى رسم المستقبل دون إقصاء لأحد»، وسترتبط زيارة وفد مصرى لدمشق بتطورات الموقف فى سوريا، وهو قرار سيادى وسياسى من مصر، ودون ضغوط من أحد، وهى التى تراقب الأوضاع فى دمشق وتتطلع لأن تكون أفضل لتعزيز العلاقات التاريخية مع سوريا.
●●●
فى حديث مع BBC، يرى المساعد السابق لوزير الخارجية، حسين هريدى، اجتماعات العقبة الأخيرة بالأردن التى شاركت فيها مصر، أنها أكدت على عدة مبادئ تحكم تعامل المجتمع الدولى مع سوريا، أهمها أن الوضع الحالى فى سوريا «وضع مؤقت، ولا يجب التعامل مع أى اتفاقات أو قرارات تنتج عنه على أنها دائمة، وهذا هو موقف مصر الذى تلتزم به».. وأن تعامل بعض القوى الكبرى وبعض الدول مع الإدارة الجديدة فى سوريا، وبناء علاقات معها كما لو كانت إدارة دائمة، لن يفرض على مصر أى ضغوط أو أمرًا واقعًا، لأن «رؤية مصر هى الأصوب».. وقال الرجل، الذى عمل فى أروقة الدبلوماسية المصرية حتى عام 2009، إن «هذه جماعة إرهابية وهذا زعيم إرهابى، ولا نستطيع أن نتعامل معه، والتعامل معه يعنى قبول مصر لمبدأ التعامل مع إرهابيين، يفرضهم الغرب كرؤساء أو زعماء سياسيين حسب مصالحه».. لقد ألغت الولايات المتحدة الأمريكية مكافأة بنحو عشرة ملايين دولار، لكل من يدلى بمعلومات عن الجولانى، عقب لقاء مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، باربرا ليف، معه على رأس وفد دبلوماسى زار دمشق والتقى الشرع فى قصر الحكم.. هذا القرار تم اتخاذه فى سياق سياسى جديد، يعكس تغير الأولويات الأمريكية فى سوريا، التى تريد المحافظة على غنيمتها من التفظ والغاز فى الشمال الشرقى السورى، بالاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية المناوئة لتركيا!!.. ويستبعد هريدى أن تقاطع مصر سوريا كدولة، إن «مصر تعترف بالدول لا بالأنظمة والرؤساء، ومن الممكن أن تظل السفارات بين البلدين على مستوى القائم بالأعمال، لتسيير مصالح الناس فقط».
إن مصر كما هو ثابت، تتعامل مع المواقف لا مع الأقوال، فإذا كان الجولانى، أو أحمد الشرع حاليًا، قد قال بأن تنظيمه الإرهابى كان شيئًا من أعمال الماضى، وأنه انتقل من مرحلة ما سماها «الثورة» إلى مرحلة «الدولة»، فإن عليه البرهنة على ذلك.. وأعلم أن القاهرة أعدت مسبقًا قائمة بأسماء مصريين ينخرطون ضمن الجماعات الإرهابية فى سوريا، سبق وأن صدرت ضدهم أحكام، فى أعمال عنف ارتكبوها فى مصر، فهل يستجيب لها الشرع؟.
بعد أيام من تولى أحمد الشرع قيادة الحكم فى سوريا، انتشرت له على مواقع التواصل الاجتماعى صورة تجمعه مع المصرى محمود فتحى، المطلوب أمنيًا، وياسين أقطاى مستشار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان.. هذه الصورة أثارت جدلًا كبيرًا، خصوصًا وأن فتحى، الذى حصل على الجنسية التركية لاحقًا، مُدرَج على قائمة الكيانات الإرهابية التى أصدرتها مصر مؤخرًا، ومُدان فى عدة قضايا تتعلق بأنشطة إرهابية، ومحكوم عليه بالإعدام غيابيًا فى قضية مقتل النائب العام، هشام بركات، وبحسب القائمة، فإن نشاطه «الإرهابى» ضد مصر مازال مستمرًا من الخارج حتى الوقت الحالى.. وقد اُعتبرت الصورة «عدائية» لدى الكثير من المصريين، حيث قال البرلمانى والكاتب الصحفى، مصطفى بكرى، إن «النظام الجديد فى سوريا أظهر لغة عدائية ضد مصر، باستقباله فتحى، أحد قتلة النائب العام السابق هشام بركات.. هذا الاستقبال أثار قلق كل المصريين».. كما أشار بكرى، إلى أن هناك أمر مقلق آخر، متعلق بالإدارة السورية الجديدة، وهو «الأعداد الكبيرة من المصريين الموجودين ضمن عناصر هيئة تحرير الشام، وكان لهم دورهم بالتأكيد مع التنظيمات الإرهابية، ومصر وضعت أسماء الكثيرين منهم على قوائم ترقب الوصول».
صحيح، لا يوجد إحصاء عن عدد المصريين الذين انخرطوا فى القتال فى سوريا، لكن خلال الأعوام ظهر العديد من الأشخاص المطلوبين أمنيًا لدى الحكومة المصرية، أو التابعين لجماعات تُصنفها مصر إرهابية، وقد أشاعت جماعة الإخوان أن هؤلاء «مختفون قصريًا فى مصر»، قبل أن يظهروا خلال معارك جبهة النصرة فى سوريا قبل سنوات، والتى انبثقت عنها لاحقًا هيئة تحرير الشام.. وإذا كانت مصر صاحبة المواقفها الثابتة، التى تنطلق من قرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية فيما يتعلق بالإرهاب، فإن «القاهرة، ومنذ البداية، أكدت وتؤكد أنها مع الدولة السورية والشعب السورى.. وبالتأكيد فالقاهرة لديها المعلومات الكافية التى تجعلها تتخذ القرار المناسب فى اللحظة المناسبة».
●●●
■■ وبعد..
فإن كل الذين هرولوا إلى دمشق، دفعتهم حسابات المصالح فى أرضى سوريا ومقدراتها، إلا مصر، فإن موقفها «المتأنى» من الإدارة الجديدة فى سوريا، يعكس رغبة فى التعامل مع حكومة مُعترف بها دوليًا.. وإذا كانت أى إدارة فى سوريا لا يمكن أن تتجاهل القاهرة، بثقلها ودورها الإقليمى والتاريخى، إلا أن ما فهمناه من بيان الخارجية المصرية، هو أن القاهرة تتأنى فى كيفية التعاطى مع الموقف، وتتخذ موقفًا يتسم بالحياد الإيجابى، لأن مصر ترغب فى التعامل مع حكومة مُعترف بها دوليًا وأمميًا وعربيًا، وتمثل كل الشعب السورى وليست حكومة وقتية فرضتها الظروف».. فكما قلنا، ليس لمصر من حاجة فى سوريا، إلا ما يتعلق بمصالح الشعب السورى، أو كما أكد رئيس مجلس النواب، المستشار حنفى جبالى، رفضه للتدخلات الأجنبية الإقليمية أو الدولية فى الشأن السورى، «سواء عبر فرض مناطق نفوذ على الأراضى السورية، أو التدخل فى الشأن السورى الداخلى، أو عبر محاولات تغيير الواقع الجغرافى أو الديموجرافى، أو بإذكاء النعرات المذهبية والعرقية، أو بنشر التوجهات الإقصائية».. فالعلاقة التاريخية بين مصر وسوريا تجعل من أمن واستقرار سوريا أمرًا حيويًا لمصر، ومرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بأمنها القومى والعربى.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.