المفاوض المثالى.. كيف يخوض صلاح «معركة التجديد» مع ليفربول؟
«صمت دهرًا ونطق نارًا».. هكذا يمكن وصف تصريحات محمد صلاح، قائد منتخبنا الوطنى، بشأن عقده الجديد مع فريق ليفربول الإنجليزى، التى قال فيها إنه لم يتلقَ عرضًا من إدارة النادى لتمديد تعاقده حتى الآن.
تصريحات «صلاح» لم تكن بلا هدفٍ أو فى الخواء، لكنها تمثل رصاصة تعرف مقصدها، لعبة من ألعاب التفاوض، التى يجيدها وكيله ومحاميه رامى عباس.
والتفاوض فن، كما عرّفه الكاتب الكندى كيفن كين، فى كتابه «المفاوض المثالى»، مشيرًا إلى أنه «العملية التى نحاول من خلالها الوصول إلى أسس وشروط تتعلق بما نريد أن نحصل عليه من الآخرين، وما يحصلون عليه منا».
وأكد «كين» أن هناك ٤ مراحل لعملية التفاوض، هى الإعداد والتحاور والعرض والمساومة. ومن بين أساليبها وتكتيكاتها الاستخدام الصحيح للكلمات، أن تعرف متى تصمت ومتى تتحدث، وبطبيعة الحال، بماذا تنطق؟ وكيف تصل كلماتك إلى مقصدها مباشرة؟.. فكيف طبّق محمد صلاح ووكيله هذه الأساليب مع إدارة ليفربول الإنجليزى؟
وظّف نظرية «طلب المستحيل للحصول على الممكن» لتنفيذ كل طلباته
المرة الأولى التى استخدم فيها محمد صلاح الحرب «الكلامية» مع إدارة ليفربول كانت أيضًا فى مسألة تمديد عقده، وقت مفاوضات التجديد الأول لعقده فى ٢٠٢١، والتى استمرت لمدة عام كامل.
فى هذه الفترة كان الخلاف بين «صلاح» وليفربول على عدد من النقاط الجوهرية، أهمها راتبه الأسبوعى، الذى كان «مو» يرغب فى رفعه إلى نصف مليون جنيه إسترلينى، وهو ما رفضته إدارة النادى فى البداية، للحفاظ على الهيكل العام للأجور، وعدم الضغط على القواعد المالية للفريق. كما رغب «صلاح» فى الحصول على عقد مدته ٤ سنوات على الأقل، بالإضافة إلى رفع مكافآت التسجيل والفوز بالبطولات.
وقتها خرج «صلاح» فى مقابلة تليفزيونية مع قناة «سكاى سبورتس»، فى نوفمبر ٢٠٢١، وألمح إلى أمور التفاوض بينه وبين «الريدز» قائلًا: «أريد البقاء فى ليفربول، لكن لا أستطيع أن أخبركم الآن بما سيحدث. كل ما أستطيع قوله هو أننى أحب النادى وأحب جماهيره. سأكون سعيدًا للغاية إذا تمكنت من الاستمرار هنا، لكن الأمر يعتمد على التفاوض». ورفض «مو» الحديث عن الأمور المالية آنذاك، مؤكدًا رغبته فى البقاء مع ليفربول.
ولم تكن هذه المرة الأخيرة للضغط على إدارة ليفربول، فقد خرج «صلاح» مجددًا لفعل ذلك، فى يناير ٢٠٢٢، عندما قال وقتها: «أرغب فى الاستمرار، المفاوضات لا تزال جارية، ويجب أن يتفق الطرفان لكى أستمر مع النادى».
وفى كل مرة، تشعل تصريحات محمد صلاح حماسة جماهير ليفربول وأساطيره القدامى، الذين طالبوا إدارة النادى بتلبية شروط اللاعب المصرى، والوصول إلى حل مناسب معه بشأن عقده الجديد آنذاك.
ما حدث فى هذه الفترة كان تطبيقًا عمليًا من «صلاح» ووكيله رامى عباس لفنون التفاوض، إذ بدآ بالإعداد الجيد للتفاوض، ثم انتقلا إلى مرحلة الحوار الأولى والجلسات مع نادى ليفربول، وصولًا إلى مرحلة العرض وتقديم طلباتهما من أجل الموافقة على العقد الجديد مع «الريدز».
استخدم «مو» ووكيله نظرية أخرى من نظريات التفاوض، هى «طلب المستحيل من أجل الحصول على الممكن». ففى حقيقة الأمر لم يكن «صلاح» راغبًا فى الحصول على عقد يمتد لـ٥ سنوات. لكنه طلب هذا الرقم من أجل الوصول إلى حل وسط، والتوقيع على عقد لمدة ٣ سنوات.
