نجيب والخروج إلى المستقبل
فى ١١ ديسمبر من كل عام يطل الأستاذ نجيب محفوظ من جديد، ليس فقط لأنه اليوم الذى ولد فيه سنة ١٩١١، لكن لأن المتربصين به وبإبداعه يخرجون من جحورهم، وهم أكثر من فصيل، الأول لا يستحق الرد؛ لأنه مجرد من الخيال ولا توجد أرضية للحوار معه، وهو الفصيل الذى حاول اغتياله وهو على قيد الحياة، ويحاول اغتياله كل عام رغم رحيل الرجل الكبير فى ٢٠٠٦. الفصيل الثانى أيضًا لا يختلف كثيرًا، لأن المنتمين له لم يبذلوا جهدًا فى الإحاطة بمنجز الأستاذ، وهؤلاء من المراهقين الذين يحاولون أن يقنعوا أنفسهم والمحيطين بهم بأنهم كبروا، أما الذين يتحدثون عن عدم حبهم أو عدم تأثرهم بإبداعه والحديث عن مواقفه السياسية، فهؤلاء ممكن الحديث معهم، ويطيب لى بين الحين والآخر تكرار مرافعاتى عن الأدب المحفوظى، هم يقولون إنه يكتب عن زمن لم يعد موجودًا وبأسلوب قديم، هؤلاء يعرفون أن بلزاك وستندال ومارسيل بروست وتشارلز ديكنز وجيمس جويس ودوستويفسكى ما زالوا حاضرين ومؤثرين فى ثقافات العالم، آلان روب جرييه المجدد الكبير أعلن أكثر من مرة أن أستاذه الأول فى الرواية هو فلوبير. نجيب محفوظ جديد دائمًا لأنه كلاسيكى، فمن يطوله، من يطول جيمس جويس وبروست وكافكا. ثم تعال إلى أعمال محفوظ بعد الثلاثية، هل قرأت «حديث الصباح والمساء» و«ألف ليلة وليلة»؟، وماذا عن «المرايا» و«قلب الليل»؟، وماذا عن «الحرافيش» التى تعد من أعظم ما كتب فى فن الرواية؟ أدبه ضد الاستبداد وضد التمسح بالدين وضد الاستعمار، موقفه الطليعى عبّر عنه فى أعماله، لقد نجح فى ابتكار مداخل جديدة للحكى تجمع بين الحداثة والتراث دون افتعال، فى «أفراح القبة» أنت أمام رواية بطلها نص مسرحى، تحاورت فيه الفنون والتقنيات، محفوظ أرّخ بأدبه للروح المصریة الناهضة بعد ثورة ١٩١٩، الروح القادمة من أقدم وأول الحضارات، ومع ذلك استعمرتها كل الحركات التوسعية.
فى بداياته كان يحاول الإجابة عن سؤال الهوية مثل معظم رموز جيله، وبعدما نجحت ثورة ١٩١٩ فى بلورة روح جماعية تتحدث عن مصر أخرى ناهضة، كتب «عبث الأقدار» و«رادوبیس» و«كفاح طیبة»، وبعدها اتجه إلى التقاط الوعى بقاع المجتمع المعاصر، لیجد الماضى قد ترسب فى الذاكرة الجماعیة، یتحكم فى تقالیدنا وعاداتنا تارة، ویقاوم القوى التى تسعى لمحو الهویة الثقافیة للمصرى كالانفتاح على الغرب بتقلیده لا بمجابهته، وفى هذه الذاكرة رواسب معاییر سلوكیة لم یعمل الوعى الفردى على امتصاصها وتخطیها، وأما التربیة العاطفیة إذا اختفت تظهر أنماط سلوك هروبیة تارة، عدوانیة تارة أخرى. فى الثلاثیة مثلًا نجد أبناء سى السید أحمد عبدالجواد یمثلون هذه التناقضات، لكن مهما تختلف أنماط السلوك، فالكل یمثل الخطوة الأولى نحو الخروج من المنطقة الضیقة التى أغلقها التاریخ حولنا، الدائرة الضیقة التى وضع محفوظ عینیه علیها وراقبها من بدایة سلمها فى عناصر الحارة والزقاق وفى الطرز المعماریة المملوكیة والتركیة فى خان الخلیلى، ومنها إلى العالم الخارجى المعاصر. فى «زقاق المدق» نجد الخروج للعدوان على الخارج بالفشل والسلب أو استدرار عطفهم بأداء تمثیلى یبدأ بصنع العاهات، وهو خروج لمحو الوعى بما یحدث خارج الدائرة الضیقة وجذب الخارج إلى الداخل: إلى الكهف الذى لا تمر أمامه حركة التاریخ، إلا أنه من هذه الدائرة سوف یخرج قادة المستقبل «كما يرى د. صبحى شفيق»، أى طریق یسلكونه؟ أكثرهم یجمد فى التطابق مع النظام السائد، النظام المجمد لحركة التاریخ، والتطابق هو السعى لإیجاد مكان فى عجلة السلطة الروتینیة داخل أجهزة الدولة، فهى الضمان لاستقرار اقتصادى، استطاع الأستاذ خلال مسیرته أن يبتكر أشكالًا تتناسب مع عمارة كل زمان، ففى مرحلة ما بعد الثلاثیة الفرعونیة سنجد بذخ التفاصیل والمنمنمات التى تغنى العین قبل الوصول إلى الروح. فى الخمسینیات دخل فى الموضوع مباشرة؛ لأن العین أصبحت خبیرة بعد أن تسللت الصورة فى أشكال أخرى، فى كل عمل كان یقدم شكلًا مصریًا جدیدًا، لدرجة أن الكاتب الموهوب الراحل یحیى الطاهر عبدالله عندما صدرت مجموعة «تحت المظلة» اتهم محفوظ بأنه سرق كتابة جیل الستینیات كلها- وهى التى كانت تسعى للتحرر من أسر الماضى وبلاغته- ولكن محفوظ لم ینتمِ إلى الماضى بالمعنى المعروف «دقة قدیمة»، لكنه كان معماریًا من طراز فرید، استوعب كل المدارس من أجل التأسیس لأشكال مستقرة قادرة على الاستيعاب وتضلیل الشمس لكى تملأ الروح بدفء غزیر یدفع شخوصه إلى الخروج إلى المستقبل.