كما حصل على ٣٥٠ ألف جنيه إسترلينى كراتب أسبوعى، مع وصول هذا الرقم إلى ٤٠٠ ألف جنيه بالمكافآت والمتغيرات، وهو رقم غير بعيد عما طلبه نجمنا المصرى، ليحصل بذلك على كل ما أراده.
وشواهد قوة شخصية محمد صلاح فى فنون التفاوض واتخاذ القرارات الحاسمة لم تبدأ فى وقت تجديد تعاقده مع «الريدز»، بل بدأها برفض الاستمرار على دكة تشيلسى، وأخذ خطوة إلى الخلف بالإعارة إلى فيورنتينا الإيطالى، بهدف إعادة لملمة أوراقه واستعادة قواه، ثم العودة مرة أخرى إلى الدورى الإنجليزى بعد سنوات قليلة، فى أعقاب تألق لافت ومبهر فى الدورى الإيطالى. ثم كررها بعد موسمه الأول فى ليفربول، من خلال رفضه الانتقال إلى ريال مدريد.. وهل يوجد عاقل يرفض عرضًا من ريال مدريد؟ نعم محمد صلاح.
لعب بورقة السعودية وألقى الكرة فى ملعب «الريدز»
خلال فترة مفاوضات التجديد الأول، كانت أندية الدورى السعودى بدأت إظهار اهتمامها بالتعاقد مع لاعبين عالميين، ضمن مشروع ترويج استضافة المملكة لكأس العالم، فبدأت مفاوضات لضم «صلاح» و«مبابى» وغيرهما من النجوم العالميين. أيضًا فى هذه الفترة كان باريس سان جيرمان أحد المهتمين بضم «صلاح».
لكن النجم المصرى فضّل الجلوس على طاولة المفاوضات مع ليفربول، واتباع سياسة «النفس الطويل»، وهو ما ساعده على الوصول إلى ما أراده فى النهاية، مع وصول كل الأطراف إلى موقف الكل فيه منتصر، فالمفاوضات ليست لعبة صفرية، ولا يوجد بها فائز وخاسر. ووفقًا لعلماء النفس، التفاوض الفعال هو ما يضمن إيجاد حلول مشتركة تأخذ فى الاعتبار مصلحة الطرفين، مع تقديم بعض التنازلات من كليهما.
وتكرر الاهتمام السعودى بضم محمد صلاح فى الانتقالات الصيفية لـ٢٠٢٣، لتبدأ مرحلة أخرى من المفاوضات الذكية لـ«مو». لكنه تعرض فى تلك المرحلة إلى ضغط من طرفين، أولهما ليفربول الذى سرب معلومات العرض السعودى، والثانى اتحاد جدة الذى استعمل أدواته الإعلامية والتركيز الإعلامى على الدورى السعودى، لتبدأ الأحاديث عن موافقة «مو» على الانتقال إلى صفوف الاتحاد. وعلى الرغم من كون «صلاح» وقتها ملتزمًا بعقد مع ليفربول، لم يمر منه سوى موسم واحد فقط، كانت إدارة النادى الإنجليزى تشعر بالخطر من العرض السعودى المغرى، الذى وصل إلى ١٥٠ مليون يورو، وكان سيحصل «صلاح» بموجبه على راتب سنوى يصل إلى ٤٠ مليون يورو سنويًا. شعرت إدارة «الريدز» بالقلق من احتمالية ضغط «صلاح» للرحيل، فى ظل هذا العرض المغرى، لكنها رفضت العرض، خاصة أنه فى ذلك التوقيت كانت سوق الانتقالات الأوروبية قد أُغلقت بالفعل، ولم تُغلق فى السعودية.
استطاع محمد صلاح أن يكون الطرف الأذكى فى مفاوضات ليفربول واتحاد جدة لضمه، بوضع الكرة فى ملعب إدارة النادى، ومنحها حرية تحديد الموقف النهائى، سواء الموافقة على العرض أو رفضه.
تمثل الذكاء هنا فى التضحية بعرض اتحاد جدة مقابل الاحتفاظ بالقيمة التى وصل لها لدى جماهير ليفربول، على مدار سنواته فى النادى، بالإضافة إلى استخدامه قوة ذلك العرض، الذى كان مضمونًا تكراره بعد عام واحد من توقيت رفض إدارة «الريدز» له، كورقة ضغط على النادى لتمديد العقد بشروطه الخاصة.
اختار التوقيت الصحيح لإطلاق «تصريحات الضغط»
مع اقترابه من انتصاف الموسم الأخير فى عقده مع ليفربول، بدأت جماهير ليفربول فى مطالبة إدارة النادى بتمديد عقد «مو» وتلبية طلباته، فى ظل انفجاره التهديفى، وتصدره ترتيب هدافى الفريق، ما أسهم فى ارتقاء «الريدز» إلى صدارة ترتيب الدورى ودورى الأبطال.
هذه هى المرحلة الأولى من عملية التفاوض التى تسمى بالإعداد، وبها جهز «صلاح» جماهير ليفربول وإدارة النادى للمرحلة الثانية، وهى الحوار، والتى بدأت بالفعل بجلسات الغرف المغلقة بين رامى عباس ومسئولى ليفربول. دخل الطرفان بعدها المرحلة الثالثة من مراحل التفاوض على طريقة الكاتب كيفن كين، وهى مرحلة العرض، فألقى كلاهما بعرضه الخاص لتجديد العقد. طلب محمد صلاح الحصول على عقد مدته ٣ مواسم، أو موسمين مع خيار إضافة موسم بالاتفاق بين الطرفين، وهو ما ترفضه إدارة ليفربول بسبب وصول «مو» إلى عمر الـ٣٢، وهو ما يعنى أن عقده المقبل قد يكون الأخير مع «الريدز». وبالنسبة للمطالب المادية، طلب محمد صلاح رفع راتبه إلى ٣٧٥ ألف جنيه إسترلينى، فى ظل الأداء المميز الذى يقدمه مع الفريق منذ انطلاق الموسم الجارى.
لكن إدارة ليفربول لم تقدم عرضًا لتمديد عقد «صلاح» حتى الآن، وهو ما أرجعه جيمى كاريجير، أسطورة «الريدز»، إلى أن أن إدارة ليفربول تعرف أن «صلاح» لن يوافق على عرضهم، وهو ما يعنى ابتعاد العرض عن طلبات اللاعب. بمجرد الوصول إلى هذه المرحلة، دخل «مو» المرحلة الرابعة من مراحل التفاوض، وهى المساومة. بشعوره أن إدارة «الريدز» لا تراه ضمن خططها المستقبلية، انتظر اللحظة المناسبة، وبعد أن سجل هدفه الـ٣٠٠، وأنقذ ليفربول من الخسارة أمام ساوثهامبتون، أطلق تصريحات نارية، ألمح خلالها إلى أنه لم يقترب من موعد اعتزاله بعد. التصريح حمل إشارة مخفية لإدارة «الريدز» بأنه ما زال قادرًا على اللعب لموسمين آخرين. حتى إن احتفال «صلاح» بهدفه الثانى حمل إشارة أخرى بخلعه القميص وإظهار ملامح بنيانه الجسدى للجماهير، كنوع من التلميح غير المباشر إلى قدرته البدنية.
كما أن تصريحات محمد صلاح الأخيرة حملت مداعبة عاطفية لمشاعر جماهير ليفربول، بعد أن أكد رغبته فى البقاء مع النادى. لكن مسألة البقاء من عدمه ليست قراره ولا قرار الجماهير، مشيرًا إلى أنه لم يتلق عرضًا من الإدارة حتى الآن. ودفعت تصريحات «صلاح» جماهير ليفربول للهجوم على إدارة النادى، ووصل الأمر للتهديد بأعمال شغب حال رحيله، وهو ما دفع إدارة ليفربول إلى محاولة تحسين صورتها بالحديث إعلاميًا عن وجود مفاوضات بينها وبين وكيل أعمال «صلاح» فى الوقت الحالى لتمديد عقد اللاعب، كنوع من تهدئة الجماهير الغاضبة.
لم يقدم ليفربول عرضًا بالفعل لـ«صلاح»، لأن العرض يأتى فى مرحلة تالية، بعد المفاوضات بين الطرفين، والتوصل إلى اتفاق بشأن الأهداف المستقبلية لكليهما. لكن «صلاح» نجح فى استخدام كل ما يحدث فى ملف مستقبله مع ليفربول.
محمد صلاح خلال فترة تفاوضه مع إدارة ليفربول استخدم العديد من عوامل فنون التفاوض، وأبرزها الذكاء العاطفى، وفهمه مشاعر جماهير ليفربول. كما استطاع التحكم فى ردود فعله فى العديد من المواقف، خاصة الفترة التى صمت خلالها ورفض التعليق على أنباء رحيله. ونجح «صلاح» فى كسب تعاطف الجماهير، بعد أن فهم دوافعهم واحتياجاتهم، ولماذا يريدون استمرار «الريدز» فى تحقيق البطولات، التى عادت للفريق بعد سنوات عِجاف. وكونه النجم الأبرز فى الفريق يجعله العامل الأهم فى هذه البطولات.
حرّك كل ذلك دوافع ومشاعر جماهير «الريدز» ضد إدارة النادى، وطالبوها بتجديد عقد «صلاح» فى أكثر من مناسبة، كان آخرها بعد تصريحاته الأخيرة، ليصبح «مو» الرجل الأقوى فى مدينة ليفربول حاليًا.